عبدالله المتقي: انفتاح الأبواب الموصدة في رواية “البارونة” لعبد القادر بن الحاج نصر

عبدالله المتقي: انفتاح الأبواب الموصدة في رواية “البارونة” لعبد القادر بن الحاج نصر

عبدالله المتقي

بإصداره لرواية ” البارونة ” عن دار الكتاب في طبعة قشيبة ، يؤكد الكاتب التونسي عبد القادر الحاج نصر، علاقته الوطيدة حميمية بالرواية ، وطموحه دؤوب إلى كتابة نصوص تمتلك نكهتها ، وفرادتها في استنكاه وملاحقة الجوانب المعتمة ، والمناطق المسكوت عنها  في المجتمع التونسي ، بل إنه ينحو إلى ملامسة هذا الواقع  المتحول بحيواته ، وفساده ، وفضاءاته ولياليه الحمراء المحصورة داخل عالم مغلق ، مسيج بالمكر والوصولية والانتهازية  والخيانة والبغاء حتى ، بنفس شعري متدفق يحفر له أخاديد ومسارات، تستوعب أفقا يتصل بالمراهنة على إشراك السارد في إنتاج النص وتأويله .
تتوزع هذه الرواية على ثمانية وأربعين فصلا من دون عنونة، وتلجأ إلى تعديد ضمائر السرد وأصوات المتكلمين، إلا أن صوت البارونة  – أشواق يظل هو المهيمن  على خيوط اللعبة ، لدى  اختارها  الحاج نصر  عنوانا مركزيا، وهي كلمة مفردة ، تحمل الدلالة المعهودة التي تشير إلى النسب النبيل والرتب العليا. وعليه ، نجدها الشخصية الأساسية التي تجعلك ، بعد قراءتها والإنصات لتحركاتها في مسرح الأحداث، ، تقول هذه هي أشواق البارونة التي يمكن أن تقربنا  من الطبقة العليا والفاسدة في المجتمع التونسي والتي تشكل جزءا من الطبقة السياسية التي البلاد والعباد :” أنا كتلك السيدة هناك ، هناك ..سألتقط مثلها القاذورات لكن سألقي بها في طريقكم ، ألطخ بها وجوهكم ” ص27.
وفي ضوء ما تقدم  ، تحكي الرواية  عن سيدة من سيدات تونس ،  لها ما يكفي من الطموح لتحقيق أحلام أكبر منها ، وتعمل كل المستحيلات لتحقيقها بأية طريقة ، تلطيخ كرامتها ومواطنتها ، وحتى جسديا وعريا، بغاية الوصول  الى مرتبة تليق بها وبتوجهاتها الحالمة .
وعليه ، ينطوي نص ” البارونة ” في مجموعه ، وعبر مكوناته الروائية ، على دلالة جوهرية تحيلنا على الفساد الإداري المستشري  في الدواليب العليا ،والذي ” يطول عمره كلما انسحب الشرفاء من الميادين ، وآثروا السلامة وتخاذلوا ، فيفسحون المجال للصغار التافهين البلطجية”  على تعبير خيري شلبي، لكن الحاج نصر آثر فضحه ونشر غسيله ، حتى لا يتأله هؤلاء الفاسدون  الذي اغتصبوا البلاد والعباد ، وحتى لا تتم خدمتهم بلا وعي  .
على ضوء هذه الملاحظات ، يمكن أن نقترب أكثر من طبيعة العلاقات الفاسدة التي تحفز الأفعال وتحرك الشخصيات ، لكن ، قبل أية مقاربة لهذه الرواية  ، يمكن أن نسجل أنها توفر متعة وجمالية التلقي ، والتشويق قبل أن تفضي بك إلى اختراق عوالمها المغلقة  خلف الستائر المخملية .
أوضحنا ، سابقا أن رواية ” البارونة”  تتمحور حول شخصية ” أشواق”،  من خلال طموحها المؤمن بالتسلق والارتقاء الطبقي ، من خلال مصادقة أشخاص من طبقات اجتماعية في مناصب أعلى، على حساب كرامتها ، وذلك بتوفير وسائل وأماكن ترفيهية مناسبة :” المنزل ، فيلا من الفلل القليلة ، فاتح أبوابه كامل ليالي الأسبوع … الصالونات ، ثلاثة مترادفات ، وللأكل فضاءان متجاوران … كل الأطعمة ، أغلاها وألذها وأندرها ” ص19
هكذا ، تقترب رواية ” البارونة ” من موضوعات متعددة  ، يمكن اختزالها كالتالي :

الغش والتدليس في إنجاز الجسر المثقوب بمباركة من السيد الوزير ، دون محاسبة المهندس مصطفى بالتلاعب ، بخصوص غشه وعدم الالتزام بالجودة المطلوبة ، والاكتفاء بتصحيح وضعية  التزوير والتحريف لمشاركته في اللعبة  التشاركية :  ”  على أية حال اطمئن فالكل يعرف دوره جيدا لكن الاحتياط واجب .. بعد الظهر سأرفع التقرير إلى رئيس الحكومة .. لا أدري إلى متى سأخفي عيوبك ونقائصك وهمومك يا مصطفى وأخفي نفسي من نفسي* ومنك ” ص194

إرشاء حتى المواطن المنكوب والمغلوب على أمره بسبب فقره وخصاصته ، وتوريطه في التستر على ثقوب الجسر، ومن ثم ، تشويه مواطنته بمشاركته المغشوشة لواقع مغشوش  :” دس المواطن ما في يده في الجيب الأيمن وأخرج من جيبه الأيسر كمامة ، أقسم بالأيمان الغليظة أنه لن ينطق بكلمة واحدة حول الجسر  وضع الكمامة على فمه وغادر مكتب الوزير .. الوزير الذي ينتظر وزارة السيدة ” ص184

تبضيع الجسد وتبخيسه ، وهي بالمناسبة ، ثقافة تنتجها هذه الثقافة السياسية ، لأنها من الشروط المهمة في التسلق ، وتتجلى في وتسليع  البارونة  لجسدها ، ثم لجسد ” فرح ” لأجل تسهيل فعلهما الجنسي .

الاحتماء بالمكر والمكائد وهو ما واجهت به البارونة زوجها المهندس مصطفى، حد توريطه والمساهمة في اعتقاله ، وكذا الاحتماء بالعنف الجسدي من تعذيب واغتصاب ، فعل يجابه به الدخلاء ، وهو الفعل الذي جابهت به البارونة ” أشواق” “فرح” ، لأنها بدأت تقترب من فهم ” الشيفرة ” وتمزيق الحجاب ، بتجاوزتها الخطوط الحمراء :” جريمة فظيعة .. سيدة محترمة تعرضت إلى الاغتصاب بعد أن اختطفت وهي تهم بتشغيل سيارتها.. ثلاثة وحوش آدمية قادوا سيارتها وهي داخلها إلى منطقة جبلية واعتدوا عليها ثم أحرقوا السيارة .. أحد الرعاة عثر عليها في حالة يرثى لها .. هي الآن تقبع في المستشفى محاطة بالعناية الطبية الفائقة ” ص312

 الخلاصة التي ينتهي إليها قارئ رواية” لبارونة “، هي أن  عبدالقادر بن الحاج نصر ، اقتحم ألغاز وأسرار هذه الطبقة ، وما يحصل بين أفرادها من تآلفات وتحالفات  وتطاحنات ، من أجل الاستمرار والازدهار ، بضمير خائب ، وحتى  بتلطيخ الكرامة  إن اقتضى الحال .
 ورغم أنف هؤلاء الخونة و الوصوليين والفاسدين ،   الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ،  يظل المواطن الحر في تونس ، يحب الوطن كما لا يحبه أحد ، والقادم أجمل .

” تمطى في الأحشاء ، وهي تورق ملف الإدانة، إحساس تسلق الحلقوم فشعرت برغبة شديدة في التقيؤ .. نظرت في السقف .. لا ملاذ في السقوف العالية … من الذي فعلها ؟ مع من فعلتها ؟ سارعت إلى الحمام ، كتمت أنفاسها ، لا شيء ، لا يمكن أن يحدث زلزال في هذ الوقت بالذات ” ص 135
وبالنسبة، للسارد، نجده يتحول من موقع الحياد إلى موقع الساخر من ” مصطفى ” زوج البارونة:”