ناجي ظاهر: القصيدة العظيمة بين المتطفلين والشعراء الحقيقيين

ناجي ظاهر: القصيدة العظيمة بين المتطفلين والشعراء الحقيقيين

ناجي ظاهر
(قال بحماس: الشعر قطعة من جنة الله على الارض.
فقلنا له بتحفظ: بس مش كل شعر.. شعر).

لا شك في ان شعرنا العربي القديم، مثله في هذا مثل اي شعر آخر، قد عرف الغث بالضبط كما عرف الثمين، وقد انشغل محبو الشعر من النقاد العرب القدماء خاصة بالفصل بين قمح الشعر وزؤانه، وما زال النقاد حتى ايامنا هذه، منشغلين بمثل هكذا تمييز، يزيد في انهماكهم هذا، كثرة المتهافتين على كتابة الشعر دون علم او دراية، متجاهلين بالتعاون مع وسائل الاتصال الاجتماع المتاحة لهم ليلًا نهارًا، ان كل ابداع يحتاج إلى علم ودراية، بل وصنعة كما اوحى الناقد العربي العريق ابو هلال العسكري/ الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيي بن مهران العسكري ( المولود عام 920 ، المتوفى عام 1005) في كتابه “الصناعتين- الكتابة والشعر”، بل كما اوحى الكاتب المجتهد المرحوم جبرا ابراهيم جبرا، (1920 – 1994) في كتاب “صنعة الاديب”، الذي ترجمه عن الانجليزية وضمنه باقة من افضل ما كتب نقاد معروفون ومشهود لهم.
لا اعرف شاعرًا قديمًا مبدعًا لم يبذل مجهودًا كبيرًا كي ينمّي ملكته الشعرية وكي يغذي قريحته الظمئة للشعر ومعرفته، ولعلّ قصة ابي نواس – الحسن ابن هاني، مع الراوية المشهور خلف بن الاحمر وما تضمنته من دعوته للتوجه الى البادية العربية لحفظ الفي بيت من الشعر، وعودة ابي نواس اليه وقد ادى المهمة المنوطة به على افضل وجه، وقول خلف له الآن بإمكانك إن تبدا في قول الشعر، اقول لعلّ هذه أفضل حكاية يمكن ان يهمس بها انسان مسؤول في اذن متشاعر.. بترهاته مشغول!! فالشاعر، وهذا الكلام موجّه إلى ادعياء القول الشعري، وقد تزايدت اعدادهم في فترة وسائل الاتصال الاجتماعي، وسهولة النشر فيها، اقول فالشاعر الحقيقي لا يبدأ من فراغ وانما يبدأ من امتلاء وبعد اطلاع واسع على افضل النماذج الشعرية في لغته، واذا امكنه في لغة او اكثر اخرى. كل الشعراء المبدعين القدماء كانت لبداياتهم الاولى مع القول الشعري حكايات تروى، لعلّ ابسطها التتلمذ علي يدي شاعر آخر كما فعل البحتري مع ابي تمام!! وهناك شعراء آخرون سلكوا طرقًا اكثر وعورة فتتلمذوا على ايدي اكثر من معلم ومرشد.
اما اليوم مع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، فقد اختلط الحابل بالنابل، فاندفع مهوسو الشعر يكتبون قصيدة النثر دون أي علم او معرفة، وراحوا ينشرون ما يكتبونه من ترهات في كل صفحة الكترونية متاحة لهم، الامر الذي دفع اعدادًا كبيرة من القراء ومحبي الشعر للانصراف عن قراءة الشعر، بدعوى ان ما يقرؤونه ما هو الا كلام غث ولا يستحق اضاعة الوقت في قراءتهم له. حصل هذا مع البعض من محبي الشعر، اما البعض الآخر، خاصة في بلادنا، فقد ادرك في قرارة نفسه، ان القول الشعري يحتاج إلى معرفة ودربة، فتوجه إلى من يعلّمه الاوزان الشعرية، وفي هذا اصاب الا انه اخطأ في الآن ذاته، ذلك ان معرفة الاوزان الشعرية على اهميتها لا توجد شاعرًا، بقدر ما توجد ناظمًا في افضل الحالات، وهنا اسجل عددًا من الملاحظات ذات الصلة:
*سيدة ارادت ان تجتهد في القول الشعري ليكون لها نصيب فيه، فتعلّمت الاوزان حتى اتقنتها او اتقنت بعضها، بعدها راحت ترتب الكلام بمعنى وبغير معنى، معتقدة أن الاوزان هي من تصنع الشعر، ومعروف ان العكس هو الصحيح في حالة اجادة القائل لقوله الشعري.
*سيدة اخرى اتقنت ” الترك” الوزني الشعري، فراحت توزع الكلام ذات اليمين وذات الشمال، فما ان يقع حادث لافت للاهتمام، حتى تنبري لرصف الكلام إلى جانب بعضه بعضًا، معتقدة انها تمضي في طريق الخنساء، وتسير على خطاها، وقد برعت هذه السيدة في تجميع “المعجبين ” المحبذين لها على الطالع والنازل، فراحت تتعامل مع نفسها وكأنما هي فاقت سيدتها قولًا وشعرًا.
*جمهرة من محبي الشعر في الظاهر والشهرة في الباطن، من منطقة المثلث خاصة، توجهت إلى من يُعلّمها الاوزان الشعرية الستة عشر، فتعلمتها او تعلمت بعضها، معتقدة أن الشعر هو الكلام الموزون المقفى فقط، فراحت تنثر كلامَها خبط عشواء، كلامًا منظومًا لا ابداع ولا حياة فيه، الامر الذي ادى دورًا آخر في التقليل من قيمة الشعر، بالضبط كما حدث مع كتبة قصيدة النثر، الذين ملأوا الدنيا جعجعة دون ان يقدموا طحينا حقيقيا، وكانت هذه ضربة اخرى للشعر- ديوان العرب- ذلك الكائن المرهف الحنون.
في الجانب الآخر من الكلام، نقول إن نقادًا عربًا قدماء، في مقدمتهم أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجُرْجَانِيّ )1009- 1078) صاحب “دلائل الاعجاز” و”اسرار البلاغة”، وحازم القرطاجني (1211 – 1285) صاحب “منهاج البلغاء وسراج الادباء”، التفتوا إلى أن هناك فارقًا كبيرًا بين النظم الشعري والخلق او الابداع الشعري، فالشاعر في رأيي هذين الناقدين العظيمين بصورة عامة، انما يرتاد آفاقًا جديدة ودائمة التجدد في القول، ويبتدع القول الشعري بطريقته الخاصة، التي تتحول إلى دافع ومحرك لانفعال من يقرأ هذا الشعر. ولعلّ الاخوة المطلعين على شيء مما كتبه نقادٌ اجانب في مقدمتهم جون كوين صاحب ” بنية لغة الشعر” و”اللغة العليا” يتذكرون بكثير من المحبة والتقدير انهم قرأوا كلامًا مشابهًا لدى هؤلاء لما كتبه نقادُنا العرب القدماء.
مجمل القول، ان القول الشعري الحقيقي والجدير بالاهتمام، يحتاج إلى شيء ابعد من الاوزان الشعرية مع اهميتها كما قلنا، بدليل ان سيد التقّعيد الشعري ومؤسس علم العروض الخليل ابن احمد الفراهيدي (718- 786)، لم يكتب بيتًا شعريًا واحدًا يُعتد به، في حين أن شاعرًا متوسط المعرفة العروضية مثل ابراهيم ناجي( 1998- 1953 ) صاحب “الاطلال”.. قال الكثير. وكلمة اخيرة إلى الاخوة المسيئين للشعر من حيث ارادوا الاحسان اليه، اقدمها هدية عبر قول للشاعر العربي القديم جرول بن أوس بن مالك العبسي/ الحطيئة: ترووا ايها الاحباء قبل الدخول إلى ملكوت الشعر المقدس.. فالشعر صعب وطويل سلمه.