سعيد بوخليط: سعد الله ونوس: الأمل هو الشيء الوحيد المتبقي

سعيد بوخليط
”إنَّنا محكومون بالأمل،وما يحدث اليوم لايمكن أن يكون نهاية للتاريخ”.أظنُّها أكثر العناوين التي وسمت اسم المسرحي السوري سعد الله ونوس،ضمن المشاريع الفكرية والفنية التي سعت إلى ترسيخ وإشاعة لبنات مشروع نهضوي تحرُّري حقيقي؛يبني الإنسان والحجر.
جاءت هذه الشذرة المفعمة عمقا والزاخرة إنسانية،عند بداية الفقرة الرابعة ضمن سياق رسالة طويلة حول أبِ الفنون،عندما كلَّف المعد الدولي للمسرح التابع لليونسكو،سعد الله و نوس بتدبيج مضمون إعلان”رسالة يوم المسرح العالمي”سنة 1996،التي تُرجمت إلى عدَّة لغات.
أضافت،الجمل التالية :”منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان،وكانت الكتابة، والمسرح بالذات،أهمّ وسائل مقاومتي.خلال السنوات الأربع،كتبت وبصورة محمومة أعمالا مسرحية عديدة.ولكن ذات يوم،سُئلت وبما يشبه اللوم :ولِمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات،في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح،ويكاد يختفي من حياتنا !”
ربَّما،توارت جلّ تفاصيل مشروع سعد الله ونوس التَّحديثي،خلف هذه المقولة العظيمة التي اختزلت جوهر وجود الإنسان في كنهه المجرد،أكثر من تحقُّقه العيني مع الهوية العربية المنكسرة والمقهورة منذ دائما طولا وعرضا على جميع المستويات،نتيجة الثالوث السرطاني :الاستبداد،الفساد،الظلم،الطائفية.مما يفترض مع أفق”نحن محكومون بالأمل”،قصدية سعد الله ونوس من خلال كتاباته وعروضه المسرحية إلى تثبيت ركائز :المشروع الوطني، التحرُّر، التقدم، الحداثة. ومايقتضيه ذلك مبدئيا من انعتاق الذات الفردية وانتشال مصيرها من مساوئ الجهل والوعي الزائف والاستلاب والنَّمطية.
حياة بيولوجية قصيرة لم تتجاوز عقدها الخامس،فقد غادر سعد الله ونوس العالم في أوج شبابه وعطائه بعد صراع بطولي مع داء السرطان اللعين،غير أنَّ هذا المسرحي السوري ابن طرطوس ترك تراثا تأليفيا إبداعيا كبيرا،ارتقى به كي يهمس باسمه فائزا بجائزة نوبل في الآداب،لكن موته وإن أفسد بروتوكولات الحفل الخالد فقد نحت أيضا اسمه باستحقاق ضمن زمرة الحالمين حلما لاينقضي شغفه بنهضة الشعب العربي والعاملين عليها تنظيرا وتفعيلا.
لقد اختار الكتابة المسرحية وترسيخ الفعل السياسي التقدُّمي،قصد طرح أجوبة ممكنة على أسئلة المأزق العربي المنغمس في مستنقعات الجهل و التخلُّف،لذلك لم يتردَّد أو يتهاون طيلة تحققات منجزه المسرحي الممتدِّ لفترة ثلاثة عقود قاربت عناوينه عشرات النصوص المسرحية،قصد معانقة حرقة الأسئلة الحضارية المؤسِّسة :
الحياة أبدا(1961)،ميدوزا تحدق في الحياة(1964)،فصد الدم(1964)،عندما يلعب الرجال(1964)،جثة على الرصيف(1964) ،مأساة بائع الدبس الفقير(1964)،حكايا جوقة التماثيل(1965)،لعبة الدبابيس(1965)،الجراد(1965)،المقهى الزجاجي (1965)، الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا(1965)،حفلة سمر من أجل خمسة حزيران (1968)،الفيل ياملك الزمان(1969) ،مغامرة رأس المملوك جابر(1971) ،سهرة مع أبي خليل القباني(1973)،الملك هو الملك(1977)،رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة (1978)،الاغتصاب(1990)،منمنمات تاريخية (1994)،طقوس الإشارات والتحولات (1994)،أحلام شقية(1995)،يوم من زماننا(1995) ،ملحمة السراب (1996) ،رحلة في مجاهل موت عابر(1996) ،الأيام المخمورة(1997).
إنَّه مسرح تحريضي بامتياز،محفِّز اجتماعي بكل السُّبل.مسرح التَّسييس يتجاوز المسرح السياسي. يرفض بالمطلق التهريج والخطابة الاستعراضية،كسر الأنماط التقليدية بخصوص الحدود البيروقراطية؛إذا جاز التعبير،بين الجمهور والعرض مستلهما تقليد بريخت بتكسير مختلف الحواجز التي تخلق الحياد السلبي والاغتراب النفسي :”هكذا أسس سعد الله ونوس مشروعه المسرحي على إمكان ”الحوار”وجدل العلاقة بين العرض والجمهور؛حيث المسرح : هو الأداة الأقدر،والمكان النموذجي الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي،وهو المكان الذي يكسر فيه المتفرج محارته كي يتأمل شرطه الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة،ويعلمه الحوار وتعدد مستوياته.فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي،وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج،وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم”(1).
سعد الله ونوس حياة قصيرة،لكنها ثرية وأبدية فكريا وإبداعيا.ولد سنة 1941 في قرية حصين القريبة من مدينة طرطوس التي اشتهرت عالميا،خلال ثورة الشعب السوري ضدَّ نظام الأسد،وتوفي سنة 1997،قبل معاينته بأمِّ عينيه الرَّجَّة التاريخية الانقلابية التي أودت بأرواح آلاف المواطنين السوريين وقوافل من المفقودين والمشرَّدين والمنفيين.
وَظَّف سعد الله ونوس روافد مشروعه قصد استنهاض هِمَمِ الشعب السوري ومعه باقي شعوب المنطقة،كي تثور بهدف تقويض الديكتاتوريات الصَّدئة والمهترئة المعادية تماما طبيعتها لجوهر الحياة.
عندما حصل سنة 1959 على الثانوية العامة،انتقل إلى مصر بفضل منحة دراسية، بحيث حصل على الإجازة في الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة،وهناك اطَّلع على محاضرات محمد مندور وكذا مسرح توفيق الحكيم.
بعد عودته إلى سوريا،غادرها ثانية عام 1966 صوب باريس قصد دراسة المسرح الأوروبي في معهد الدراسات المسرحية التابعة لجامعة السوربون،منكبّا على أعمال برتولد بريخت وجان فيلار.اختبر مجال الصحافة المكتوبة،كاتبا للصفحات الثقافية في جريدتي ”السفير اللبنانية” و”الثورة السورية”.
أسَّس عام 1977 فرقة المسرح التجريبي،كما أشرف خلال السنة ذاتها على مجلة ”الحياة المسرحية”التي أصدرتها وزارة الثقافة السورية غاية.1988أيضا،دشَّن سنة 1978،انطلاقة مهرجان دمشق المسرحي،كما أدار الهيئة العامة للمسرح والموسيقى وكذا إشرافه على مجلتي المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة السورية و”أسامة”المخصَّصة للأطفال.
توفيَّ سعد الله ونوس يوم 15مايو 1997 عن عمر لم يتجاوز ستّا وخمسين سنة بعد معاناة مع مرض سرطان البلعوم،المرض الذي شخَّصه الأطباء بداية التسعينات وتوقَّعوا موته خلال فترة لاتتجاوز ستَّة أشهر،غير أنَّه عاش خمس سنوات إضافية أخرى بفضل ترياق الكتابة،بحيث ذكرت زوجته فايزة ساويش،بأنَّ ونوس ظلَّ دؤوبا على عادة الكتابة غاية أيامه الأخيرة داخل المستشفى :”لاشك أن المرض الصعب –السرطان- الذي ألم به في السنوات الأخيرة من حياته،والمعاناة الشاقة التي واجهها،بما في ذلك الغرق في الموت لبعض الوقت،ثم العودة منه.جعله يكتب واحدا من النصوص المهمة :”رحلة في مجاهل موت عابر”.هذا النص يستعيد بكثير من الشفافية لحظات الانتقال من ضفة إلى ضفة أخرى،من الحياة إلى ملامسة الموت،بل والدخول في ملكوته لبعض الوقت،ثم كيف عاد من هذه المرحلة المجهدة والشديدة الخصوصية،ليكتب عن الغياب والانزلاق إلى عالم آخر لانعرفه.هذا العمل من الأهمية،والجدة أيضا،بحيث يندر أن نجد إلا القليل مما يشابهه،لان الموت حالة لاتتكرر”(2).
جاءت إصابته بالسرطان خلال بداية القصف الأمريكي على العراق،وقد استأنف حينها رحلة الكتابة بعد توقفه طيلة عشر سنوات تقريبا احتجاجا على غزو إسرائيل للبنان سنة1982 وحصار بيروت نتيجة انهزامه أمام الشعور بالإحباط حيال مايجري وكأنَّه يقول ماجدوى الكتابة؟بخصوص إمكانية نفخ الحياة في رماد خراب لاينتج سوى قصور رملية واهية للغاية: ”في فترة متأخرة،وبدءا من أوائل التسعينات،تطور مسرح سعد الله ونوس أكثر من قبل.ابتعد قليلا عن الأحداث التي تحمل طابعا سياسيا،واقترب أكثر من الموضوعات ذات الطابع الذي يطرح أسئلة عن معنى الوجود والموت والحب،وقد اتسمت الأعمال التي كتبها بحس الفجيعة والشك والحيرة إزاء رحلة الإنسان في هذا الحياة”(3).
قبل رحيله،ترك سعد الله ونوس وصيَّته النهائية في صيغة تعليق مقتضب على إصدار أعماله كاملة سنة 1996في ثلاث مجلَّدات أهداها إلى ابنته ومعها أجيال المستقبل :”أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقهم أقوى من الهزيمة،ومن يدري،قد يجدون الجملة السحرية التي يغدو بها الزمن جميلا، والوطن مزدهرا”. أعمال ترجمت إلى الثقافات الفرنسية والانجليزية والروسية والألمانية والبولونية والاسبانية،وقد رشَّحها المجمع العلمي في مدينة حلب للتنافس على جائزة نوبل في الآداب،وفعلا عام 1997 أبلغت لجنة نوبل للآداب إدارة اليونسكو بفوز سعد الله ونوس كما حصل على جائزة سلطان العويس الثقافية خلال دورتها الأولى.
ربط بين سرطانه الجسدي ثم الانهيار القومي وربط بينهما ارتباطا متداخلا حينما كتب :”انهار حلمنا الشخصي الذي هو المسرح،انطفأت جذوته،وتداعى في غياهب القمع والشمولية وانسداد الحوار في المجتمعات وغياب كل ماهو مدني في حياتنا.إننا مهزومون حتى العظم،وحتى الحفيد الرابع أو الخامس،أقصى حدود الايجابية هو أن نقبل الهزيمة لا أن نراوغها،أن نواجهها صراحة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال.ومن كوجيتو(أنا موجود)أن أتدرب على تحمل هذا الوجود ومفارقته في آن واحد،لقد انهزمنا دون عزاء.دون تظليلات، وكان من قبيل الحاصل أن ينهزم الجسد. بعد ذلك لم يفاجئني السرطان”.
أكَّدت عبلة الرويني،بأنَّ اتِّساق المشروع المسرحي لدى سعد الله ونوس،أتاح أمام النُّقاد إمكانية تقسيمه تاريخيا إلى ثلاثة مراحل أساسية هي :
”-البدايات :وتضم مجموعة من النصوص المسرحية القصيرة، منها(جثة على الرصيف)،(مأساة بائع الدبس)،(فصد الدم)،(المقهى الزجاجي)،(الجراد)،(الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا)وتمتد هذه المرحلة بين عامي 1964 ،.1968
– مرحلة الالتزام الماركسي الصارم والسؤال الإيديولوجي المنشغل بتحليل بنية السلطة،وتضم من مسرحياته(مغامرة رأس المملوك جابر)،(حفلة سمر من أجل 5حزيران) ،(سهرة مع أبي خليل القباني)،(الفيل ياملك الزمان)،(الملك هو الملك) ،وتقع بين عامي 1968 ،و.1969
-مرحلة أخيرة،تبدأ من مسرحيات (اغتصاب)(1990)،حتى (الأيام المخمورة)(1997) ،وتضم مسرحيات (منمنمات تاريخية)،طقوس الإشارات والتحولات) ،(ملحمة السراب)،(أحلام شقية)،(يوم من زماننا)؛حيث تطل الخصوصيات الفردية،وينشغل الكاتب بالمكونات النفسية والنوازع والأهواء لشخصياته المسرحية”(4).
لاشك،أنُّ واقعة يونيو1967 ،قد أثَّرت تأثيرا مفصليا بخصوص تشكُّل زخم الوعي النهضوي عند سعد الله ونوس؛مثلما اختبر ذلك أغلب رموز الفكر العربي المعاصر،بحيث كان من الذين طرحوا جوابا عن سؤال الهزيمة بكل صراحة موضوعية دون التباس أو تضليل أو تقيَّة انتهازية:استبداد الأنظمة الحاكمة وتحالفاتها الأوليغارشية جذر وأسّ الهزيمة التاريخية النَّكراء،وبأنَّ”الصهيونية لها حاليا امتدادها العضوي في النظام العربي الراهن”.
خلاصتان مترابطتان عضويا وبنيويا،وحتما ضمن نفس سياق داء السرطان اللعين الذي استنزف دون رحمة إرادة الحياة عند سعد الله ونوس،فلا يمكن الشِّفاء منه سوى بعملية بتر استئصالية للخلايا المسرطِنَة الناجمة عن شرِّ الصهيونية وتوأمه الروحي الاستبداد العربي بكل تعبيراته التي يظلّ المعطى السياسي مدخلها جميعا،حيث سؤال ما العمل؟لازال مطروحا دائما وبذات الحدَّة.
في هذا السياق جاءت مسرحيته الشهيرة”حفلة سمر من أجل5 حزيران ”(1969)،أشبه بمحاكمة و عَكَسَ أفقها تبلورا فعليا لمرجعيات لسعد الله ونوس الموصولة عضويا،بترسيخ القيم التنويرية اللازمة جوهريا لبناء مجتمع جدير بالإنسان.يقول عبد الرحمن منيف: ”حين شهدت ”حفلة سمر من أجل5 حزيران”في عروضها الأولى،ورغم قتامة تلك المرحلة،شعرت بالفرح،فقد كانت المرة الأولى التي يتصدى فيها مسرحي عربي،في مثل ذلك الوقت الصعب،إلى مواجهة الحقيقة بكل قسوتها وعريها.فالجرح الحزيراني كان لم يزل ساخنا،والحيرة تخيّم على الجميع مثل خيمة الرصاص.أما الوجع فقد كان يسري في العظام كأنه الطوفان،وكانت الضرورة تقضي أن يوجد أحد،مثل ذلك الطفل الذي أشار إلى الملك وقال إنه عارٍ،ليقول شيئا مماثلا،وكان سعد الله ونوس ذلك الطفل الذي قال !”(5).
أطلقت هذه المسرحية صرخة لمواجهة وعي الهزيمة،عبر تبلور أولى لبنات مفهوم سعد الله ونوس عن مسرح التَّسييس الذي توخى تسييس الجمهور وانتشاله من ربقة الوعي المستلَب.تسييس المسرح بهدف تجاوز المسرح السياسي الفرجوي والخطابي والاستعراضي.مسرح التسييس،ومن خلاله،تسييس المجتمعات بالتالي النُّزوع صوب المنحى التقدمي،فكيف السبيل للخروج من مستنقع الاندحار؟سوى بعروض مسرح جادٍّ، يحتِّم سياقه على المتفرِّج الانتقال إلى مرحلة التَّسييس وتحرُّره من القيود التقليدية التي تبقي هذا المتفرِّج غالبا عند وضعية المتلقي السلبي الذي يستهلك فرجة قد تكون ظرفية وعابرة ينتهي تأثيرها بإسدال الستارة :”يمكن اختصار مفهوم المسرح السياسي عنده بأنه ذاك الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا،لايقف عند حدود الفكرة والموضوع،بل يتجاوزهما إلى الشكل وطريقة العرض،التي ينبغي أن تنفلت من الأطر الجامدة،والمعايير التقليدية لتخاطب جمهورا واسعا،يفترض ألا يكون نخبويا بل شعبيا،يعاني القهر والقمع والمصادرة”(6).
إذن،من أهمِّ مميزات العرض المسرحي حسب تصور سعد الله و نوس تكسير الحائط الرابع،مستلهما النظرية والصياغة من برتولد بريخت وتطوير متواليات العرض صحبة الجمهور نفسه وتحويل الركح إلى منتدى سياسي يعكس قضايا وأسئلة المتلقي و الاشتغال بحضوره،بالتالي تكسير الجدار الرابع وخلق حوار بين الممثِّلين والعرض المسرحي.ضمن،سياق ذلك،نبذ أساليب الخطابة لكنه التجأ إلى السخرية والتهكُّم،واستبعاد التلقين السطحي،فالمسرح شكل من أشكال التعبير الفني يتيح مجالا لتعلُّم أدبيات الإصغاء وخلق أواصر الحوار بين الناس وتبادل الأفكار والآراء :”حوار بين مساحتين (العرض المسرحي) و(الجمهور)،واختبار دائم للوسائل الفنية التي تحقق أعلى إمكان لتقديم هذا الحوار.في (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)،لم يهتم ونوس كثيرا بالصيغة الفنية إلا بمقدار قدرتها على إنتاج المشاركة والحوار،ولم يهمه كثيرا أن العرض المسرحي يمكن أن يتوقف في لحظة من اللحظات،ويتشعب إلى حوارات حية بين المتفرجين والممثلين أو بين المتفرجين والممثلين أو بين المتفرجين بعضهم وبعض”(7).
على المسرح أن يحرِّض،سعيه المبدئي نحو استفزاز نمطية المتفرِّج وسكينته ووعيه الطبقي،لكن في لحظة معينة أظهر خيبة أمله بهذا الخصوص صوب الجمهور العربي عندما اتَّضح له بأنَّ العرض المسرحي وفق أسلوب مسرح الخطابة لم يخرج الناس إلى الشاعر قصد التظاهر،فأدرك حينها أبعاد قولة بريخت :”لايستطيع المسرح أن يقوم بثورة أو أن يبدِّل بنيان المجتمع”،بالتالي :”فعالية المسرح ليست في إنجاز الثورة وتغيير حركة التاريخ،ولكنها جزء من هذه الجهود اليومية،وإمكان متواضع من إمكانات التغير”(8).
هكذا،استلهم سعد الله ونوس المرجعية اليسارية وآمن منهجيا بتحليلات الاشتراكية العلمية وجملة القيم الإنسانية البنَّاءة التي أرساها النضال البشري،وجعل من عروضه المسرحية ورشا بنيويا قصد تسييس المتلقِّي على أمل تفعيلها الملموس في حياة المواطن العربي كي يتمرَّد على يوميات الموت التي تؤسِّسها منظومات الاستبداد،فبالإضافة إلى استلهامه من البريختية قاعدة تكسير حاجز الحوار مع الجمهور،والتَّعاقد على كتابة النص الجديد،فقد استعاد دائما في إطار مشروعه التنويري التحديثي،التراث العربي القديم الأدبي والشعبي،إبَّان حقبة من تطوره الفكري صُنِّفت حسب التأويلات النقدية بمثابة مرحلة نضج بعد المرحلة الأولى التي عرفت بالمرحلة الذهنية والتأثُّر بمسرح العبث واللامعقول.
احتمى سعد الله ونوس خلال المرحلة الثانية التراثية،بمجازات واستعارات التراث بهدف الجواب على ضرورات الحاضر وأسئلة الراهن فكان متن ألف وليلة موردا أساسيا للتأمُّل والكتابة،وشكَّل من الناحية المضمونية مادة إيحاء وفي نفس الوقت حصنا منيعا لممارسة خطاب نقدي حرٍّ استطاع التخلُّص من آليات الرقابة الذاتية قبل الموضوعية حين التطرُّق إلى أزمات الحاضر،من ثمَّة استثمار حكايات التراث وأشخاصه وعِبَرِه.
هكذا،منح سعد الله ونوس حيِّزا واسعا للتراث قصد انتقاده المنظومة بحرية على امتداد مرحلة مابعد نكسة حزيران غاية توقُّفه عن الكتابة عام 1979 ، فجاءت عروض مثل”الفيل ياملك الزمان”(1969)،مغامرة رأس المملوك جابر(1970)،الملك هو الملك(1977) ،سهرة مع أبي خليل قباني (1973) ،منمنمات تاريخية(1984).
توقَّف سعد الله ونوس عن الكتابة طيلة عشر سنوات،واستكان إلى الصمت قصد التأمل ومراجعة الذات والقناعات الثابتة والتفكير في المآلات الممكنة بين طيات تداعيات النكسة وكامب ديفيد ثم ترسُّخ التخلُّف العربي وانتفاء آفاق حقيقية لمشاريع وطنية مجتمعية :”لم يقفز سعد الله ونوس من عربة التاريخ مستسلما لليأس،ولم يطمئن في مواجهة تلك الانهيارات المتلاحقة إلى التبسيطية والإيمائية السطحية…لكنه أدرك بعد طول مراجعة :أنَّ الوعي بالتاريخ ليس يقينا ثابتا،ليس مجرد شعار ولاتحيز إيديولوجي،إنَّما ممارسة واعية ونقد وإعادة نظر ومراجعة مستمرة،إنَّه معرفة الذات بلا أوهام،ومعرفة العام بعمق ونفاذ،وإنَّه باختصار فكّ ارتباط نهائي مع اللاهوت واليقين وكل اطمئنان كامل ونهائي”(9).
انطلاقا من رافديه الكبيرين المتمثّلين في القيم الأنوارية ثم الاشتراكية التقدمية،أعاد سعد الله و نوس النَّظر في جملة انعراجات منحرفة قد تأخذها العلاقات الأصيلة ضمن الإطارين الثابتين مثل علاقة الثقافة بالسياسة،وبات يرى أنَّ إمكانيات ازدهار المسرح مرهونة بتبلور سياسة ثقافية تحيط بحاجيات ومقتضيات مجتمع مدني،والمسرح الذي كان في مرحلة سابقة قادرا أولا وأخيرا على تحمُّل أعباء التغيير،فقد تقلَّص إلى مجرد عنصر بجانب عناصر مبدئية أخرى :”الإرادة وحدها لاتغيِّر الواقع،مهما بلغ صدق هذه الإرادة ونبلها،إذ يجب أن تتوفر معها،أو حتى قبلها،الشروط الموضوعية والقوى الفاعلة،إلى جانب صياغة الأفكار والمشاريع ضمن موازين يجعلها ممكنة وقابلة للتحقيق.وهذا مابدأ يختلّ ويتداخل مع غيره،مما ولَّد اضطرابا ثم شكّا فتراجعا عن النظرة المتفائلة،خاصة وأنَّ الأنظمة العربية استطاعت أن ترمِّم نفسها بامتصاص أثر الهزيمة أوَّلا،ثم التكيُّف معها بعد ذلك.واستطاعت تلك الأنظمة أن تعيد ترتيب أولوياتها.وكان ضمن هذه الأولويات :مواجهة الذين يتساءلون والذين يحلمون،وأولئك الذين لايخفون عدم رضاهم عن الأوضاع التي يعيشون في ظِلِّها”(10).
إنّنا مهزومون حتى العظم،ولاأمل سوى بنشدان دائم لسلطة الأمل.
*هوامش
(1) عبلة الرويني : حكى الطائر سعد الله و نوس،مكتبة الأسرة2005 ،ص21 .
(2)عبد الرحمن منيف : لوعة الغياب،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المركز الثقافي العربي،الطبعة الثالثة 2003 ،ص 15 -16
(3)نفسه ص 15
(4) عبلة الرويني : نفسه ص 22 .
(5) عبد الرحمن منيف :نفسه ص 21
(6)بهاء بن نوار : سعد الله ونوس ومسرح القضية،سير وأعلام،مركز دراسات الوحدة العربية،سبتمبر 2012 ،ص 17
(7) عبلة الرويني : نفسه ص 24
(8)نفسه ص 24
(9)نفسه ص 29- 30
(10)عبد الرحمن منيف :نفسه ص 24 -23