في ظل المجاعة: الشرعية تأتي من الميدان وليس من طاولات الحوار

د. أميرة فؤاد النحال
في لحظة تاريخية يتصدّر فيها التجويع كأداة حرب، وتُدار المفاوضات كغطاء ناعم لاستكمال الإبادة، يصبح تمسّك الفلسطينيين بالميدان ضرورة استراتيجية لحماية معادلة الردع وميزان الكرامة، المبعوث الأمريكي “ستيف ويتكوف” الذي تحرك تحت عنوان “إعادة إحياء المفاوضات” لم يعد يُنظر إليه كوسيط نزيه، فتصريحاته الأخيرة بشأن رد المقاومة الفلسطينية، واتهامها بعدم إبداء “حسن النية” تكشف بوضوح انحيازه الكامل للسردية الصهيونية، وتماهيه مع أولويات نتنياهو الأمنية وليس مع أي منطق اتفاق عادل أو مستقر.
تكمن خطورة هذا التحول في أمرين:
أولاً: أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع التجويع كأداة تفاوض، لا كجريمة حرب.
وثانياً: أن الضغط الجاري حالياً يستهدف حرف بوصلة النقاش من إنهاء العدوان إلى إثبات حسن نية فلسطينية، وكأن المذابح لم تقع، وكأن المجاعة ليست قائمة.
في هذا السياق، فإن الرد الإيجابي الذي قدمته المقاومة، والمستند إلى محددات واضحة تتعلق بوقف القتل، وضمان الانسحاب، وفتح المعابر يمثل الحدّ الأدنى من مقتضيات الصمود الشعبي، فالميدان هو من يُنتج التوازن، وهو من يفرض سقف النقاش، وأي تهميش له لحساب غرف التفاوض، هو إعادة تدوير للهزيمة بصيغ ناعمة.
إن تقدير الموقف هنا لا يحتمل الغموض: الولايات المتحدة ليست راعية اتفاق، بل طرفاً مباشراً في تعميق الكارثة، وغرف التفاوض، بتركيبتها وشروطها، تتحول تدريجياً إلى أداة تصفية سياسية، لا إطاراً لإنهاء الحرب، لذلك فإن الميدان الفلسطيني – بما فيه من صمود ونبض – بات يمثل الشرعية الوحيدة القادرة على إنتاج توازن حقيقي، والضامن الوحيد للحقوق السياسية والوجودية في آنٍ معاً.
منذ اللحظة الأولى، لم يكن المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف راعياً نزيهاً لأي عملية تفاوض، بل كان مجنداً سياسياً في غرفة عمليات العدو، ومن تحليل لغته، إيقاع تصريحاته، وحتى ترتيب أولوياته، يكشف بوضوح موقعه كناطق باسم الرواية الصهيونية، لا كوسيط يقف على مسافة واحدة، كما أنّ اتهامه الأخير للمقاومة بعدم إبداء حسن النية لا يصدر عن مراقب محايد، بل عن طرف شريك في الحصار، مدافع عن التجويع، ومشارك في هندسة المجازر تحت عنوان “إدارة الأزمة”، إنه ليس مراقباً من الخارج، بل أحد مهندسي الداخل، الذي يتقاطع في مهمته مع استراتيجية الاحتلال: شراء الوقت، تمييع المطالب، وتغليف التهجير بالتفاوض.
الولايات المتحدة لم تكن يوماً في موقع الوسيط، بل هي الطرف الأعلى في بنية العدوان، تشرعن الجرائم، وتراهن على كسر إرادة الناس لا على وقف العدوان، وما يفعله ويتكوف اليوم، هو إعادة إنتاج مشهد أوسلو، ولكن تحت الركام وبرائحة الجوع، وهذا في ميزان السردية الفلسطينية، لا يمكن القبول بفكرة الوساطة الأمريكية؛ فوسيط المجازر لا يبني سلاماً، بل يفاوض على استكمال الإبادة بأدوات ناعمة.
وفي مقابل تذاكي الوسطاء وتواطؤ الاحتلال، جاء رد المقاومة متزناً، مدروساً، ومشبعاً بروح المسؤولية الوطنية، ولم يكن الرد انفعالياً، ولا تصعيداً مجانياً، بل إعادة تموضع على أرضية الحق، فالاشتراط على تعديل خرائط الانسحاب، وضمان فتح المعابر، وإخراج المساعدات من قبضة المنظمات القاتلة، هو تأكيد على أن العدالة لا تُجزّأ، وأن أي تهدئة لا تعيد الحق ولا توقف النزيف، هي مجرد هندسة جديدة للنكبة.
المقاومة لم ترفض الاتفاق، بل رفضت أن يكون القبول مدخلاً لاستكمال الإبادة، أو أداة لإضفاء شرعية على هندسة الحصار القادم، ولذلك، جاءت الإيجابية الفلسطينية مشروطةً بأبسط مبادئ الكرامة: لا عودة إلا كاملة، ولا أمن إلا مشتركاً.
وكما أكدت الكاتبة مِراراً، وفي أكثر من سياق؛ أنّ المجاعة في غزة ليست ناتجاً عرضياً للحرب، بل أداة ضغط مقصودة، تُدار بعناية فائقة بين غرفة القرار الصهيوني ودوائر الوساطة الغربية، فإغلاق المعابر، تقييد دخول الدواء، منع المساعدات، وتحويل الخبز إلى حلم؛ ليست مجرد نتائج حرب، بل مخرجات تفاوضية محسوبة، هدفها كسر إرادة الناس وجعلهم أنفسهم يطالبون بالاستسلام تحت عنوان “الهدنة”، نعم.. إنه التجويع السياسي، حيث يتحول الطعام إلى رصاصة ناعمة، والجوع إلى مسودة اتفاق، وما يحدث في غزة اليوم هو تفاوض على العظم، وسلاحه الأبرز هو الجوع الجماعي، لا النصوص القانونية ولا الضمانات الدولية.
كفى تعليقاً للحق الفلسطيني على شماعة “الضغوط الدولية” و”الظرف الإقليمي”، فمن ينتظر عدالة من مجلس الأمن، أو نخوة من النظام الرسمي العربي، لا يقرأ التاريخ، ولا يدرك جوهر القضية، واليوم نرى أنّ كل خطاب يُجمّل الانحناء أمام “الشرعية الدولية” هو تنصّل من جوهر الصراع: صراع مع محتل لا يفهم إلا لغة الميدان، فشعبنا وحده هو الرصيد، وهو القاعدة الصلبة التي تُبنى عليها القرارات الكبرى، ولذلك فإن المقاومة لم تفقد شرعيتها، بل ثبّتتها أكثر، لأنها لم تتنازل رغم المجازر، ولم تساوم رغم الطعنات، ولم تقبل بأن تتحول من مشروع تحرير إلى إدارة أزمة.
في حضرة المجاعة، لا تُطرح خيارات، ولا تُدار تفاهمات تحت الطاولة، فالشعب الذي يُذبح على مرأى الكوكب لا يساوم، ولا يمنح شرعيةً وهمية في مقابل بقايا نجاة، فالوعي الشعبي الفلسطيني اليوم أكثر وضوحاً من أي وقت مضى؛ لم يعد يقبل بتدوير الزوايا على حساب الدم، بل يتعامل مع التفاوض بوصفه ميداناً آخر من ميادين الاشتباك، تُضبط بوصلته بميزان الحق لا بضغط الوسطاء، فالشارع الفلسطيني من شمال القطاع إلى جنوبيّه يُدرك أن لحظة الإبادة لا تقبل أنصاف المواقف، وأن حماية القرار الوطني لا تأتي من غرف الفنادق بل من خنادق الصمود، إنها لحظة تعبئة شاملة، واصطفاف جذري خلف خيار المقاومة، الذي أثبت أنه الخيار الوحيد الذي يوجع الاحتلال ويفضح المفاوض.
ثمّة فارق جوهري بين من يفاوض على الورق ومن يدفن أبناءه تحت الركام، غرف التفاوض تلوك اللغة، وتنتج الصدى، لكنها لا تصنع الفعل، أما الميدان فهو من يُنتج الكلفة التي تدفع الأطراف للجلوس أصلاً، وهو من يكتب معادلات الردع بحبر الدم والرماد.
الميدان لا ينتظر ضمانات أمريكية، ولا يثق بتعهدات أممية، لأن كل اتفاق لم يوقّعه الشهداء صار حبراً يُغسل في أول غارة، بينما المفاوض يطلب ضمانات، كانت المقاومة تكتب التوازنات؛ وبينما تُعرض مقترحات، كانت غزة تُسقط الخطط وتُفشل الإملاءات، فالشرعية هنا ليست قراراً دولياً، بل هي انبثاق عن الوجدان الشعبي المقاوم، عن المخيّم الذي لم يبدّل بندقيته، وعن الظهير الشعبي الذي يصنع الثبات رغم المجاعة، إنه الميدان وحده من يملك رخصة التفاوض؛ وما عداه تفويضٌ باطل.
ليس ما يجري تفاوضاً على وقف إطلاق نار، بل هو إدارة أمريكية للإبادة عبر مفاوضات مُفرغة من العدالة، وما يُسمّى بالمسار التفاوضي لم يكن يوماً إلا غطاءً ناعماً لحسم عدوانيّ بالقوة، حيث يُفرض على الضحية أن تتنازل حتى عن معايير الحياة الدنيا، مقابل وعود تُخرّب أكثر مما تعمّر، فالردّ الفلسطيني لم يخرج من مأزق، بل انبثق من يقين ميدانيّ، لا يرى في غرف التفاوض مرجعية، بل يحاكمها بمعيار الصمود لا المجاملة، وقد بات واضحاً أن من يُراد له أن يتنازل، هو من صمد، ومن يُنتظر منه أن يتراجع، هو من صنع الندم في حسابات الاحتلال.
في حضرة المجاعة، تتعرّى المفاهيم، ويُفرز الموقف، فإما أن نكون على عهد الدم والكرامة، أو نُغرق في هدر سياسي يُشرعن للنكبة مجدداً بأدوات ناعمة، نعم.. الشرعية للميدان، لا لغرف التفاوض، والمقاومة ليست بنداً تفاوضيّاً، بل هي أصل الحكاية، وحارس الوجود، وضمان ألّا نُباد على طاولات تُحركها واشنطن وتُغلفها بأكاذيب “الحل السياسي”، أما هذا الشعب الذي نجا من المجازر ولم ينجُ من الخذلان، فقد قرر أن يُنجز إرادته بلا وسطاء، بلا استجداء، وبلا استسلام.
إنّ ما يُكتب الآن في غزة ليس بيان نوايا، بل وثيقة وجود، تُسجَّل بالدم والصمود والموقف، ومن يظن أن استجابة المقاومة هي لحظة ضعف أو تراجع، لا يدرك أن الحق حين يُمسك بالبندقية لا يُفرّط بالثوابت، بل يُعيد صياغة الممكن لصالح الشعب لا على حسابه، فنحن لا نفاوض على فتات حياة؛ بل نكتب بالدم شرعية لا تسقطها غرف، ولا تفرغها الضغوط، فمن صمد في حضرة المجازر، لن يُهزم في دهاليز المفاوضات.
كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي