د. لينا الطبال: هل هذه آخر أخبارك، زياد؟

د. لينا الطبال
إذا كان هذا هو جديدك يا زياد، فنحن لا نريده….
ما زال زياد الرحباني يبتسم بصمت غريب، ينظر إلينا بعينيه المغمضتين، كأنه رأى كل شئ ولم يعُد يكترث. يغفو كأمير سئم المملكة، زياد نائم، أليس كذلك؟
لا، زياد يمارس المقاومة بأسلوبه الخاص، الانسحاب. هو ببساطة لا يريد أن يُشارك بعد الآن في كل هذا.
قراره بالصمت ابتداء من اليوم هو أقوى تصريح له. قرر أن يُغمض عينيه… ويحلم.
لكن، من يحلم اليوم؟ ومن يملك شجاعة الأحلام؟ زياد فقط.
زياد نائم، نعم. ويحلم بالوطن… ويا له من وطن، يا زياد.
في حلمه، يرى فلسطين… بلا حواجز، بلا معابر، بلا جنود يصادرون منك الوردة لأن لونها يُذكرهم بالدم الذي سفكوه منذ بداية تاريخهم، ثم يصرخون بك: “قف هناك تحت الشمس… واحترق.”
يحلم زياد بأن الاحتلال انتهى، وأن وجوه السلطة الناعمة ذهبت معه، هذه الوجوه التي كانت توقع صفقات التطبيع، وتبتسم ونحن نُقصَف. لا أحد يسأل عن “عباس”، طبعا. ولا أحد يفتقد سلطة نائمة منذ أوسلو…
دمشق، في الحلم، أعادت “جول جمال” إلى المناهج، ورفعت شارة النصر فوق المقبرة الوطنية التي تم فيها دفن نصف الشعب بكل أطيافه. وفي الحلم الجميع يصفق، حتى الشهداء. وهناك تمثال لمناضلة جميلة اسمها سوريا ترفع شارة النصر.
غزة أصبحت حقا ريفييرا فلسطين، على الرغم عن أنوفهم جميعا. ساحات خضراء، ورمال ذهبية وبحر ازرق، وزوارق ملونة.
هكذا يشاهد زياد الحلم بالألوان…
وانت؟ خطر لك أن تسأل نفسك، هل ترى أحلامك بالألوان أو فقط بالأبيض والأسود؟
نعم، في الحلم، شوارع غزة تفوح بعطر السنوار والضيف، عطر مقاوم، مزيج من البارود… والحنين.
الأطفال يلعبون في ساحات سُميت على أسماء شهداء فلسطين، وحولهم نساء أنجبن نفس الأطفال الذين أبادتهم إسرائيل.
نفس الأسماء.
نفس الوجوه.
نفس العيون… لكن هذه المرة بلا دموع. فالدموع ممنوعة في احلام زياد.
يا لخيبة إسرائيل… كلما قصفت بيت، أعدنا اعمار عشرة. وكلما قتلت طفل… انجبت نساءنا مئة.
في الحلم، لم تعد بيروت تُرسل شعراءها إلى الخليج كخدم ثقافيين، ولم تعد تستجدي مؤتمرات التمويل من عواصم الغرب.
وقد اقتلعت جميع العيون والكاميرات من فوق أبواب السفارات.
في الحلم، الوطن العربي وطنٌ مفرد، لكنه جمع الجموع من ” طنجة حتى صلالة”… يحلم أن الشعوب العربية تجتاز الحواجز الحدودية مع فلسطين، تقتحمها، كما نادى المناضل جورج عبد الله، وتسوي وتستعيد.
هل أنت متعب إلى هذه الدرجة كي تنام، يا زياد؟ أو أنك مستاء إلى هذا الحد؟ الاثنان، ربما.
قرر زياد أن يُغير المقام الموسيقي، وأن يتركنا نترنح وحدنا… نحن، جيله. جيل زياد الذي تربينا عليه، نحن أبناء الحرب الأهلية، مواليد السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات. نعم، تماما: نحن مرضى الحرب النفسيون، ونحمل مرضنا بشرف.
نحن جيل التروما، والدماء، والمعارك. الجيل الذي خاض حروبه في النهار، ودفن أصدقاءه وأهله في النهار أيضا، ثم، في المساء، كان يبحث عن “شريط كاسيت” لزياد، حتى يصمد…ويتمكن ببساطة من الاستمرار.
هل ذهبت، مثلي، تحت القصف لشراء “شريط كاسيت” لزياد؟ أمر سخيف، طبعا ان تُفضل أغنية على حياتك… لكننا فعلناها.
هل احتميت من قنّاص وأنت تعود من بيت صديقك، ومعك تسجيل جديد له؟… لم نتردد.
كل واحد منا كان يؤمن بأن زياد يكتب له وحده، يوجه حديثه إليه وحده. لم نكن جمهوره… كنا جيله وأبناءه.
وعندما قُصِفت بيوتنا، هل كان أول ما بحثت عنه تحت الأنقاض هو شريط زياد؟ وعندما هجرتك البلاد، ألم يكن أول ما حملته معك هو شريط زياد… وصوت فيروز؟ الصوت الذي جعلنا نُصدق أن هذا الجحيم وطن، وأن هذا الوطن يمكن أن يُحَب… رغم كل شيء.
نحن هؤلاء المرضى، نعم، ضحايا الحروب وضحايا مرحلة، ونظام، وسلاح تم توجيهه الى اجسادنا ووعينا أيضا.
نشعر بالرعب من الأصوات المفاجئة، خاصة الأبواب عندما تُغلق بعنف… نحن المناضلون والمقاتلون قد يعيدنا صوت باب واحد الى خوف طفولتنا والى نقطة الصفر. ونرتبك من نظرة نُفسرها، نُعيدها، نُبالغ في قراءتها… ونمنح عواطفنا بسهولة مَرضية، بلا شروط. نحن أبناء الحفر النفسية ومصابو اضطراب الكرب ما بعد الصدمة.
نحن من يثق كالأبله، من لا يتعافى إلا ظاهريا ثم يسقط عند أول خبر سيء، أو أول أغنية… يا للسخرية!
هذا ليس مقال عن فنان، هذا مقال عن معلم، عن أب ربما، أدى دور المعالج في بيئة تُنتج المرض… كان يُدير جلسات علاج جماعية عبر شريط كاسيت، ويشخص الألم بـ”نوتة” بيانو فيها من الغضب ما يكفي. اجل، نحن جيله. نحن الذين خذلتهم الدولة، والبنوك، والطائفة، والأحزاب والمنافي… لجئنا الى زياد.
كان يضحك ويشتم… ثم يضحك مجددا، ونضحك معه، وهذا كان شكل من أشكال المقاومة.
معك حق يا زياد…في هذا الشرق، النوم أصبح هو الحل الوحيد للراحة.
كنت تَشتُم الجميع ولم يكرهك أحد. سخرت منهم دفعة واحدة، وسمعوك كواعظ لهم.
كنت الوحيد الذي لم يطلب منا أن نختار أي طرف وان نعتبر جميع الأطراف بلا معنى… باستثناء المقاومة، طبعا.
المقاومة هي رد فعل فيزولوجي… مثل الجوع، مثل الكآبة، مثل أن تفتح النافذة ذات صباح فتكتشف أن جارك الذي كان يبتسم لك كل يوم يقاتل في المعسكر الذي فجر منزلك… في تلك اللحظة بالذات تقاوم.
لكن زياد، يا زياد…افتح عينيك. لا وقت للحلم الآن.
الاحتلال جالس على الكنبة، يشرب قهوتي، ويُدندن من ألحانك.
أهذا هو جديدك يا زياد؟
لا نريده جديدا.
نريده طلقة نارية. نريد كلمات تُلقي بها على رأس هذا العالم المتفرج والنائم على أصوات الإبادة في غزة.
لا، لا تُخطئ الفهم… لا تظن أنني أرثيك، فأنا، في ذروة دموعي وفجيعتي، لم أكتب لأرثي انما لألعن. لطّفت كلماتي فقط، كي لا تفزع أيها الأمير النائم… نمت باكرا. لطفت كلماتي كي لا يفزع القارئ ويظن انني ارثيك…
نحن لا نرثي من أنجب جيل كامل من الكلمات المقاومة، أنا لا أرثي، انا اكتب فقط.
هذه كلمات جيل لا قصيدة وداع. جيلك يا زياد، جيل الحرب، والشارع، والخذلان، والقلق.
جيلك يا زياد الذي سيشهد زوال الاحتلال… بدونك.
نحن هذا الجيل.
ولن نغفر لهذا العالم الذي جرّك الى التعب، وأجبرك أن تنام.
باحثة واكاديمية – باريس