الاستيطان تحت بند السياحة: هل ابتُكر لسلب واستنزاف الأرض الفلسطينية؟

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر
زهرة خدرج
الاستيطان السياحي، أحد أشكال الاستيطان، ويتضح أنه أداة كولونيالية، ابتكرته الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية، ومضت تروج له تحت مسمى” السياحة لأرض التوراة”، وتسعى بموجبه للسيطرة على الأرض الفلسطينية وما تحويه من عيون ماء ومناطق أثرية وسياحية وتاريخية، وتغيير معالمها الطبيعية وتحويلها إلى وجهات سياحية تخدم أجندتها السياسية والاقتصادية.
“عامود عنان” تطبيق متوفر مجاناً للجمهور على الانترنت للسياحة التوراتية، وهو موسوعة جغرافية من الخرائط لكل شبر من فلسطين والتي غُير اسمها بفعل فاعل لتصبح ” أرض إسرائيل”.. يحجب هذا التطبيق جميع المواقع الأثرية العربية والإسلامية وحتى المدن الفلسطينية. عامود عنان بالعربية يعني “عمود السحاب“، وقد استخدم الاحتلال الاسم ذاته على عدوانه على قطاع غزّة سنة 2012، فالاسم يرتبط بروايةٍ توراتية تستعرض تيه اليهود في سيناء وضياعهم لمدة أربعين عاماً، حيث أرسل الله لهم عموداً امتد من الأرض إلى السماء ليرشدهم في تجوالهم.
منصات عالمية إلكترونية أخرى تروج للسياحة الاستيطانية أيضاً وتدعمها. فبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية، فإن شركات “اير بي إن بي” Airbnb، و”بوكينج دوت كوم”Booking.com، و”إكسبيديا” Expedia، و”تريب أدفايزر” TripAdvisor، وهي كبرى الشركات التي تقدم خدمات سياحة وحجز أماكن الإقامة والرحلات عبر الإنترنت، تغذي انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، بإدراجها مئات الغرف والأنشطة داخل المستوطنات الإسرائيلية القائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يشجع بدوره على السياحة إلى هذه المستوطنات، ويسهم في استمرارها وتوسعها.
ينتشر هذا النوع من الاستيطان بكثافة في القدس لثرائها بالآثار القديمة التي تنغرس في كل مكان فيها، مثل سور المدينة وقلعتها، ومتحف الآثار الفلسطيني الذي أزال الاحتلال اسمه الفلسطيني وأسماه “متحف روكفلر”، والأنفاق الأرضية، ومغارة سليمان، وقنوات المياه، والكنائس والمساجد والأديرة والتكايا والمقامات والمزارات والمتاحف والمكتبات… وغيرها.
كما وينتشر الاستيطان السياحي بكثافة في الأغوار الفلسطينية؛ فقد كشفت صحيفة هآرتس أن الحكومة الإسرائيلية خصصت 417 مليون شيقل (113 مليون دولار) لتطوير مستوطنات شمال البحر الميت بمبادرات سياحية. وقد أنشأ المستوطنون أبراجاً سياحية على البحر الميت، واستولوا على الينابيع بحجة السباحة والتنزه. وقد وثَّق تقرير لمنظمة بتسيلم أن إسرائيل تستغل نحو 85% من مساحة الأغوار وشمال البحر الميت، وتمنع الفلسطينيين من استخدامها بهدف إلغاء وجودهم فيها ومنع أيّ تطوير لمناطقهم؛ كما تقيِّد وصولهم إلى مصادر المياه الوفيرة في المنطقة، وتمنعهم من بناء منازل لهم وتوسيع وتطوير بلداتهم. وأضاف التقرير أن السلطات الإسرائيلية تبذل جهدها لخلق واقع معيشي لا يطاق لدفع السكان الفلسطينيين إلى مغادرة منازلهم وأراضيهم. وتضع إسرائيل في تلك المناطق تصنيفات مختلفة لفرض الأمر الواقع مثل: المساحات المغلقة، ومناطق إطلاق نار، والمحميّات الطبيعيّة، والحدائق الوطنيّة… الخ.
وينشط هذا النوع الاستيطاني أيضاً في الجولان السوري المحتل، حيث تموِّل الجهات المختصة في دولة الاحتلال السياحة البيئية وتشجِّعها؛ وذلك بإنشاء غرف فندقية في المستوطنات المقامة على أراضي الجولان، وتخصيص ميزانيات كبيرة لتطوير القطاع السياحي في المنطقة عبر تجهيز جميع المواقع الاثرية والتاريخية- والتي تكثر في الجولان-، حيث تعمد إلى تأمين كل ما يلزم السائح الإسرائيلي والأجنبي وتوفير سبل الأمان والراحة. إضافة إلى ذلك إعداد مسارات بيئية آمنة للتمتع بطبيعة الجولان الجميلة، ووضع لافتات تعريف للأماكن بحسب الروايات التوراتية، وتَسرد جمعيات تنمية السياحة في الجولان المرويات الدينية التي تبذل قصارى جهودها لتثبت أن الكهنة اليهود استوطنوا الجولان منذ قديم الزمان. وبالعادة، الجهات المسؤولة عن قطاع السياحة في دولة الاحتلال تنقل هذه الروايات إلى المرشدين السياحيين ليعمموها على الفئات المستهدفة.
تسخير علم الآثار لتزييف التاريخ ومصادرة الأرض
تعتبر رئيسة قسم رصد البناء الاستيطاني في حركة السلام الآن حجيت عفران، السياحة الاستيطانية بأنها نمط من فرض الوقائع على الأرض في الضفة الغربية والقدس، عبر تزوير الأماكن الأثرية وتهويدها بهدف طمس الوجود الفلسطيني ومحاربة الرواية الفلسطينية والآثار العربية والإسلامية من مختلف الحقب التاريخية بالاستناد لروايات توراتية، وإضفاء الصبغة الدينية اليهودية على المكان.
تستخدم الجمعيات الاستيطانية الغطاء الأثري ليكون بمثابة مبرر للاستيلاء على الأرض لإنشاء بؤر استيطانية عليها، سرعان ما تحصل على التراخيص اللازمة لتنمو وتتحول إلى مستوطنات تجتذب المستوطنين. وقد نوه الكاتب في صحيفة هآرتس نير حسون إلى أن المستوطنين في العقود الأخيرة اكتشفوا قوة علم الآثار كأداة للاستيلاء على الأرض وتشكيل الوعي، وجذب السياح وجمع التبرعات ونزع ملكيتها والسيطرة عليها. وكتب رافي جرينبيرج الأستاذ المشارك في علم الآثار في جامعة تل أبيب: “باعتبارهم ممثلين لنهج أكاديمي وعلماني، يجد علماء الآثار الذين يُنقبون في القدس أنفسهم في وضع فريد: مطلوب منهم التصرف بحياد؛ لكن القائمين على أعمال التنقيب – المسؤولون الحكوميون، ووكالات التنمية، والممولون، وصُنَّاع السياحة – يتوقعون منهم الخروج بنتائج تؤكد تصوراتهم”!
الصحفي الفلسطيني والناشط البيئي أمين أبو وردة، أفاد في لقاء خاص مع آفاق البيئة والتنمية، أن المستوطنين يلاحقون الفلسطينيين بأنواع مختلفة من الاستيطان تخدم هدفاً واحداً، وهو قضم الأرض الفلسطينية وسلبها من أصحابها. وبحسب أبو وردة زادت النشاطات الاستيطانية في الفترة الأخيرة في ظل حكومة اليمين المتطرف، ما فاقم خطورة تجوال الفلسطينيين في المسارات البيئية الفلسطينية بسبب سيطرة المستوطنين المسلحين عليها بذريعة وجود آثار توراتية وأضرحة ومقامات دينية، مثل مسار القلط، ووادي قانا، فصايل، الساكوت، جبل عيبال، قبر يوسف وغيرها.
ووفقا لأبي وردة، أثَّر هذا النوع من الاستيطان كثيراً على السياحة البيئية في الضفة الغربية، خاصة أن جيش الاحتلال يغلق المناطق المستهدفة بهذا النوع من السياحة ويجعل منها مناطق عسكرية مغلقة، يمنع الفلسطينيين من الوصول إليها، مثل: موقع برناط على قمة جبل عيبال.
وأضاف أبو وردة أن البيئة الفلسطينية باتت تُشوه جرَّاء تواجد المستوطنين بكثافة تحت حماية الجيش بمركباتهم العسكرية، عدا عن حافلات وسيارات المستوطنين التي تصطف بشكل كبير في هذه الأماكن، إضافة إلى تسييج المناطق المستهدفة بالأسلاك الشائكة ووضع يافطات باللغة العبرية كُتِبَت عليها مسميات غريبة للأماكن، تختلف عن المسميات المتعارف عليها فلسطينياً منذ القِدم؛ فبيسان مثلاً يسمونها بيت شان، وفي منطقة فصايل، كل المسميات المذكورة على هذه اليافطات غريبة ومبتدعة.
ويُجَرِّف المستوطنون أحياناً هذه الأماكن الطبيعية لإنشاء جدران استنادية لفصلها على الأراضي الفلسطينية. وفي أحيان كثيرة يسرقون منتجات البيئة الفلسطينية مثل الميرمية والعكوب وغيرها.
البيئة ضحية الاستيطان السياحي
من خلال تتبع الأحداث على الأرض والاطلاع على الدراسات والأرقام، يمكننا التوصل إلى خلاصة نهائية وهي أن الاستيطان السياحي يؤثر سلباً على الأرض والبيئة الفلسطينية، سواء من حيث التغيرات الجغرافية التي يُحدثها على الأرض، أم من حيث تهديده للتنوع الحيوي عليها.
ولا يقتصر الأمر على مصادرة الأراضي، وبخاصة تلك القريبة من المواقع الأثرية والدينية، والتوسع العمراني المحموم فوقها، لبناء المرافق السياحية والترفيهية والغرف الفندقية، وهو ما يحدث على حساب المساحات الخضراء والمناطق البرية ويدمر الأراضي الزراعية، ويستنزف الموارد الطبيعية فيها من ماء وتربة وغيرها، وذلك لتلبية احتياجات المستوطنين والسياح. وأثناء نشاطهم الاستيطاني، يقتلع المستوطنون، في أغلب الأحيان، النباتات البرية الطبيعية الأصيلة في المنطقة، ويزرعون مكانها نباتات دخيلة على البيئة الفلسطينية، ما يخل بالتوازن البيئي. كما يُدَمِّر هذا النشاط الاستيطاني موائل الحيوانات البرية، ويُلَوِّث عناصر البيئة بالنفايات والمياه العادمة، وهو ما تناولناه في موضوعات سابقة بمجلة آفاق البيئة والتنمية.