أحمد صالح سلوم: وداع زياد الرحباني – العبقرية الشيوعية في الفن والموسيقى

احمد صالح سلوم
افتتاحية: زمن زياد، زمن الخراب والأمل
تخيّل بيروت في الستينيات، مدينة تتأرجح بين الوهم والحقيقة. في الصباح، تغني فيروز “بيروت يا ست الدنيا”، وفي الليل، تتكالب النخب على تقاسم الكعكة اللبنانية. هنا، في هذا المزيج من الفن والفوضى، وُلد زياد الرحباني، ليس فقط كموسيقار، بل كصوت ساخر يقطع مثل سكين. كانت بيروت، التي أطلقوا عليها “باريس الشرق”، مسرحاً للتناقضات: مقاهٍ أدبية يناقش فيها المثقفون ماركس وسارتر، وبجانبها أحياء شعبية يكدح سكانها لتأمين رغيف الخبز. لكن زياد لم يكن من النوع الذي يقع في فخ الوهم. كان يرى ما وراء الستار: طبقات تتصارع، طوائف تتحضر للصدام، ونظام عالمي يلعب بالجميع.
هذا الزمن لم يكن لبنانياً فقط. كان العالم العربي يعيش هزّاته الخاصة: النكسة عام 1967 ضربت الضمير العربي كصفعة، والحرب الباردة جعلت العالم يتنفس بحذر. بينما كان الغرب يروّج لـ”حريته”، كان زياد يسخر: “حرية؟ أي حرية؟ حرية البنوك؟ حرية الشركات؟ أما الشعوب، فهي تدفع الفاتورة، من بيروت إلى غزة إلى هانوي.” هذا السياق، بكل تناقضاته، هو الذي شكّل زياد: موسيقاراً يعزف سيمفونيات تحمل روح الشعب، ومفكراً شيوعياً يرى التاريخ بعيون المستقبل. كان زياد صوتاً للأمل في زمن الخراب، لكنه أمل لا يتوهم، بل ينتقد ويحلل ويستشرف.
لبنان الستينيات: بيروت بين الوهم والحقيقة
في الستينيات، كانت بيروت تعيش حلماً زائفاً. كانت تُسمى “سويسرا الشرق”، لكنها كانت أقرب إلى مسرح كوميدي تراجيدي. المسارح ممتلئة، مسرحيات الرحابنة تجذب الجماهير، وفيروز تغني “نحن والقمر جيران” بصوت يجعلك تؤمن أن الدنيا لا تزال بخير. لكن تحت هذا البريق، كانت التناقضات تتفاقم. النخب البرجوازية كانت ترقص في فنادق الروشة، بينما العمال في الأحياء الشعبية يكافحون لتأمين لقمة العيش. زياد، ابن هذه المدينة، كان يرى كل شيء. كان يعزف البيانو في غرفته، لكنه كان يسمع أيضاً صوت الفقراء في الضاحية.
الحركات اليسارية كانت في أوجها. الحزب الشيوعي اللبناني، بقيادة شخصيات مثل كمال جنبلاط وجورج حبش، كان يجذب الشباب الذين سئموا من الطائفية والفساد. منظمة التحرير الفلسطينية، التي وجدت في لبنان قاعدة لها، ألهمت جيلاً كاملاً، بما في ذلك زياد. كان يرى في الفدائيين رمزاً للكرامة، لكنه لم يكن ساذجاً. كان يعرف أن السياسة لعبة قذرة، وأن بعض الذين يرفعون شعار المقاومة يتاجرون بها خلف الكواليس. هنا بدأت سخرية زياد تتشكل: “إذا بدك تكون بطل، خلّي بطولتك للناس، مش لجيبك.”
بيروت الستينيات كانت أيضاً مركزاً ثقافياً. المقاهي في شارع الحمراء كانت تعج بالمثقفين، من شعراء الطليعة إلى الفلاسفة الوجوديين. لكن زياد لم يكن من النوع الذي يكتفي بالنقاشات الصالونية. كان يرى أن الفن يجب أن يكون أكثر من مجرد تسلية. في هذا السياق، بدأ زياد يكتب أولى أعماله، متأثراً بالموسيقى الكلاسيكية الغربية وبتراث أم كلثوم، لكنه كان يضيف لمسته الخاصة: لحناً يبدو بسيطاً، لكنه يحمل في طياته سيمفونية كاملة.
الحرب الأهلية اللبنانية: زياد في قلب العاصفة
عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، تحطم وهم بيروت. المدينة التي كانت تغني أصبحت ساحة قتال. الطوائف تصارعت، والطبقات تقاتلت، والجميع ادعى أنه “يدافع عن لبنان”. لكن زياد، الذي كان في عشرينياته، لم يهرب. بقي في بيروت، يعزف ويكتب وينتقد. مسرحياته مثل “نازل السرور” لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت صرخة ضد الخراب. كان يسخر من “الزعماء” الذين تحولوا إلى تجار حرب، ومن الأحزاب التي تبيع الشعارات بينما الدم يسيل في الشوارع. في إحدى تعليقاته الساخرة، قال: “الحرب؟ هي بس فرصة لتاجر يبيع بندقية، وزعيم يبيع وطن.”
سوريا الأسد لعبت دوراً معقداً في هذا السياق. كانت ملاذاً للفنانين اللبنانيين الذين فروا من جحيم بيروت. فيروز، ملحم بركات، ووديع الصافي، وبالطبع زياد، وجدوا في دمشق واحة ثقافية وسط الخراب. لكن زياد لم يكن من النوع الذي يغض الطرف عن العيوب. دعم سوريا كحصن ضد الصهيونية، لكنه انتقد انتهازية بعض قادة البعث. من مثل رياض نعسان آغا، الذي كان يزاود في فكر البعث ،عندما كان في مناصب كوزير ثقافة، وسرعان ما تحول إلى داعشي في الامارات الصهيونية يمدح رئيس جبهة النصرة الإرهابية، الجولاني ..كان يقول: “المقاومة مش شهادة تتعلق على الحيط. إذا بدك تقاوم، قاوم بجد، مش بالخطب.” هذا الموقف يعكس رؤية زياد الشيوعية: دعم المقاومة لكنه رفض المساومة على المبادئ.
في برنامجه الإذاعي “لسه بعدنا عايشين”، وجد زياد منصة للتعبير عن رؤيته. كان يحلل الحرب من منظور طبقي، ساخراً من النخب التي تستغل الصراع لتعزيز نفوذها. كان يقول: “الحرب مش بس رصاص، الحرب هي لما الفقير يموت عشان الغني يعيش.” هذه السخرية، الممزوجة بالتحليل العميق، جعلت زياد صوتاً فريداً في زمن الضجيج.
العالم العربي: من النكسة إلى المقاومة
النكسة عام 1967 كانت لحظة فارقة في تاريخ العالم العربي. الهزيمة أمام إسرائيل لم تكن مجرد خسارة عسكرية، بل كانت صفعة للأنظمة القومية التي وعدت بالتحرير. الشباب العربي، من القاهرة إلى بغداد، بدأ يبحث عن بديل. هنا وجدت الشيوعية طريقها إلى قلوب المثقفين. زياد، الذي كان يتابع الأحداث من بيروت، رأى في النكسة دليلاً على فشل البرجوازية العربية. في برنامجه الإذاعي، كان يسخر: “النكسة؟ هي مش بس خسرنا أرض، خسرنا أوهامنا كمان.”
المقاومة الفلسطينية، التي وجدت في لبنان قاعدة لها، كانت مصدر إلهام لزياد. كان يرى في الفدائيين رمزاً للكرامة، لكنه لم يكن ساذجاً. كان يعرف أن بعض الأنظمة تستغل القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذها. موقفه من سوريا الأسد كان مثالاً لهذا التوازن: دعمها كحصن ضد الصهيونية، لكنه انتقد انتهازية بعض قادتها. كان يقول: “المقاومة مش كلام، المقاومة فعل. لو بدك تقاوم، خلّي فعلك يتكلم، مش خطابك.”
زياد رأى في القضية الفلسطينية جوهر الصراع العربي. كان يؤمن أن تحرير فلسطين ليس مجرد قضية قومية، بل قضية إنسانية تتطلب تغييراً جذرياً في النظام العالمي. هذا الإيمان جعله يتبنى الشيوعية، ليس كشعار، بل كفكر يقدم حلولاً للظلم.
السياق العالمي: الحرب الباردة وصعود الشيوعية
في الستينيات والسبعينيات، كان العالم منقسماً بين معسكرين: الرأسمالية بقيادة أمريكا، والشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي. لكن زياد لم يكن من النوع الذي يقبل التقسيمات الجاهزة. كان يرى أن “الديمقراطية” الغربية ليست سوى قناعاً للاستعمار الجديد. في إحدى مقابلاته، سخر من الإعلام الغربي: “BBC؟ هذه مش قناة، هذه وكالة مخابرات بميكروفون!” هذه السخرية تعكس وعيه العميق بالنظام العالمي الذي يخدم الاحتكارات المالية.
تأثر زياد بحركات التحرر العالمية، من فيتنام إلى كوبا. كان يرى في الشيوعية أملاً للشعوب المضطهدة، لكنه لم يكن حالماً ساذجاً. كان يعرف أن الشيوعية تحتاج إلى نقد ذاتي، تماماً كما كان ينتقد الأنظمة العربية. كان يقول: “الشيوعية مش بس كتاب تقراه، الشيوعية عيشة. إذا ما عشتها، ما رح تفهمها.”
زياد والتاريخ: استشراف المستقبل
ما يجعل زياد استثنائياً هو قدرته على استشراف المستقبل. في وقت كان الجميع يحتفل بـ”انتصارات” وهمية، كان زياد يحذر من صعود الفاشية الجديدة. كان يرى في نتنياهو وترامب وبايدن وجوهًا لنظام عالمي يتاجر بالدماء. في برنامجه الإذاعي، كان يقول: “التاريخ مش قصة حلوة، التاريخ معركة. وإذا ما اخترت معركتك، التاريخ رح يختارها عنك.” زياد اختار معركته: الشيوعية كفكر، الموسيقى كسلاح، والسخرية كدرع.
الحرب الأهلية اللبنانية
الحرب الأهلية لم تكن مجرد صراع بين ميليشيات، بل كانت انفجاراً لتناقضات تراكمت على مدى عقود. زياد، الذي كان يعيش في قلب بيروت، رأى كيف تحولت المدينة من عاصمة الفن إلى ساحة دمار. في مسرحياته، مثل “شي فاشل”، كان يسخر من الزعماء الذين يدّعون البطولة بينما ينهبون البلد. كان يقول: “الزعيم اللي بيحكي عن الوطنية وهو بيبيع الأرض، هذا مش زعيم، هذا تاجر.” هذه السخرية لم تكن مجرد دعابة، بل كانت سلاحاً لكشف الحقيقة.
خلال الحرب، وجد زياد في دمشق ملاذاً. لم تكن سوريا مجرد مكان للهروب، بل كانت مركزاً ثقافياً يحتضن الفنانين. لكن زياد، بطبعه النقدي، لم يكن من النوع الذي يصفق لأي نظام. كان يرى أن سوريا، رغم دورها في مقاومة الصهيونية، كانت تعاني من انتهازية بعض قادتها. كان يقول: “المقاومة مش بس سلاح، المقاومة أخلاق. إذا ما عندك أخلاق، سلاحك رح يكون خنجر في ظهر الشعب.”
زياد الرحباني، الموسيقار الشيوعي، الساخر، المفكر، لم يكن مجرد فنان لبناني، بل كان صوتاً عالمياً يتحدى الظلم ويحمل هموم الشعوب. إرثه، الذي يمتد من ألحانه العذبة إلى نقده اللاذع للنظام العالمي، جعله رمزاً للفن الملتزم. كان يقول: “الفن مش بس للجمال، الفن للحقيقة.” هذه الخاتمة تستكشف تأثيره العالمي كرمز للفن الملتزم، وتدعو القراء لإعادة اكتشاف أعماله، من موسيقاه إلى حلقاته الإذاعية “لسه بعدنا وعايشين” ومقابلاته مع إذاعة الشام إف إم، في سياق عالم يعاني من صعود الفاشية.
تأثير زياد العالمي لم يكن مقتصراً على العالم العربي. ألحانه، التي جمعت بين البساطة الشعبية والتعقيد السمفوني، وصلت إلى مستمعين في أوروبا وأمريكا اللاتينية. كان يقول: “الموسيقى لغة العالم، بس لازم تحكي الحقيقة.” هذا الجمع بين العبقرية الموسيقية والفكر التقدمي جعله رمزاً للفنان الذي يتحدى النظام الرأسمالي العالمي.
زياد لم يكن يكتفي بصنع الموسيقى، بل كان يصنع وعياً. في برنامجه “لسه بعدنا عايشين”، استخدم السخرية لفضح التناقضات الطبقية والسياسية. كان يقول: “السخرية مش بس ضحك، السخرية سلاح.” هذا البرنامج، الذي بُث خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أصبح منارة للمثقفين الذين يبحثون عن صوت يعبر عنهم.
إرث زياد يكمن في قدرته على جعل الفن منصة للنضال. مسرحياته مثل “نازل السرور” و”شي فاشل” لم تكن مجرد عروض، بل كانت صرخات ضد الفساد والظلم. كان يقول: “المسرح مش بس للتسلية، المسرح معركة.” هذه الرؤية جعلت أعماله تحمل طابعاً عالمياً، لأنها تحدثت عن قضايا إنسانية.
زياد كان رمزاً للفن الملتزم لأنه رفض المساومة. كان يقول: “الفنان اللي بيبيع ضميره بيبيع فنه.” هذا الالتزام جعله مصدر إلهام لفنانين في العالم العربي وخارجه، من الجزائر إلى كوبا، حيث رأى المثقفون فيه نموذجاً للفنان الذي يحمل ضمير الشعب.
تأثيره العالمي يظهر في كيفية استلهام الفنانين الشباب من أسلوبه. في أمريكا اللاتينية، مثلاً، وجد الموسيقيون في ألحانه مزيجاً فريداً من الشعبية والفكر. كان يقول: “الموسيقى لازم تكون صوت الناس، مش صوت النخب.” هذه الفلسفة جعلت أعماله تتجاوز الحدود الجغرافية.
شاعر وكاتب فلسطيني في بلجيكا