مصطفى عبد الوهاب العيسى: تحليل موضوعي لجمال عبد الناصر

مصطفى عبد الوهاب العيسى: تحليل موضوعي لجمال عبد الناصر

مصطفى عبد الوهاب العيسى

في الثالث والعشرين من يوليو ، وبمرور ثلاثة وسبعين عاماً على انطلاقة عبد الناصر وثورة يوليو ، حاولت أن أنظر إلى عبد الناصر بشكلٍ سلبي كما تروج له بعض وسائل الإعلام والأقلام المأجورة الساعية لتشويه صورته وصورة ثورة 23 يوليو ، ولم أستطع إلا أن أحافظ على الموضوعية التي رأيتُ فيها جمال عبد الناصر دون تحيز أو تملق أو ما شابه ذلك ، وهذا ما يدعوني اليوم ، وبعد دراسة امتدت لأكثر من عقدين لهذه الشخصية النادرة إلى كتابة هذه الكلمات بموضوعية ، ولأقولها بشكل واضح كرأي غير متواضع في جمال عبد الناصر .
في صيف عام 2017 ، وفي مدينة حلب (سورية) ، وبعد نقاش عقيم طويل مع قيادي في أحد الأحزاب الناصرية يدافع بحماقة ، وهو لا يعلم شيئاً عن هذه الشخصية سوى ما تلقَّنه في صفوف حزبه ، كنتُ قد حدّثت نفسي بضرورة التوقف نهائياً عن المناقشة في أي موضوع يخص جمال عبد الناصر ، وكان قد سبق هذا النقاش نقاشات كثيرة مع شيوعيين وبعثيين ومن يتبنون فكر الإخوان المسلمين وحتى المستقلين وغيرهم ممن يهاجم أيضاً بغباء دون خزينة معرفية جيدة بهذه الشخصية ، وعليه توقفتُ منذ ذلك اليوم أو ابتعدت عن الخوض في أي موضوع يخص جمال عبد الناصر مع من لم يعرفه ويقرأ عنه بموضوعية احتراماً لوقتٍ طويل وجهدٍ كبير أنفقته وأنا أقرأ وأدرس هذه الشخصية .
ببساطة شديدة : جمال عبد الناصر رحل ، وله ما له ، وعليه ما عليه ، وإن كان ما له يفوق ما عليه بكثير .
أستطيع أن أكتب الآن عشرات وعشرات الصفحات وأنا أسرد مسيرة حياته القصيرة عمراً ، والكبيرة أثراً ، من ولادته مروراً بعدد فناجين قهوته وسجائره وأطقمه وربطات عنقه ، وصولًا لوفاته ورثاء نزار والجواهري له .
قرأتُ – حسب ما أذكر – وعلى اختلاف المصادر وخلفيات الكُتَّاب أكثر من عشرين كتاباً ، وربما مئات المقالات والدراسات والأبحاث التي كانت تُنشر في كُتيِّبات ومجلات عن جمال عبد الناصر ، ليكون بكل تأكيد أكثر شخصية سياسية قرأتُ عنها ، وهذا فضلاً عن عشرات الكتب التي لا بد وأن تتناول ذكره في سطور – إيجاباً أو سلباً – بسبب تأثيره الكبير في تلك المرحلة .
أن نحكم على سياساته بمعايير الألفية الجديدة ظلم كبير ، وأن نحصر حقبته بتأثيره في الشارع العربي هو محاولة تحجيم للكاريزما الجبارة التي كانت لديه .
فشلتُ رغم أنني حاولت كثيراً وأنا أراجع التواريخ والأرقام أن أصل إلى شبه معادلة رياضية أو معجزة رقمية كالتي فصَّلها وشرحها الدكتور عدنان إبراهيم في شخصيات ستالين ، وموسوليني ، وهتلر ، وتشرشل ، و… إلخ .
لا أُبالغ كالناصريين وأقول بأنه كان شخصية القرن العشرين ، ولكن بلا أدنى شك ، وبعيداً عن التقييم العاطفي لإنجازاته أو أخطائه ، كان جمال عبد الناصر أحد أبرز صُنَّاع القرن العشرين ، وسيبقى السؤال الذي أسأله لنفسي منذ أكثر من عقدٍ ونيف دون إجابة :
ماذا لو لم يكن جمال عبد الناصر في القرن العشرين؟
عندما تقرأ كيف كانت غاندي في حضرته ، أو كيف مَثَلَ جيفارا أمامه ، أو كيف وقف كبار الزعماء كالأطفال بين يديه ، أو حتى في سؤال آينشتاين عنه على وجه الخصوص وهو لا يزال ضابطاً ، تعلم أنه لم يكن رئيساً فقط!
عندما تقرأ كثيراً عن جمال عبد الناصر ، سيفاجئك شيخ المفسرين الشعراوي الذي سجد لله شكراً عام 1967 ، والذي يكاد يكون أشهر القلة من شيوخ العصر الذين لم تلحق بهم صفة “شيوخ السلطان” ، بذهابه فجراً عام 1995 لزيارة قبر عبد الناصر وتوثيق زيارته إعلامياً ، تعلم أن عبد الناصر كان حجراً أساسياً بإنجازاته وأخطائه في صناعة وبلورة القرن العشرين عالمياً .
تسترجع ذاكرتي اليوم ما غنَّاه عبد الحليم ، وما غنَّاه وديع الصافي ، وما غنَّته شادية وفايزة أحمد ، وما غنَّته أم كلثوم …
تسترجع ذاكرتي ما قاله الجواهري (العراقي):
أكبرتُ يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
وما قاله العم الحبيب نزار قباني (السوري):
زمانك بُستانٌ وعصرك أخضرُ
وما قاله محمود درويش (الفلسطيني):
لست نبيًّا ، ولكن ظلك أخضر
وما قالته سعاد الصباح (الكويتية):
يا ناصر البعيد .. يا ناصر العظيم
وما قاله ميشيل سعد (اللبناني):
أحببته ليس من ديني ولا بلدي
والحب ليس له دينٌ ولا بلد
وما قاله الفيتوري ، وما قاله الأبنودي ، وما قاله أحمد فؤاد نجم ، وما قاله التونسي ، والجزائري و… إلخ .
في الثالث والعشرين من يوليو انطلق رجلٌ لديه كرامة وعزة في نفسه ، وفي قلبه حلم نبيل .
أعيد القول بأن جمال عبد الناصر رحل ، وله ما له ، وعليه ما عليه ، وإن كان ما له يفوق ما عليه بكثير ، وبرأيي غير المتواضع لم أجد وصفاً موضوعيَّاً لجمال عبد الناصر كالوصف الذي اختاره عملاق الصحافة العربية هيكل :
إن خروج جمال عبد الناصر يوم 23 يوليو لم يكن ضربة صدفة ، وإنما كان حركة تاريخ .
ربما تكون الهرولة التي شهدناها ونشهدها نحو التطبيع في هذه الأيام تتطلب محاولة شيطنة عبد الناصر بهذا الشكل المؤسف الذي نراه اليوم ، ولكنها في المقابل حركت مشاعر الكثير من الجماهير العربية لتشتاق لشخصية فرضت احترامها ، وجعلت للعرب وزناً في ذلك الزمن