محمد كرواوي: غزة من نار المستوطنين وصمت الحكومة: لحظة الحقيقة في صراع الدولة الفلسطينية

محمد كرواوي: غزة من نار المستوطنين وصمت الحكومة: لحظة الحقيقة في صراع الدولة الفلسطينية

 

 

محمد كرواوي

ما تشهده الضفة الغربية اليوم ليس سلسلة من الحوادث المعزولة، بل هو مشروع سياسي ممنهج، يتخذ من العنف أداة صريحة لتفكيك ما تبقى من النسيج الوطني الفلسطيني على الأرض. لم تعد اعتداءات المستوطنين مجرد انفلاتات فردية لمتشددين مسكونين بأوهام الخلاص التوراتي، بل تحولت إلى بنية عنف متكاملة، تمارس التخويف والترهيب، تحت عين وغطاء جيش الاحتلال. حين يضرب سيف موسلت حتى الموت في وضح النهار، ويغتال عوض حثلين بدم بارد وهو الناشط في حملة توثيق التهجير من مسافر يطا، فلا مجال للحديث عن استثناءات أو تصرفات عابرة، بل نحن أمام سياسة اقتلاع ممنهجة، تنفذها أذرع المستوطنين وتغض عنها السلطة القائمة بالقوة.

إن المأساة الأكبر لا تكمن في العنف ذاته، بل في غياب الردع الفلسطيني المنظم، وفي خفوت الصوت الرسمي أمام آلة الاحتلال والمستوطنين. لا يعقل أن تهب جهات دولية، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، للإدانة والتحذير، فيما تغيب السلطة الفلسطينية عن الميدان إلا ببعض التصريحات المجاملة. لقد تم تهجير 636 فلسطينيا منذ مطلع هذا العام بفعل رعب المستوطنين، وجرى اقتلاع عشرات العائلات من أراضيها في الأغوار والخليل، دون أن يتحرك جهاز رسمي فلسطيني واحد بخطة حماية ميدانية حقيقية. فما جدوى سلطة تترك شعبها فريسة لجنود الاحتلال نهارا وقطعان المستوطنين ليلا؟

ثمة ضرورة وطنية عاجلة لإعادة تعريف وظيفة السلطة الفلسطينية في الضفة. فالسلطة لا يمكن أن تبقى جهازا إداريا منزوع السيادة، ولا هي قادرة على مواصلة دور المنسق الأمني الذي يدين الفعل المقاوم بينما يغض الطرف عن عنف المستوطنين. لقد بلغ الانكشاف حدا لم يعد يحتمل. المطلوب اليوم ليس إعادة إنتاج الخطاب، بل إعادة تموضع للمؤسسة الفلسطينية نفسها، لتكون حيث يكون الخطر: في القرى المعزولة، في التلال المهددة بالمصادرة، في مفترقات الطرق حيث يحكم المستوطن سكينه. فإما أن تعود السلطة إلى موقعها الطبيعي كحامية لأمن الناس، أو تواصل الانكماش حتى تبتلعها الوقائع كما تبتلع النار أطراف الخريطة.

ولا يعني ذلك، بطبيعة الحال، الانزلاق إلى مواجهة غير محسوبة مع الجيش الإسرائيلي، ولا التهور في قرارات مصيرية قد تفتح البلاد على احتمالات خطيرة، ولكن أعز ما يطلب من السلطة ليس إعلان حرب، بل إعلان مسؤولية. إعلان أن الشعب الفلسطيني ليس متروكا لعصابات ليلية، وأن أرضه ليست مستباحة لمن يشعل النار ويكتب على الجدران “الموت للعرب”. المطلوب ببساطة هو تفعيل أدوات الصمود الميداني: لجان حماية مدنية، وحدات إنذار مبكر، دعم قضائي دولي للضحايا، وتوثيق ممنهج ينقل إلى محاكم العالم بدل أن يضيع في أدراج البيروقراطية. فالرد على سكين المستوطن لا يكون ببيان إنشائي، بل بوجود فلسطيني دائم في الأرض المهددة، وبذراع أمنية تحمي لا تطارد.

في هذا المشهد المعقد، لا يمكن تجاهل أن غياب السلطة الفلسطينية عن الميدان قد فتح ثغرة استراتيجية استغلها الاحتلال إلى أقصى حد. فبينما كان من المفترض أن تشكل الأجهزة الأمنية جدار الحماية الأول للمجتمع الفلسطيني، تحولت بفعل الإكراهات السياسية والتفاهمات الأمنية إلى حارس حدود لمناطق مقطعة الأوصال، لا تملك فيها سلطة الفعل، ولا تجرؤ حتى على الردع الشكلي. والأخطر من ذلك، أن هذه الحالة من الشلل الأمني والانكماش السياسي تمنح الاحتلال مزيدا من الجرأة لتوسيع مشروعه الاستيطاني، تحت غطاء التفكك الفلسطيني، ومجتمع دولي منشغل بصراعات أخرى. وهكذا، تصبح كل حادثة اعتداء، من حرق السيارات في طيبة إلى تدمير الآبار في يبرود، جزءا من سلسلة طويلة من الاختبارات التي يجريها الاحتلال على قدرة السلطة على المواجهة أو الصمت.

إن ما جرى مع عوضة حثلين، على سبيل المثال، لم يكن مجرد اغتيال ناشط أو تصفية جسدية لرجل مسالم، بل كان رسالة سياسية واضحة بأن المستوطن هو الحاكم الفعلي للضفة، وأن من يوثق أو يعارض هذا الواقع مصيره القتل. وهذا بالضبط ما يجعل من تدخل السلطة مسألة وجودية لا سياسية فحسب. إذ كيف يمكن للسلطة أن تدعي تمثيل الشعب وهي تعجز عن حماية مثقفيه ومزارعيه وساكنيه الأصليين؟ كيف تصوغ رواية وطنية في ظل اغتيال الرواية على الأرض؟ وهنا، لا يتعلق الأمر فقط بواجب أمني، بل بواجب أخلاقي وتاريخي، يفرض على القيادة الفلسطينية أن تعيد وصل ما انقطع بينها وبين قواعدها الاجتماعية، وأن تخرج من قاعات المؤتمرات إلى خطوط التماس حيث تصنع الجغرافيا.

ثمة أيضا بعد استراتيجي أعمق، لا بد من استحضاره في أي قراءة مسؤولة. فالضفة الغربية لم تعد فقط جبهة تماس بين شعب محتل وقوة استعمارية، بل صارت مختبرا لتصفية القضية الفلسطينية برمتها. وإذا بقيت السلطة على هامش المشهد، فسوف تجد نفسها وقد تلاشت سياسيا ومعنويا، حتى تستبدل بشبكة من الإدارات المحلية أو روابط المدن على النمط القديم. وليس أدل على ذلك من اندفاع مشاريع الطرق الالتفافية، والبؤر الاستيطانية العشوائية التي تتحول بمرور الوقت إلى مستوطنات معترف بها، وكل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع، بلا اعتراض فعلي من المؤسسة الرسمية. لقد آن الأوان أن تعي السلطة أن خيار الصمت المفيد لم يعد مفيدا لأحد، وأن ما يؤخذ اليوم بالسلاح والترويع لا يسترد بالغضب الدبلوماسي.
وفي ضوء التطورات المرتقبة على الساحة الدولية، وخصوصا مع إعلان فرنسا عن عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسميا خلال شهر شتنبر المقبل، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة تثبيت حضور السلطة الفلسطينية، لا فقط على الورق الدبلوماسي، بل في الميدان الأمني والإنساني داخل الضفة الغربية. إن الاعتراف الدولي بالدولة لا يكتمل ولا يترسخ إلا بوجود فعلي لمؤسسات هذه الدولة، أولها جهاز أمني وطني قادر على حماية المواطنين من تغول الاستيطان. فالفراغ الأمني في مناطق الاحتكاك، واستمرار الاعتداءات من قبل المستوطنين دون تدخل فلسطيني منظم، يقوض أساس الاعتراف ويمنح الاحتلال ذريعة للزعم بأن هذه الأرض بلا سلطة شرعية. ومن هنا، فإن الارتقاء إلى مستوى هذا الاعتراف الدولي لا يكون بالاحتفال الدبلوماسي، بل بفرض الأمر الواقع الفلسطيني على الأرض، بكل أدوات السيادة الممكنة، ولو في حدودها الدنيا.

إن إنقاذ ما يمكن إنقاذه يبدأ من الخطوة الأصعب: الاعتراف بأن السيادة الفلسطينية في الضفة تتآكل يوما بعد يوم، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل بسبب غياب الاستراتيجية الفلسطينية المضادة. المطلوب اليوم هو أن تتعامل السلطة مع ملف عنف المستوطنين كأولوية وطنية عاجلة، لا كقضية حقوق إنسان مؤجلة. أن تفعل آليات الحماية المجتمعية، وأن تفرج عن إمكانياتها الأمنية في الدفاع عن القرى والمناطق المهمشة، بدلا من استنزافها في ضبط الداخل السياسي. لأن ما يجري في الضفة ليس فقط استيطانا جديدا، بل تطهيرا ديموغرافيا ومكانيا، لا يواجه إلا بثبات سياسي وجهاز أمني وطني يضع المصلحة العليا فوق الحسابات الضيقة. وإذا لم تبادر السلطة الآن، فسيأتي يوم تصبح فيه ملاحقة المستوطنين مستحيلة، لأن الأرض نفسها ستكون قد محيت من تحت أقدامنا.

علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا قبل أن نطالب العالم بالإنصاف، فالقضية الفلسطينية لم تعد مجرد نزاع حدود أو خلاف على بند في اتفاق أوسلو، بل هي صراع وجود في ظل استراتيجيات اقتلاع مدروسة. وفي هذا الصراع، لا يجوز أن تستقيل السلطة من دورها أو تكتفي بوظيفة الوسيط بين الشعب والاحتلال. لقد دفعت الجماهير الفلسطينية ثمنا باهظا في صمودها على الأرض، من الخليل إلى الأغوار، ومن عقربا إلى سيلة الظهر، وآن الأوان أن تسترد السلطة دورها كخط دفاع أول عن كرامة هؤلاء الناس وأمنهم. ليس المطلوب منها أن تعلن حربا، ولكن أن ترفع الغطاء عن أي سياسة أمنية تستجيب للاحتلال أكثر مما تستجيب لحاجة الشعب إلى الأمان.

إن الرهان على الضغط الدولي وحده، أو على وعود الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية، رهان خاسر ما لم يدعم بحضور فعلي على الأرض. فلا شيء يقنع العواصم الكبرى بأن هناك دولة تستحق الاعتراف أكثر من سلوكها في الميدان. وإذا كان المستوطنون يفرضون معادلتهم بالقوة، فإن الشعب الفلسطيني ومعه سلطته قادران، إن أرادوا، أن يفرضوا معادلة البقاء والثبات والصمود. لقد أظهرت اعتداءات يوليو مدى هشاشة الوضع الأمني في الضفة، ومدى غياب التنسيق الوطني الداخلي لمواجهة هذه التحديات. وهذا الغياب لا يمكن تعويضه لا بمؤتمرات صحفية ولا بمناشدات أممية، بل بخطة ميدانية تبدأ من الأرض وتنتهي إليها.

ثم هناك مسألة خطيرة يتغافل عنها الكثيرون: أن استمرار العنف الاستيطاني بهذا الشكل الوحشي دون رد فلسطيني منظم، قد يؤدي في النهاية إلى تكريس واقع أمني جديد تصعب العودة منه. فحين يعتاد المجتمع الدولي على غياب الرد الفلسطيني، يبدأ في التعامل مع هذا الغياب كأمر طبيعي. وهذا هو جوهر الخطر. إذ تتحول الضحية إلى ظل في الرواية، ويصبح الجلاد هو الطرف القلق، وتختزل القضية كلها إلى عبارات إنسانية مبهمة عن الحاجة إلى التهدئة. ومن هنا، فإن الدفاع عن الأرض والناس ليس فقط واجبا وطنيا، بل استراتيجية بقاء وشرط للاستمرار السياسي. لأن التفريط في الأمن الذاتي للفلسطينيين، هو أول مسمار في نعش الدولة التي يسعى العالم اليوم للاعتراف بها.

وعلى ذلك، تبقى السلطة الفلسطينية أمام خيار تاريخي: إما أن تتحول إلى سلطة صورية تكتب عنها تقارير في الصحف، أو أن تستعيد جوهر مشروعها الوطني، فتكون سلطة نابعة من إرادة الصمود، لا من واقع التفاهمات المفروضة. لقد مضى وقت التبرير، وجاء وقت القرار. والميدان اليوم لا يحتمل الفراغ، ولا يغفر لمن يتأخر. وإذا كانت المرحلة تتطلب إعادة هيكلة للوظيفة الأمنية، وإعادة نظر في سلم الأولويات الوطنية، فلا بد أن تبدأ الآن. فالتاريخ لا ينتظر، ومن لا يصنع لحظة الحسم، يكتبه الآخرون في خانة الغياب. وما من لحظة أكثر وضوحا من هذه ليفهم الجميع أن معركة الضفة ليست فقط معركة مواجهة مع الاستيطان، بل معركة دفاع عن جوهر الدولة الفلسطينية نفسها.

* كاتب مغربي