مولود بن زادي: هل حان الوقت للاعتراف بحق الكتاب في استخدام الذكاء الاصطناعي بحرية كاملة؟

مولود بن زادي
في ظلّ الجدل المتصاعد حول استخدام الذكاء الاصطناعي في حقل الكتابة، ومع تزايد مخاوف الأوساط الأدبية من هيمنة التقنيات الحديثة على عالم الإبداع، تهرع دور النشر ومسابقات الجوائز الأدبية إلى رفض مخطوطات صرف مؤلّفوها شطرًا من حياتهم في إعدادها، حتى من دون إخطار أصحابها، لمجرّد الاشتباه في الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، حتى وإن كان ذلك في حدود التدقيق اللغوي أو علامات الترقيم.
كنتُ من أوائل الأصوات التي دافعت عن حقّ الكتّاب في الاستفادة من أحد أعظم اختراعات البشرية: الذكاء الاصطناعي. وفي غياب قواعد واضحة تنظّم استخدام هذه التقنية في حقل الكتابة، وبحكم خبرتي في اللغة والترجمة وتصنيف المعاجم، سعيت إلى الإسهام في وضع قواعد عادلة وشفّافة. كان أوّلها: «حقّ الكتّاب في الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، من دون أيّ إلزام بالإفصاح عن ذلك، في جميع المهام التي يتولاها المحرّرون البشريون»، بما في ذلك التدقيق اللغوي، وتوحيد النبرة والأسلوب، وتحسين الإيقاع والجرس، واقتراح البدائل، وإعادة الصياغة. فإذا كانت هذه كلّها من مهامّ المحرّرين التقليديين، فلا مبرّر لاستثناء الذكاء الاصطناعي منها.
واليوم أمضي بهذه الفكرة خطوة أبعد، لأدعو إلى إقرار حقّ الكتّاب في استخدام الذكاء الاصطناعي بلا قيود ولا إفصاح، شرط الالتزام بضابط أساسي واحد، وهو ما سأعرضه من خلال هذا المقال.
تسللّ الذكاء الاصطناعي إلى حقل التحرير
في الوقت الذي يُثار فيه الجدل وتتعالى الأصوات الرافضة لاستعمال الذكاء الاصطناعي أداةً لتحرير النصوص، مطالِبةً بالاستمرار في الاعتماد على المحررين التقليديين، تتجاهل الأوساط الأدبية تسلّل روبوتات الذكاء الاصطناعي إلى مجال التحرير بصمت. والأمر مرشّحٌ للاتساع، وهو ما أكدته المحرّرة هازل بيرد عندما قالت: “أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث تغييرًا جذريًا في طريقة عمل المحررين. أظن أن هناك تحوّلًا طبيعيًا من مهمة مراجعة الأخطاء الأقل اعتمادًا على الأحكام إلى مهام أكثر دقة وتعقيدًا تتمثل في تحسين النص.”
ليس ثمة ما يمنع المحرر البشري، في الواقع، من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي – حتى من دون علم الكاتب – لمراجعة النص وتنقيحه، ثم إضافة لمسات بشرية. ولا لوم على المحرر البشري، فالتدقيق اللغوي الذي قد يستغرق منه ساعات أو حتى أيامًا طويلة، يستطيع الذكاء الاصطناعي إنجازه في ثوانٍ معدودة.
فإن أضحت التقنية جزءًا أساسيًا من عملية التحرير في العصر الحديث، فلماذا لا يُسمح للمؤلف بالاستفادة منها مباشرة بدلًا من اللجوء إلى محرر بشري أقل دقة وأكثر تكلفة؟
ولا يقتصر هذا التحوّل على الكتابة الأدبية وحدها. ففي المجال الإعلامي، أصبح الذكاء الاصطناعي يُستخدم بشكل متزايد لتلخيص المقالات الطويلة وإنشاء محتوى داعم، وهو ما أكدته بيريل لوف، محرّرة صحيفة سينسيناتي إنكوايرر: “في صحيفة سينسيناتي إنكوايرر، نستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا لإنشاء ملخصات موجزة للقصص الطويلة.” فإذا كان بإمكان الذكاء الاصطناعي مساعدة المحررين والصحفيين في صياغة النصوص وعرض الأفكار بشكل أفضل، فإن من العدل الدعوة إلى حق الكُتّاب في استخدام هذه الأدوات.
أسطورة الأصالة الأدبية
على مرّ التاريخ الأدبي، استعان أشهر الكُتّاب بأزواجهم وأقربائهم وأصدقائهم على صياغة أعمالهم. ولم يقتصر هذا الدعم على التدقيق اللغوي أو تقديم النصح، بل تجاوزه في كثير من الأحيان ليصل إلى تغييرات جذرية في البنية والأسلوب. فعلى سبيل المثال، أجرى الشاعر بيرسي بيش شيلي تعديلات كبيرة على رواية فرانكنشتاين التي كتبتها ماري شيلي، قبل نشرها عام 1818، حيث أجرى تعديلات أسلوبية متنوعة. وقد انتبه الباحثون إلى أثره العميق في تهذيب الجمل وإضافة لمسات بلاغية، الأمر الذي أثار جدلاً فيما إذا كان النص النهائي يعكس نبرته أم أسلوبها.
وبالمثل، خضعت مذكرات إرنست همنغواي وليمة متنقلة لتحرير وترتيب قامت به زوجته ماري همنغواي بعد وفاته، ثم صدرت لاحقًا نسخ أخرى أُجريت فيها تعديلات إضافية أثرت في النبرة والبنية، مما دفع الباحثين إلى التساؤل عما تعكسه النسخة المنشورة من نبرة همنغواي الأصلية.
كذلك، اعترفت الكاتبة البريطانية زادي سميث، مؤلفة رواية “أسنان بيضاء”، بأن زوجها، الكاتب نيك ليرد، كان يحثّها باستمرار على إعادة كتابة أجزاء كبيرة من مخطوطاتها، مما أثّر في كتابتها تأثيرًا. واتخذت قصائد سيلفيا بلاث المتأخرة، وخصوصًا ديوان “أرييل”، نبرة أكثر أسطورية ووحشية بتأثير من زوجها تيد هيوز، الذي أعاد ترتيب القصائد وصياغتها بعد وفاتها.
فإذا كانت الأوساط الأدبية تتقبّل تدخل المحررين والمقربين والأصدقاء في إعادة صياغة المخطوطات وتقديمها في قالب جديد من دون التشكيك في نسبتها إلى المؤلف الأصلي، فلا مبرر لرفض استخدام الذكاء الاصطناعي لمثل ذلك. فلا فرق جوهريًا بين أن يعيد زوج أو صديق أو محرر كتابة نصٍ، أو أن تقوم بذلك أداة ذكاء اصطناعي. في جميع الحالات، تبقى الأفكار أفكار المؤلف، والتجربة تجربته، والرؤية رؤيته. أما ما يقدّمه المحرر أو الذكاء الاصطناعي فهو مجرد مساعدة على التعبير.
حين تتقاطع الترجمة والذكاء الاصطناعي
غالبًا ما تخضع الروايات المُترجمة لتحولات أسلوبية عميقة عند انتقالها من لغة إلى أخرى. فبينما تحتفظ النصوص بالأفكار الأساسية، يساهم المترجم في تشكيل النبرة والإيقاع والبنية، ويؤثر تأويله وحسّه اللغوي في النسخة النهائية. وقد تُوّجت أعمال مُترجمة كثيرة بجوائز أدبية مرموقة، مع أن النثر فيها لا يعكس دائمًا أسلوب الكاتب الأصلي، وإنما أسلوب المترجم. ومن الأمثلة التاريخية البارزة على إعادة صياغة النصوص إلى حد إنتاج أعمال مختلفة، “رباعيات عمر الخيام” التي ترجمها إدوارد فيتزجيرالد عام 1859، وأعاد صياغتها بشكل جذري مُقدّما نسخة جديدة مختلفة من حيث الصياغة والبنية والمعنى. ورغم تصرّفه في الأبيات الفارسية الأصلية، ما فتئ العمل يُنسب إلى عمر الخيام، لا إلى مترجمه. فالمعيار الحاسم ليس الأسلوب والشكل وجماليات اللغة التي تتلاشى في الترجمة، وإنما قوة الفكرة، وعمق العاطفة، وسعة العالم المتخيَّل الذي يصنعه الكاتب. فإن كانت الأوساط الأدبية تشيد بالأعمال رغم التغيّرات التي تطرأ عليها بعد الترجمة، فلا مبرر لمنع الكاتب من استخدام الذكاء الاصطناعي أداة تعينه على بلورة أفكاره والتعبير عنها. تبقى الفكرة ملكًا للكاتب، والذكاء الاصطناعي – شأنه شأن المترجم – مجرد أداة تُسهّل توصيل الفكرة والرسالة بشكل واضح، متماسك، وسهل الفهم. فلا فرق بين إعادة صياغة نص أدبي عبر الترجمة أو عبر الذكاء الاصطناعي، ولا منطق في رفض أحدهما وقبول الآخر.
الكاتب الشبح أو الكاتب الظل
مارست المؤسسات الثقافية والنشرية منذ عقود ما يُعرف بـ”الكتابة بالنيابة” أو “الكتابة الشبحية” (Ghostwriting)، بوصفها أداة مساندة تسمح للمؤلف بتقديم رؤيته وتحديد البُنى الثيماتية والأسلوبية، بينما يتولى الكاتب الشبح الجوانب التنفيذية للنص. في هذا السياق، يُعد المؤلف صاحب المشروع الإبداعي، إذ يُنسب إليه المحتوى بوصفه مصدر التجربة، والأساس الفكري للعمل، والفاعل الأساسي في بلورة الاتجاه الجمالي والفكري للنص، كما يحتفظ بحق الموافقة النهائية على المسودة التي تعكس رؤاه وتجاربه.
أما الكاتب الشبح، فيضطلع بوظائف تتراوح بين البحث، وإعادة الصياغة، والبناء السردي، وتحويل الأفكار الأولية إلى نصوص قابلة للنشر، مع الالتزام بالمعايير البلاغية والأسلوبية التي يُحدّدها صاحب العمل. تشمل هذه المهام تنظيم البنية، وتبسيط المفاهيم المعقّدة، وضمان الاتساق النصي والوضوح القرائي، مع الحفاظ على النبرة التي تُعبّر عن “صوت” المؤلف.
تُعد هذه الممارسة مقبولة أخلاقيًا ومُعترفًا بها ضمن منظومة النشر، نظرًا إلى أن البنية السردية والطرح الفكري يظلان نابعَين من المُؤلف. وتُؤكَّد هذه الملكية المعنوية صراحةً في العقود والبيانات التجارية، كما جاء في أحد الإعلانات: “يُقدّم كُتّابنا الحائزون على جوائز ما تحتاج إليه من دعم، على أن يبقى المنتج النهائي ملكًا لك بالكامل”.
وإذا كانت الكتابة بالنيابة تُصنَّف ضمن أشكال التعاون الإبداعي المشروع، فمن غير المنطقي استبعاد الذكاء الاصطناعي من أداء دور مشابه. إذ إن الآلة، شأنها شأن الكاتب الشبح، تظل أداة تنفيذية، فيما يبقى التأليف – من حيث التصور والرؤية والملكية الفكرية – مُرتبطًا بالمؤلف البشري.
الأدب أفكار ورؤى وتجارب
وإن اقترحتُ فيما سبق مبدأ “تمكين الذكاء الاصطناعي من كل المهام التي يؤديها عادةً المحرر البشري”، فإني اليوم، وانطلاقًا مما سبق ذكره، أدعو إلى اعتماد قاعدة إضافية تتمثل في: “السماح باستخدام الذكاء الاصطناعي في جميع وظائف عملية الكتابة من غير قيود. وتشمل هذه المهام المساعدة على التعبير وإعادة الكتابة، شريطة أن يكون التوجيه الإبداعي والأفكار من المؤلف وليس من الذكاء الاصطناعي”.
فإن سُمح للكاتب بالاستعانة برفيق أو قريب أو محرر محترف أو مترجم أو كاتب ظل لتنقيح عمله أو إعادة صياغته، بل حتى إعادة كتابته، من غير أن يُطَالَب بالإفصاح عن ذلك، ومن غير أن يُسلب حقه في التأليف، فمنع المؤلف من استخدام الذكاء الاصطناعي للغرض ذاته يُعدّ معيارًا مزدوجًا غير مقبول.
واليوم، مع بروز الذكاء الاصطناعي أداةً فعالة في الكتابة، أصبح من الضروري إعادة النظر في تعريف كل من “الأدب” و”التأليف”.
يمكننا اليوم أن نعرّف الأدب ب “كتابة نثرية أو شعرية تُجسّد أفكار المؤلف ومشاعره وتجاربه ورسائله، مصاغة بأسلوب يختاره”. أما المؤلف فهو “العقل المُفكّر والمدبّر للعملية الفكرية أو الإبداعية والموجّه لها” بغض النظر عن الأسلوب. وسواء استعان المؤلف ببشري أو بالذكاء الاصطناعي، فإن ذلك لا يغيّر من جوهر التأليف شيئًا. فالمؤلف هو منتج الأفكار، وليس المحرر أو المترجم أو الصديق أو أي أداة تُسهم في التعبير عنها. فالذكاء الاصطناعي لا يفكر تفكيرا مستقلا، ولا يمتلك خيالًا ولا مشاعر، ولا تجارب شخصية أو قصصا عاطفية؛ إنه مجرد أداة يوجّهها المؤلف – مثلما يوجّه قلمه عند الكتابة – للتعبير عن أفكاره ومشاعره وتجاربه وخدمة صوته الإبداعي.
فقد آن الأوان للاعتراف بالذكاء الاصطناعي وسيطا مشروعا ضمن العملية الإبداعية للمؤلف. فمن مزايا اعتماد الذكاء الاصطناعي أداة للتعبير اقتصاد الجهد والموارد، وتوفير الوقت، ما يسمح للمؤلف والباحث بالتفرغ لنشر مزيد من الأفكار والرؤى ومشاركة مزيد من التجارب والخبرات مع العالم.
كاتب وباحث مقيم في بريطانيا