د. مصطفى التل: غزة.. المقاومة تعيد صياغة التوازن وتضع إسرائيل في أزمة استراتيجية

د. مصطفى التل
بعد 659 يوماً من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تبرز حقائق جديدة تكشف عمق الأزمة الاستراتيجية التي تعيشها الدولة العبرية.
ما بدأ كمحاولة لتحقيق نصر سريع وحاسم تحول إلى حرب استنزاف ممتدة، تكشف يوماً بعد يوم عن فشل الذراع العسكرية الإسرائيلية في تحقيق أي من أهدافها المعلنة. القضاء على المقاومة؟ تحرير الأسرى؟ استعادة الردع؟ جميعها تحولت إلى أوهام يصعب تحقيقها في واقع أصبحت فيه غزة بمثابة مقبرة للطموحات الإسرائيلية.
لعل المفارقة الأكثر إيلاماً للقيادة الإسرائيلية تتمثل في ذلك التناقض الصارخ بين القوة النارية الهائلة التي تمتلكها، والعجز الواضح عن تحويل هذا التفوق العسكري إلى إنجازات ميدانية حقيقية. فبرغم الدمار الهائل الذي حل بغزة، ما تزال المقاومة قادرة على إطلاق الصواريخ، وتنفيذ العمليات العسكرية، والمحافظة على تماسكها التنظيمي. هذه المعادلة المحيرة تطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى الحلول العسكرية في مواجهة حركات المقاومة، وتؤكد أن القوة وحدها لا تكفي لتحقيق النصر.
في الجانب الآخر، قدمت المقاومة الفلسطينية دروساً بليغة في التخطيط الاستراتيجي والمرونة التكتيكية. فالشبكة المعقدة من الأنفاق تحولت إلى كابوس حقيقي للقوات الغازية، بينما استمرار إطلاق الصواريخ رغم كل محاولات القصف المكثف أثبت أن المقاومة تمتلك من المرونة ما يمكنها من تجديد قدراتها بشكل متواصل. الأهم من ذلك كله هو ذلك التلاحم الشعبي غير المسبوق مع المقاومة، والذي حول المعركة من مواجهة عسكرية إلى تحد وجودي للاحتلال، يصعب فيه الفصل بين الجندي المسلح والمدني الصامد.
تداعيات هذا الفشل الإسرائيلي بدأت تظهر على مختلف المستويات, فالاحتجاجات الداخلية تتصاعد بصورة غير مسبوقة، مطالبة بإنهاء الحرب التي أرهقت الاقتصاد وأضعفت الأمن وأثارت غضب المجتمع الدولي.
على الصعيد الإقليمي، أعادت المعركة الاعتبار لفكرة المقاومة المسلحة، وفتحت الباب أمام تحالفات جديدة قد تعيد رسم المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
أما دولياً، فإن الصورة المأساوية لغزة بدأت تهز ذلك الدعم الأعمى الذي كانت تتمتع به إسرائيل لعقود.
الحقيقة التي باتت تفرض نفسها هي أن إسرائيل وجدت نفسها في مأزق لا تُحسد عليه, فاستمرار الحرب يعني مزيداً من الخسائر البشرية والمادية، بينما الانسحاب دون تحقيق الأهداف سيكون اعترافاً رسمياً بالهزيمة.
هذا الوضع يؤشر إلى مرحلة جديدة في الصراع، قد تكون نقطة تحول تاريخية في موازين القوى، حيث تثبت المقاومة أن الإرادة الشعبية حين تتحد مع التخطيط الاستراتيجي يمكنها أن تتحدى أعتى الآلات العسكرية، وتفرض معادلات جديدة يصعب اختراقها.
غزة اليوم لم تعد مجرد قطاع محاصر، بل أصبحت نموذجاً للصمود وتذكرة قوية بأن حقبات الاحتلال لن تدوم إلى الأبد.
كاتب لبناني