د. محمد خليل الموسى: تحليل رؤية العالم الثالث للقانون الدولي من منظور عربي إسلامي نحو تحقيق العدالة العالمية الحقيقية بعد أحداث غزة

د. محمد خليل الموسى
مقدمة : الحاجة إلى تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي
من حيث المبدأ، يهدف القانون الدولي إلى تنظيم العلاقات داخل المجتمع الدولي، وفي مقدمتها العلاقات بين الدول. وقد أدت الإبادة الجماعية التي ترتكب في غزة إلى إثارة تساؤلات جوهرية حول عدالته الكونية وحياديته الفعلية. فلم تعد مقولة أن “القانون الدولي يكفل ويحمي ويضمن” من المقولات المسلم بها، وبات السؤال الأساسي هو لماذا يخفق القانون في غزة؟ لماذا لم يحم أهل غزة؟ ولماذا لم يساهم في إعمال حق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير؟
لذلك، فإن تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي TWAIL ) ) يظهر كتيار نقدي جذري وحاسم يعيد قراءة القانون الدولي من منظور ما بعد الاستعمار، مسلطًا الضوء على التمييز والاستعمار والإخضاع المستمر الذي تعاني منه دول العالم الثالث، خصوصًا في منطقتنا العربية والإسلامية، حيث تُجسد فلسطين وغزة المأساة الحقيقية لقصور هذا القانون وانحيازه بما يتضمنه من قواعد آمرة أبرزها وأوضحها تحريم الإبادة الجماعية ووجوب احترام حق الشعوب في تقرير المصير.
هذا التيار ليس تيارا نقديا سطحيا، بل يستند إلى فلسفات نقدية عميقة وحفريات تاريخية وفكرية وفلسفية تعيد بناء فهمنا للقانون الدولي، بعيدًا عن النظرة الغربية الأحادية المبنية على رؤية كولونيالية أو استعمارية للعدالة الكونية، ليثبت لنا بوضوح كيف يكرّس القانون الدولي آليات القوة التي تدعم الهيمنة وتعمّق الفوارق بين الدول القوية والضعيفة، وهو ما يتجلّى بوضوح في استمرار الانتهاكات الفظيعة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والأراضي المحتلة.
في هذا السياق، يتبنّى الفكر العربي والإسلامي تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي TWAIL من خلال رؤى فكرية رائدة لمفكرين مثل مالك بن نبي، عبد الوهاب المسيري، محمد طلعت الغنيمي، الكواكبي، وطه عبد الرحمن. هؤلاء المفكرون ( باستثناء الغنيمي) لا ينتقدون القانون الدولي الحديث مباشرة ولا تقتصر آثارعملهم على نقد القانون الدولي فحسب، بل يدعون إلى تأويل نقدي تفكيكي للحداثة الغربية بمقدورنا توظيفه والبناء عليه لإعادة تشكيل الخطاب القانوني في ضوء خصوصيات وتحديات منطقتنا، وبالأخص مأساة فلسطين وغزة؛حيث تتلاقى أبعاد العدالة، السلطة، والتاريخ.
في هذا المقال، سأستعرض الحاجة المُلحة إلى تأويل نقدي من منظور تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي (TWAIL) في الفكر العربي والإسلامي، مسلطا الضوء على إمكانات هذا التأويل في تحقيق عدالة كونية حقيقية تتعدى فجاجة الادعاء الغربي المتكرر بوجوب إقامة العدالة العالمية واحترام حقوق الإنسان، وتؤسس لفهم أكثر شمولية وصدقًا ورهافة للقانون الدولي في سياقنا الخاص، مع الحرص على ضرورة أن يشمل هذا التأويل صوت ومعاناة الفلسطينيين في غزة كحالة مركزية ورمزية تدشن لحقبة مختلفة في التعاطي مع القانون الدولي في العالمين العربي والإسلامي. .
القانون الدولي: هيمنة متأصلة في ماض استعماري
الواقع أن القانون الدولي عبر تاريخه المادي لم يكن سوى انعكاس لمنطق القوة الاستعمارية، متجذرًا في بنية الهيمنة التي ما تزال تتكرس وتتلون بأشكال جديدة في أيامنا هذه. فليس واقعيا ولا صحيحا القول أنه شكل تاريخيا وفعليا إطارًا حياديًا ينظم العلاقات بين الدول بشكل متساوٍ، بل أداة فرضتها الدول الأوروبية الاستعمارية لتحقيق مصالحها وتكريس سيطرتها على العالم. فقد أسّس هذا القانون، سواء بصورة صريحة أو متوارية، نظاما دوليا داعما ومعززا للهيمنة الكولونيالية، وما زالت شعوب العالم الثالث تعاني من آثار الاستعمار المباشر وغير المباشر وشرعنة العلاقات غير المتكافئة إلى وقتنا هذا.
من السمات المميزة لتيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي ( TWAIL) أنه يركز على هذا الجانب النقدي، إذ يدلل على أن القانون الدولي لم يكن مجرد مجموعة قواعد قانونية موضوعية، بل وسيلة للحفاظ على توازن قوى غير عادل يخدم مصالح الدول الكبرى على حساب دول العالم الثالث. فالقانون الدولي، من منظورتيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي TWAIL، هو وسيلة لتبرير الممارسات الاستعمارية الحديثة، بما فيها الاحتلال العسكري، والتدخل السياسي والاستغلال الاقتصادي، وهو ما يثبته استمرار الاستعمار عبر أشكال جديدة في عصر ما بعد الاستعمار.
وفي هذا السياق، يمكن لنا القول أن فكر مالك بن نبي ينطوي على أهمية كبيرة، إذ أكد في كتاباته أن الغرب لم يفرض فحسب نظامًا سياسيًا واقتصاديًا، بل منظومة قيم وقواعد عَلمانية مادية غربية الجوهر والروح على المجتمعات العربية والإسلامية. هذه المنظومة تجاوزت تمامًا الهوية الحضارية والثقافية لتلك المجتمعات، ما أدى إلى أزمة وجودية وأخلاقية عميقة تمثلت بتمزق الذات الثقافية بين الهوية المحلية والهيمنة الغربية المفروضة.
من جهة أخرى، ورغم أن عبد الوهاب المسيري لم يكتب بصورة مباشرة عن القانون الدولي كقانون، لكنه ناقش الأطر الفكرية والثقافية التي تنتج قواعد قانونية ومعيارية تخدم الهيمنة الغربية، ما يتيح لنا القول بإمكانية استنباط رؤية نقدية للقانون الدولي من خلال تحليله للحضارة الغربية والعقل الأداتي. فنجد أنه سعى من خلال نقده للحضارة الغربية وللعقل الغربي إلى التأكيد على أن القانون الدولي كمنتج أوروبي يخدم أيديولوجيا الهيمنة الغربية. وبمقدورنا القول استنادا إلى رؤيته النقدية تلك، أن القانون الدولي، بدلاً من أن يكون أداة للعدل والمساواة، تحول إلى أداة وظيفية تُشرّع الهيمنة الاقتصادية والثقافية على دول العالم الثالث، ما يعمّق الفوارق ويكرّس استبعاد هذه الدول من دائرة صنع القرار الدولي.
أما محمد طلعت الغنيمي، فقد قدم قراءة فلسفية تأصيلية للقانون الدولي من منظور الفكر الإسلامي، مشددًا على أهمية استحضار القيم الإسلامية التي توازن بين العدالة والحرية. وقد أكد الغنيمي على أن هذه القيم تشكل إطارًا بديلًا قادرًا على مواجهة الانقسامات والظلم الهيكلي الذي يكرّسه النظام القانوني الدولي الحديث، إذ تُعطى الأولوية لكرامة الإنسان وحقوقه وحماية المجتمعات من الهيمنة والاستبداد. والغنيمي بحق من أوائل فقهاء القانون الذين قدّموا قراءة تأصيلية نقدية للقانون الدولي في ضوء الفكر الإسلامي. ورغم أنه لم يطرح “إطارًا بديلاً متكاملاً”، إلا أنه قدم ملاحظات تأصيلية وقيمية جوهرية تتعلق بمواءمة القانون الدولي مع مقاصد ومبادئ الشريعة الإسلامية كنظام قانوني مطبق في مجموعة من الدول التي تتحلى بخصوصيات ثقافية واجتماعية معينة . ما يعني أنه رأى بأن عالمية القانون الدولي تقوم على شمولية النظم الحضارية والشرائع العالمية المختلفة وليس على النظام القانون الغربي وحده ومرجعياته الفكرية والفلسفية حصرا.
من الكواكبي إلى طه عبد الرحمن : ملامح تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي
إن تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي ) TWAIL)ليس مجرد تيار نقد أكاديمي تقني للقانون الدولي، بل يعد حركة فكرية تحررية شاملة تسعى إلى إعادة بناء هذا القانون من منظور الشعوب المستعمَرة سابقًا، وعلى رأسها البلدان العربية والإسلامية التي ما تزال ترزح تحت تبعات الاحتلال، والتدخلات الأجنبية، وصور الاستعمار الجديد.
وفي هذا السياق، ليس عسيرا علينا أن نعثر على قواسم مشتركة عميقة بين مبادئ هذا التيارومرتكزاته وبين بعض الأصوات الفكرية العربية والإسلامية الرائدة التي سبقت نشوء هذا التيار أو تقاطعت معه دون تبنٍّ مباشر له ، وهي كما قلنا من خارج دائرة الفكر القانوني. أولى تلك التقاطعات نجدها عند عبد الرحمن الكواكبي أحد أبرز مفكري النهضة الذين طرحوا نقدًا جذريًا لبنية الدولة والسلطة في الشرق الإسلامي، وركّز على العلاقة الوثيقة بين الاستبداد الداخلي والتبعية الخارجية. فقد أكد على السيادة والعدالة لا تتحققان ما لم تُعاد صياغة مفاهيم الحكم والسياسة بمعزل عن النماذج والهياكل القانونية والسياسية المفروضة من الخارج. وهذا ما يلتقي مع أطروحات تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي التي تنتقد بشدة شرعنة السيطرة الغربية على الشعوب، وفرض أنماط قانونية لا تعبّر عن تجاربها التاريخية أو قيمها الحضارية.
وعلى خط مواز، نجد أن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يضفي إلى هذا المسار النقدي بعدًا فلسفيًا معرفيًا عميقًا، من خلال قراءته لأزمة العقل العربي والإسلامي في تفاعله مع الحداثة الغربية. فهو لا يرفض الحداثة جملةً وتفصيلا، لكنه يدعو إلى تجديد الخطاب الديني عبر بناء معرفة نقدية متحررة من التبعية، قادرة على إعادة تفعيل القيم الإسلامية الأصيلة ضمن تصور معاصر. وهذا ما يتفق مع منظور تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي، الذي يعتبر القانون الدولي ساحة للصراع الرمزي والمعرفي، وليس مجرد نصوص قانونية جامدة. فالقانون، من هذا المنظور، يعكس موازين القوى، ويستوجب وعيًا نقديًا قيميًا قادرًا على تفكيك الهيمنة، لا مجرد امتثال شكلي لقواعد دولية جرى تكوينها بدون إرادة الشعوب.
وجود مثل هذه الرؤى الفكرية في الفكر العربي والإسلامي لا ينبغي أن نفهم منه أن هناك تطابقًا تاما مع مقولات تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي، ولكنه يعزز إمكانية العمل على بلورة مشروع تأويلي نقدي أصيل للقانون الدولي الحديث ينطلق من واقعنا، ويستفيد من منجزات تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي، بغية المساهمة في إعادة بناء قانون دولي عالمي مقاوم أكثر عدالة وصدقًا في التعبيرعن تطلعات شعوبنا وشعوب العالم جميعها وليس التعبير عن مصالح ورغبات دول مركز القرار الغربي في العالم حصرا.
غزة وفلسطين: جرح العدالة الغائر ووظيفية القانون الدولي
لا يمكن نقد القانون الدولي من منظور تيار العالم الثالث (TWAIL) دون الوقوف مطولًا عند مأساة فلسطين وغزة، التي تمثل نموذجًا صارخا ومأساويًا لإشكالية القانون الدولي في العالمين العربي والإسلامي.، بل وفي العالم أجمع. فهذه الحالة تظهر بصورة واضحة عجز القانون الدولي عن حماية الحقوق الأساسية لشعب يعيش تحت احتلال مستمر ويتعرض منذ عقود من الزمن لسياسات تمييزية ولإبادة جماعية رغم وجود أطر قانونية واضحة تحمي حقوق الشعوب، وتجرّم الاحتلال والاستيطان والإبادة الجماعية والاعتداءات على المدنيين. ورغم احتفاء المحافل القانونية والفقهية الدولية بوجود قواهد آمرة في القانون الدولي لا يجوز استبعادها وتشكل نظاما عاما دوليا يحمي مصالح عمومية للمجتمع الدولي برمته ولا يجوز الانتقاص منها أو استبعادها. ورغم وجود محاكم دولية من بينها محاكم جنائية دولية ومحاكم حقوق إنسان ومحكمة العدل الدولية.
رغم كل ما سبق الإشارة إليه، يجري توظيف القانون الدولي في الكثير من الأحيان كأداة تُبرّر الانتهاكات أو كوسيلة ذات طابع تحويلي أو إقلابي مكرسة لخدمة مصالح القوى الكبرى، مما يجعل تطبيقه من الناحية العملية بعيدًا عن العدالة والإنصاف. هذا الفصام والانفصال بين نصوص القانون ووضعه الفعلي موضع التطبيق يُعيد إنتاج منظومة قانونية تستند إلى قواعد استعماريّة قديمة تُكرّس الهيمنة ، وتُهمّش حقوق الشعوب وتعزز عدم المساواة داخل النظام الدولي.
وقد وجدنا بالمقابل، أن ثمة محاولات داخل الفكر النقدي العربي والإسلامي تتقاطع مع مقاربات تيار العالم الثالث (TWAIL) في نقد القانون الدولي لتأسيس منظور تحليلي نقدي يعبر عن تجربة الشعوب المُستعمَرة سابقًا، ويكشف القصور البنيوي في القانون الدولي المعاصر. ما يجعل الحاجة ماسة وملحة لإعادة النظر في جذور القانون الدولي، وإلى تطوير بدائل قانونية تتأسس على مبادئ العدالة والإنسانية، تتناسب مع خصوصيات واحتياجات دول وشعوب العالم الثالث.
من الطبيعي أن هذه البدائل لا تتحدد بالجانب القانوني فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة بناء منظومات سياسية وأخلاقية تضمن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحميها من الاستغلال والقهر، وتعزز حضورها الكامل في صناعة القرار الدولي، بعيدًا عن هيمنة الدول الكبرى ومراكز القوة التقليدية.
خاتمة : تفكيك الهيمنة وبناء عدالة بديلة في القانون الدولي من منظور الجنوب
لا ريب أن نقد القانون الدولي من منظور تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي (TWAIL) داخل الفكر العربي والإسلامي ليس مجرد انتقاد شكلي أو تقني؛ بل هو حركة نقدية تفكيكية تاريخية وفلسفية تستهدف إعادة قراءة الواقع السياسي والقانوني الذي تعيشه بلداننا، وتفضح التناقضات وأوجه القصور البنيوية في النظام القانوني الدولي المعاصر. وهو نقد يعتمد على تعاضد وتراكم رؤى فكرية عميقة قدّمها مفكرون كبار مثل مالك بن نبي، عبد الوهاب المسيري، محمد طلعت الغنيمي، عبد الرحمن الكواكبي، وطه عبد الرحمن، أسهموا في بناء رؤية نقدية تتيح فهم جذور الأزمة القانونية والسياسية، وتطرح أسئلة جوهرية حول مفاهيم السيادة والعدالة والحرية، بما ينسجم مع خصوصيات المجتمعات العربية والإسلامية.
هذه الرؤية النقدية لم تكن الغاية من ورائها تحليلا سلبيا يكتفي بكشف أوجه الخلل ومكامن القصور البنيوي، بل تشكل قاعدة صلبة لإعادة بناء القانون الدولي وفق تطلعات الشعوب جميعها وبشكل يكفل تحقيق حقوق الشعوب المقهورة والمضطهدة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي بات أيقونة للشعوب المناضلة ضد الهيمنة والاستعمار. فضلا عن أنه يهيئ الطريق أمام بناء عدالة دولية حقيقية تتعدى مصالح القوى الاستعمارية الغربية.
الواقع أنه رغم شدة التعقيدات وهول التحديات التي تعتري هذا الطريق وطول المسيرة وبُعد المسافة عن تحقيق الهدف المأمول، يبقى تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي (TWAIL ) والفكر النقدي العربي والإسلامي من بين أهم الأدوات الفاعلة للنضال القانوني والفكري، التي تتحدى إرث الاستعمار المتأصل ونسق الهيمنة المتجذر في القانون الدولي، وتشرع أبوابا جديدة نحو عالم أكثر عدالة وإنصافًا. ولتحقيق ذلك، نعتقد أن ثمة خطوات وتدابير يتعين الشروع بها من أهمها :
1.إعادة فهم وتأصيل القانون الدولي ضمن حوار حضاري بغية وضع فكرة التعددية القانونية وتنوع النظم الحضارية موضع التطبيق الفعلي بدلاً من الخضوع لنظام غربي أحادي الطابع، مع دعم الشرائع والقوانين المحلية لتحقيق العدالة وهو أمر يقر به القانون الدولي الراهن على المستوى النظري.
2.دعم دور دول الجنوب في صنع القرار الدولي من خلال إنشاء هيئات تمثيلية تعبر عن التنوع الجغرافي والسياسي الحقيقي، وتمكين الشعوب العربية والإسلامية فعليا من أن يكون لها صوت مؤثر في تكوين قواعد القانون الدولي بدلاً من أن تكون أطرافًا متلقية، خاصة وأن حكوماتها نادرا ما تعبر أو تتلمس تطلعات تلك الشعوب في عملية تكوين القواعد القانونية الدولية . ولا نغالي إن قلنا أنها تقنيا نادرا ما تكون فاعلة أو قادرة أصلا على القيام بذلك. لاعتبارات يدركها القاصي والداني.
3.بناء تصور قانوني إسلامي عربي متكامل للنظام القانوني الدولي عبر تطوير مشروع قانوني يجمع بين القيم الإسلامية والقواعد الدولية النافذة بما يراعي خصوصيات منطقتنا ويلتزم بمبادئ العدالة والكرامة والحرية والإنسانية التزاما كليا وراسخا،. الأمر الذي يفتح آفاقًا جديدة لإنشاء إطارعالمي بديل للعدالة الكونية لا يكون أحادي الرؤية أو غربي الهوى.
4.إعادة النظر بطرائق التعليم والبحث في القانون الدولي على أساس نقدي وتأويلي ودعم الدراسات التي تعتمد المنهج التفكيكي وما بعد الاستعماري في نقد القانون الدولي، وتطوير برامج أكاديمية تعزز خطابًا قانونيًا عربيًا إسلاميًا نقديًا ومبدعًا أسوة بتيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي، خاصة وأن غزة كشفت عن هشاسة وتواضع معرفة شريحة كبيرة من المشتغلين بالقانون الدولي في العالم العربي بنظرياته المعاصرة، وطرائق نقده وأطروحات المدارس والتيارات النقدية المعاصرة المختلفة المتعلقة به(وأعني هنا المتخصصين أكاديميا وليس نشطاء حقوق الإنسان وهواة القانون الدولي الذين يفتقر السواد الأعظم منهم أصلا للتكوين العلمي والأكاديمي وللقدرات البحثية في هذا الحقل المعرفي). فقد كانت الفجوة بين ما يقولونه تعليقا بشأن تحريم الإبادة الجماعية ووجوب احترام حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير، وأهمية دور محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وغيرهما من المؤسسات الدولية بمناسبة تعليقهم على ماساة غزة، وبين عجز وإخفاق تلك القواعد والمؤسسات عن حماية غزة هائلة ومحيرة . والسبب في ذلك أن تكوينهم العلمي والمعرفي ليس تكوينا نقديا ولا يتمتعون بفهم فلسفي وسيوسيولوجي للقانون الدولي ويهيمون في تكرار قواعد تقنية لا يحيطون علما بتأويلها، وفهمها وتوظيفها وتسخيرها بسبب غياب التكوين النقدي والحس الفلسفي المرهف لديهم. وليس المقصود بهذا القول الانتقاص منهم ولا الإساءة إليهم، لأن ذلك مرده التعليم والتكوين المعرفي الذي تلقونه في مؤسسات التعليم العالي العربية. الأمر الذي يجعل من إعادة النظر في طرائق ومسارات تعليم القانون الدولي والبحث فيه في البلدان العربية والإسلامية والانتقال إلى مقاربات نقدية ضرورة ملحة كي نتقن التعامل مع القانون الدولي ونساهم جديا وفعليا في إعادة بنائه وتطويره.
لا شك أن هذا المشروع الكبير يتطلب إرادة سياسية وفكرية قوية من دول وشعوب الجنوب العربي والإسلامي، مدعومة برؤية نقدية متجددة تجمع بين التراث والتجديد، مع التزام إنساني عميق يهدف إلى تحقيق عدالة كونية حقيقية لا تميّز بين شعوب العالم. وفي الختام، فإنني أتطلع أن يكون مقالي هذا خطوة أولى في هذا الطريق لعله يساهم في جهود تأسيس تيار نقدي عربي وإسلامي للقانون الدولي يستلهم تيار العالم الثالث في نقد القانون الدولي ويعاضده في مقاصده ومراميه النبيلة.