من الموسيقى إلى الثورة: حميد عقبي يستمع لأحاسيس تهامة في عصر النسيان.

من الموسيقى إلى الثورة: حميد عقبي يستمع لأحاسيس تهامة في عصر النسيان.

 

باريس ـ متابعات ثقافية:
في ظلّ واقع يمنيّ مأزوم، تتآكل فيه الثقافة، ويُختزل فيه التراث في شعارات مناسباتية أو مواد استهلاكية، يصدر كتاب “من الغناء إلى الغضب: تأملات في الشعر الشعبي التهامي اليمني” للكاتب والمخرج حميد عقبي كنداءٍ ثقافيّ وإنسانيّ يُحذّر من الخطر المحدق بالذاكرة الشعبية اليمنية، ويدعو إلى العودة الجادّة والناقدة لتراث ظلّ حبيس الظلّ والنسيان. لا يقدّم الكتاب مجرّد توثيق لنماذج من الشعر الشعبي، بل يؤسّس لمقاربة نقدية واعية، تتعامل مع هذا التراث بوصفه حيًّا، متجدّدًا، ومعقّدًا، لا يقلّ أهمية عن النصوص الفصيحة.

تراث يمنيّ على حافة الإندثار
التراث اليمني، بألوانه الشفاهية والموسيقية والحكائية، يُعدّ من أغنى وأعمق روافد الثقافة العربية، لكنّه في العقود الأخيرة يواجه تهديدًا مزدوجًا: سرقة ممنهجة، وتشويه متعمد، وإهمال رسمي وبحثي قاتل. فبينما تنشط أطراف إقليمية في نَسْب بعض الفنون والمأثورات اليمنية إلى دول أخرى، تعاني البلاد داخليًا من شلل المؤسسات البحثية، وانقطاع التواصل بين الأجيال، وتجريف الهوية الشعبية تحت شعارات سياسية أو مذهبية أو تجارية.

في هذا السياق، يبرز كتاب حميد عقبي كصرخة واعية، تكشف هشاشة الوضع الثقافي، وتحضّ على إعادة الاعتبار للتراث بوصفه ذاكرة مقاومة، ومصدرًا جماليًا، ورؤية للذات، لا مجرد زخرفة ماضوية. الكتاب يدعو لقراءة التراث لا كأطلال، بل كنصّ حيّ قابل للتأويل، للنقد، لإعادة الإنتاج.

العودة إلى تهامة: منبع الصوت والمجاز
اختار حميد عقبي أن ينصت لتهامة، تلك السهل الساحلي الغني بالأنغام والروائح والأهازيج. تهامة، التي كثيرًا ما عُزلت عن المشهد الثقافي اليمني الرسمي، تظهر في الكتاب لا كفضاء جغرافيّ فحسب، بل كمخزون رمزي وثقافي وروحي، يحتضن تجربة إنسانية عميقة، تتجلى في أشعار وقصص وأناشيد ومهرجانات وطقوس تتوارثها الألسن والقلوب.

يقدّم الكتاب نماذج متنوّعة من الشعر الشعبي التهامي، منها قصائد لأسماء مثل عبدالله غدوة، أمحمد أمرامي، محمد محفلي، سي شعيب الأهدل، وسود معمى، ويقرأها عقبي من زوايا متعددة: سرديًا، مشهديًا، إيروتيكيًا، سياسيًا، ودراميًا. إننا لسنا أمام جمع ميداني للنصوص، بل أمام تذوّق نقدي متأمل، يستحضر أدوات تحليلية من المسرح والسينما والسرد والشعر، ويحوّل كل قصيدة إلى مشهد حيّ يمكن أن يُرى ويُسمع ويُعاد تمثيله.

التراث كمصدر للحداثة لا كضدّ لها
من أبرز ما يميز الكتاب هو رفضه للتصنيف الكلاسيكي الذي يفصل بين “التراث” و”الحداثة”. فبالنسبة لعقبي، لا توجد قطيعة بين ما هو شعبيّ وما هو حداثي، بل هناك تواصل خفيّ عبر اللغة، الصورة، الإيقاع، والحسّ الإنساني المشترك. ففي إحدى القصائد، يشرح كيف أن وصف الحبيبة في الشعر التهامي لا يقلّ عنفوانًا أو دقة عن وصفها في القصيدة الحديثة، بل إنه يتجاوزها أحيانًا بقدرته على التكثيف والتورية والربط بالبيئة المحلّية.

كما يبرز البُعد الدرامي للقصيدة التهامية، حيث تتجلى الصراعات والعواطف والحوارات الداخلية، تمامًا كما في المسرح، ما يجعل هذه النصوص صالحة للتحوّل إلى عروض أدائية، أو أفلام قصيرة، أو نصوص روائية معاصرة.

أسلوب حميد عقبي: كتابة حرّة، بصيرة بصرية
الكتاب مكتوب بلغة نقدية تأملية، تمزج بين التحليل والانفعال، بين التوثيق والإبداع. وهو لا يلتزم بإطار أكاديمي تقليدي، بل ينطلق من حسّ الكاتب والفنان والمُخرج الذي يرى في كل بيت شعري احتمالات درامية ومشهدية. عقبي يستخدم مفردات المسرح والسينما لتفكيك القصائد، ويرى في بعض المقاطع إمكانية إنتاج مشاهد سينمائية خالدة. وبهذا، يُقدّم الكتاب أسلوبًا في الكتابة النقدية الأدبية يتجاوز الجمود، وينفتح على الحسّ البصري والتذوّق الفني.

الكتاب كدعوة: من التوثيق إلى التجديد
ليس هدف الكتاب فقط حفظ هذا التراث، بل إعادة إنتاجه في خطاب ثقافي معاصر. حميد عقبي يدعو الفنانين، الكتّاب، الباحثين، والمثقفين، إلى الانفتاح على هذا التراث بوصفه موردًا جماليًا وفكريًا يُغني الكتابة والفن المعاصر. هو لا يريد تحويل التراث إلى متحف، بل إلى مختبر حيّ يمكن فيه التجريب، التفاعل، والانطلاق نحو أفق جديد.

التراث كمقاومة ضد التلاشي
في النهاية، يُعد هذا الكتاب أكثر من مجرد دراسة أدبية. إنه بيان ثقافي مقاوم في زمن تتعرض فيه الثقافة اليمنية لخطر التبديد. هو خطوة أولى في طريق طويل لإعادة ربط اليمني بهويته المتعدّدة، وبصوته الشعبي المقموع، وبذاكرته الجماعية التي لا تزال تنبض بالغناء، رغم الغضب.

“من الغناء إلى الغضب” كتاب يجب أن يُقرأ كمرآة لوجدان تهامة، وكجسر بين الماضي والحاضر، وكتحدٍ صريح لمن يظن أن التراث الشعبي لا مكان له في زمن الحداثة الرقمية والعولمة الزائفة.