من مجازر 08 ماي 1945 إلى متحف جماجم الشهداء بفرنسا: تاريخ من السَّادِيَّةِ والافتخار بالجرم!

د. حرزالله محمد لخضر
إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، قام المحتل الفرنسي بتجنيد الشباب الجزائري وإقحامهم قسرا في الحرب دفاعا عن فرنسا، واعدا الجزائريين بالحرية والاستقلال إذا انتصر على ألمانيا النازية، ولما تحقق له ما أراد، طفق يتماطل في إنجاز وعده، فخرج الجزائريون في مظاهرات عارمة لمطالبة فرنسا بالوفاء بعهودها في منحهم الاستقلال، فقابلتهم بالإبادة الجماعية والتنكيل والاعتقال والنفي إلى محتشدات الصحراء وخارج البلاد كجزيرة كاليدونيا، وأوقعت فيهم ذبحا وتقتيلا، فكانت مجازر08 ماي 1945 التي راح ضحيتها أكثر من45 ألف شهيد بمدينة سطيف وخراطة وقالمة وغيرها، في حين يرى بعض المؤرخين أن العدد أكثر من هذا بكثير، فقد بلغ عدد الضحايا بمدينة قالمة لوحدها زهاء29 ألف شهيد.
وقد شارك في هذه المجزرة المروعة أكثر من150 طائرة حربية فرنسية وأجنبية، في عمليةِ قصفٍ دامت أكثر من شهر ونصف وبمعدل300 غارة في اليوم، دُمِّرت خلالها44 قرية خصوصا المتواجدة في ضواحي جيجل وبجاية وسطيف وخراطة وقالمة، كما شاركت العديد من السفن الحربية في عملية القصف من موانئ بجاية وسكيكدة لضرب المناطق المتاخمة لهذه السواحل واستغرق قصفها من09 ماي إلى غاية نهاية الشهر. ليتأكد الشعب الجزائري بعد كل هاته التجارب والمهادنات أنه لن يجني منها سوى المزيد من الاستعباد وخسارة الأرض والزمان والإنسان.
لقد كان الثامن ماي1945 محطة مفصلية في مسيرة نضال الشعب الجزائري، أعادت ترتيب بوصلة الأولويات وتعميق الوعي في وجدان الشعب بضرورة التحول من سياسة المسالمة إلى منطق المغالبة مع المحتل الغاشم، الذي ما فتئ ينكث العهد تلو العهد، ويستدرج الشعب نحو متاهة الاستسلام والانحلال والرضوخ، فكانت صدمة الثامن ماي بمثابة وخزة في ضمير الشعب ليستفيق من وَهْمِ أطروحات الاندماج والعمل السياسي السلمي تحت مظلة “الجزائر فرنسية”.
وما هي إلا أشهر معدودات حتى بدأ التخطيط للثورة المباركة، وحشد الجهود الشعبية ورسم الاستراتيجيات العسكرية لبداية العمل العسكري المخطط والشامل، مستفيدا من تجارب المقاومة الشعبية والنضال السياسي، ومن الظروف الجيوسياسية والسياقات الإقليمية وتصاعد موجات التحرر في العالم، فما لبث الشعب حتى أعلن ثورته المباركة بعد09سنين من مجازر الثامن ماي، مع أولى نفحات يوم الفاتح من نوفمبر عام 1954.
ورغم التاريخ الإجرامي لفرنسا فهي تستنكف إلى اليوم عن الاعتذار عنه، وفضلا عن جرائمها العابرة لعوالم البشاعة والفظاعة، يعتقد الكثير من المنهزمين أنها منبع الحضارة والإلهام الحداثي وفيض القيم الإنسانية الخالدة؟
ففي موقف نادر ينم عن سلوك سَادِيٍّ مقيت، ونفسية كولونيالية مستعلية، راحت فرنسا تجمع رفاة الشهداء “بمتحف” سُمِّي زورا بـ”متحف الإنسان”!…ذلك الإنسان الذي زعمت فرنسا أنها جاءت لتُمدِّنه، وتبشره بجنات تجري من تحتها أنهار الديمقراطية والحرية والمساواة؟ والتي لم تكن سوى أنهارا من الدماء والأشلاء!!
تم إنشاء المتحف عام1937 من قبل بول ريفيه وهو عالم متخصص في الأنتروبولوجيا، جمع فيه جماجم قادة المقاومة الجزائرية التي كانت موجودة في قصور الملوك والقادة الفرنسيين التي كانوا يضعونها كتُحفٍ يفاخرون بها، منها قصر الإمبراطور نابليون الثالث، الذي شيده بالأموال التي نهبها الجيش الفرنسي من الجزائر، ووضع فيه رؤوس الثوار الذين حاربوا مع الأمير عبد القادر كزينة عند مدخل القصر!
ويضم هذا المتحف حوالي 18ألف جمجمة للمقاومين الذين ذبحتهم فرنسا في مستعمراتها، منها قرابة 500 جمجمة لثوار وقادة المقاومة الجزائرية، أبرزهم مجاهدو معركة الزعاطشة بولاية بسكرة الذين قطعت فرنسا رؤوسهم وعلقتها على مداخل المدينة كي تخيف الأهالي، ثم نقلتهم لاحقا إلى فرنسا.
ومن هذه الجماجم أيضا رؤوس400 عالم مسلم من دولة تشاد، الذين دعتهم فرنسا في15 نوفمبر1917 إلى مؤتمر للتوصل إلى اتفاق للتهدئة بالمنطقة، ثم غدرت بهم وقطعت رؤوسهم بالسواطير؟
ويضم المتحف أيضا جمجمة الشهيد سليمان الحلبي الذي تمكن من قتل كليبر -قائد الحملة الفرنسية بعد هروب نابليون من مصر-الذي قصف منطقة الأزهر بمدافعه وقتل الكثير من العلماء والطلاب.
فيا له من حِس حضاري! وسمو أخلاقي، ودقة بالغة في الذوق الحداثي! حين تُراكِم فرنسا عظام الموتى الذين قَطَّعتْ أوصالهم، وهَشّمتْ أَعْظُمهم، ثم تستعرضهم بتلك الطريقة التراجيدية الصادمة دون حياء من نفسها الدنيّة، وكأن لسان حالها يقول:
انظروا إلينا يا شعوب العالم نقتبس لكم من نور حضارتنا، لنريكم كيف كنا نعذب الجزائريين ونَدُكُّ هاماتهم بالحديد دكّا، ونفصل رؤوسهم عن الأجساد فصلا!!
أنظروا إلينا نريكم وميضا من مجدنا الاستعماري، ونعرض لكم تاريخنا الدموي، ومنتوجنا الوحشي، لتُمتّعوا أبصاركم بجرائم ذبّاحِينا وجزّارينا !!
انظروا إلى تلكم الرفاة فوق الرفوف وهي مصفوفة، وتلكم الرؤوس في العلب وهي ملفوفة، فهي تشهد على سطوتنا وقوتنا وحضارتنا الموصوفة!!
انظروا إلى تلكم الثقوب والكسور التي تملؤ الجماجم، من أثر الرصاص والضرب والسلخ والنَّشْرِ!!
انظروا إلى الأسنان التي كنا نقتلعها منهم وهم أحياء، وإلى العيون الغائرة التي كنا نفقؤها بكل جفاء!!
انظروا إلى عظام الأيدي والأرجل والصدور، كيف كنا نزدهي بتقطيعها بكل حبور، والطربُ يُحرك منا كل طرف !!
انظروا كيف كنا نَجُزُّ رؤوس المتمردين، ونتصور معها فارهين، ثم نسرقها لنحتفظ بها في متاحفنا مُفاخِرين !!
انظروا إلينا كيف نعرض لكم إبداعاتنا التي لا مثيل لها في سوق النخاسة والخساسة، فلنا الحق في أن نفاخر بجرمنا الذي لا عِدْلَ له، ونؤسس له معرضا نَنْتَشِي من خلاله بالتشفي في عظام القتلى، وفي ألم النكاية حين يراهم أهلوهم صرعى، سافرةً وجوههم، باديةً آثارُ العذاب عليهم !!
نعم…فنحن فقط من يعذب العُزّل والأسرى، ويقطّع رؤوس الموتى، وينكل بالجثث وهي هلكى، ثم نعلقها على الأوتاد، لنخيف بها العباد، ونزرع الرعب في كل ناد.
نحن من يُمعن في اللؤم فنصور الرؤوس المقطّعة، ونَجرُّ الأجساد الممَزَّعَة، ثم نسرقها فنخفيها، وبكل بَجَاحَةٍ نعرض كل ما فيها، كي يتعلم أطفالنا الصغار، القيم التي تحلى بها آباؤهم الكِبار، في الغيّ والصَّلَفِ والجُرم الكُبَّار !!
طبعا كل هذه المجازر التي لا تتساقط ولا تتقادم، تغيب عن أبناء فرنسا وفضلات الحَرْكَى(الخونة)، وورثة بيجار ولاصاص وديغول، المتشدقين بقيم حضارة الإستخراب، و بالفكر الاستعلائي المنتشي بِسََكْرَةِ الإستيلاب والاغتراب.
رحم الله معاشر الشهداء وجزاهم عنا كريم الجزاء
باحث أكاديمي جزائري