معتــز زكــي: حكاية.. جسد الروح

معتــز زكــي
أخذ يُقلـِّب في صفحات الجريدة، وظائف خالية، نعم، هنا إذن؛ “مطلوب مندوب مبيعات”، ارتسمت على شفتيه ابتسامة سِخرية، “مطلوب شابٌ طـَموح ديناميكي”، تـُرى، هل هي [الديناميكا] التي كان يَدرسها زملاؤه في قسم علمي رياضة ويشتكون من صعوبتها، فيما هو كان يدرس بالقسم الأدبي؟! ربما، وربما غدا يطلبون شابـًا يضيء بالموجات الكهربائية أو الكهرومغناطيسية أو الكهرومائية؛ لمَ لا، وهذا زمن العجائب!
مقهورًا ألقى بالجريدة جانبـًا، أشعل سيجارة، تنهدت من بين شفتيه خيوط الدخان الأزرق متطايرةٌ أعلاها ما ترسب من أحلامه، أحلامَ الشباب، أو، لتحري الدقة أكثر، أحلامَ العذاب؛ مطلوب أن يشتري شقة وشَبْـكة ويشارك في الأثاث والأجهزة بخلاف تجهيز المنزل نفسه، و، و… تعجب وأسقط في يده، كيف؟!
للآن لم يصله خطاب التعيين، ثماني سنوات في انتظار الخطاب الموعود الذي لم، ويبدو أنه لا ولن يصل؛ تبـًا لقطار بلا وصول إلا للمحظوظين!
تمعن في شهادة الليسانس، تقدير ممتاز، الماجستير، نفس التقدير، الدكتوراه، أيضا نفس التقدير؛ تنهد في حسرة كما يتنهد مشفقـًا يتابع من الشرفة أبناءَ جارته الأرملة في طريقهم إلى المدرسة، لا يرغب فيهم أحد، كما لا يرغب في تخصصه [الفلسفة] أحد.
سأله أحدهم: بتقول خريج (اسم) إيه؟
ضحكة ٌ لا يقصدها كانت على وشك أن تفلت منه متبوعة بـ “اسم النبي حارسه”، لكنه تمالك الموقف، وابتسم يقول: (قسم) فلسفة يا فندم، يعني Philosophy، أي [محبة الحكمة].
رد عليه: صوفيا وحكمت، أااااااه، مش كنت تقول كدا يسطى؟! دي حاجة “فينولوبيا” خالص، لكن إيه دخل الحكمة لا مؤاخذة بالبيع والشرا والذي منه؟!
أجاب بحماس الشباب: أعتقد أن الحكمة في التجارة تتعلق بالصدق والأمانة و..
قاطعه بغلظة: بتقول إيه؟ دا عبط وهبالة! البياع الشاطر لازم يكون لهلوبة يعرف يلبس الزبون العمة، دا لو ما كانشي الزبون أشفور يعني؛ فاهم يا سي حكمت أفندي؟!
أجاب وهو ينهض على عجل: فاهم، فاهم، أستأذن أنا، سلام!
– سلام يا خويا، وسلم لي ع اللوبيا، بس تبقى تسويها كويس عشان تتسبك، ثم انطلقت منه ضحكة مكبوتة بينما ألقى بجثته السمينة (العجالي) على مسند مقعده الوثير الدوار؛ تـُرى من أركبَ هذا (الخنزيرة) و(التمساحة) و(الشبح) وغيرها من مسميات العصر، فيما أركبه هو أتوبيس 13 بشرطة المتجه إلى الجامعة؟!
عاد إلى حيث يقيم بنظام الإيجار القديم، الآن هو مهدد بالطرد في بضع سنين، ترامت إلى مسامعه في التو “وسترجع يومًا يا ولدي مهزومًا مكسورَ الوجدان”، سامحك الله يا عندليب، سامحك الله يا نزار، امتنع عن البكاء، لكنه أدار المذياع لعله يجد شيئا يواسيه، هتف المذياع ينشد “ما تقولشي إيه إدتنا مصر، قول ها ندي إيه لمصر!”؛ منذ طفولته وعُليَّا التونسية تصر على موقفها هذا؛ انفجر ضاحكـًا، ثم سرعان ما شعر بسخونة دمعة أخذت طريقها إلى نحره.
تساءل مناجيـًا: كيف نعطيكِ يا مصر وأبوابك موصدة دوننا، كيف نعطيكِ وهذا زمان اللهلوبة والشاطر، كيف نعطيكِ ونحن في الأصل مسلوبين من كل شيء؟!
وسوس له شيطانه “ما الحل إذن؟!”
هل يجرع السُّم عن طيب خاطر كسقراط؛ لمَ لا، ما الفرق؟ سقراط انتحر لأنه كان بمقدوره أن يهرب، تلاميذه وفروا له كل شيء ليهربَ لكنه لم يفعل؛ لمَ لا ينتحر هو أيضا كسقراط وغيره؟!
أعدَّ حبلا مجدولا، لف جزءًا منه على شكل دائرة؛ هل هي دائرةُ الزمن الدوَّار، أم دائرة النسيان؟!
علق الحبل موضعَ مصباح السقف، أحضر كرسيه الخشبي، همَّ بالوقوف، لفَّ الدائرة حول عنقه اليوناني الحالم، عنقه الذي طالما رددت حنجرته كلمات الحكمة التي استقرت في ضميره ووجدانه وأقام لها في روحه باحاتٍ خضراء، تمتم بهذيانه الشعري ذاك على سبيل تمضية ما تبقى له من وقت؛ كان على وشك الدفع بالكرسي لولا أن أوقفه صوتٌ يَهدُرُ عميقـًا كموجات البحر: “ولمن تترك وطنك يا ولدي، لهذه الفقاقيع المتسلقة، أين روحك للتحدي؟! ليس الحل أن تهرب، التحدي مطلوب، والمواجهة حتمية”.
راوغه تساؤل، لماذا يتردد أغلب الناس قبل الانتحار؟ ما هي تلك الروح التي تدفعهم دفعًا نحو التمسك بالبقاء، هل هي روحُ الحياة؛ هو لا يوقن في شيء الآن سوى أنه يرفض أن يموت، ليس بالضرورة حبًا في الوجود، أو هربـًا أو خوفـًا من الموت، بل رغبة ً في قبول التحدي ذاته، وعدم التسليم بالهزيمة، لإثبات وجوده هو، وجوده كما يجب أو يحب أن يكون، وليس وجوده كما هو مفروضٌ عليه لأن يكون!
شعر بقشعريرة مريحة تسري في بدن الروح؛ ثم كان أن دلف إلى الحمام واغتسل، ليبدأ من جديد تلك المعركة.