بشير عمري: الخطأ في التفكير بعيدًا عن الإطار الإمبراطوري القديم في العلاقات الدولية

بشير عمري: الخطأ في التفكير بعيدًا عن الإطار الإمبراطوري القديم في العلاقات الدولية

 

 

 

بشير عمري

تتسع نطاقات البحث المعرفي حول الأسس التي يقوم عليها الصراع الدولي في سياقيه الرئيسين: هدم وتجاوز النموذج الحالي وبناء آخر جديد، بدأت بعض ملامحه تتضح كمؤشر مبدئي لتطور هذا الصراع، وإعادة تشكل مشهد العلاقات الدولية على ما سينجم عنه (الصراع)، وهكذا رؤى مصاحبة لما يجري ومفسرة له ومتنبئة لما سينتهي إليه، قليلا ما تحظى بالاهتمام الإعلامي المنشغل أكثر بتصوير الوقائع وتوجيه فهمها الوجهة التي يروم ملاَّكُه والمسيطرون عليه، ولعل ذلك هو في حد ذاته جزء من هذا الصراع الذي تنخرط فيه الدول والأمم بكل قواها بوصفه صراعُ للبقاء، من قبل ومن بعد.
فالسؤال الجوهري الذي يمكن طرحه اليوم، ما هي الملامح القادمة للمشهد الدولي التي ينم رسمها من خلال موجات التدافعات للصراع الدولي المحتدم خاصة اليوم في السعي للمحافظة على مناطق النفوذ العسكري والتجاري لدى أطراف، وكسب مناطق جديدة لدى أطراف أخرى؟
في مقابلة تلفزيونية له مع إحدى القنوات الفرنسية، انتقد المفكر الفرنسي آلان بووييه، فيما قد يبدو له، الهوس من الروس الذي سكن عقول بعض المثقفين البولونيين كدرس من تبعات الحرب العالمية الثانية، وخص بالذكر زبيغنيو برجينسكي الذي ضل سعيه حين اجتهد في إقناع الامريكان بضرورة أن يتم تحجيم الروس والعمل على اخراجهم من اللعبة الامبراطورية طيلة مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، فإذا بروسيا بقيادة بوتين والرعاية النظرية للمفكر الاستراتيجي أليكسندر دوغين تعود للنهوض الامبراطوري الارثودوكسي بقوة، معيدة رسم الحدود المائزة لها عن الغرب ثقافيا ومذهبيا مسيحيا، وعسكريا عبر ما تظهره في أوكرانيا من حزم وحسم.
كلام الآن بووييه في معرض انتقاده لـ”مهندس الفوضى” في كل من أفغانستان وما يجري حاليا في أوكرانيا، عن “اللعبة الامبراطورية” يحيل آليا إلى ضرورة محاولة فهم هذا العنصر الامبراطوري في سياق إعادة تشكل العلاقات الدولية التي بات الصراع الدولي يكشف عنها باستحياء، خصوصا وأن بووييه أشار إلى ظاهرة الانبعاث الامبراطوري الواضح في جهود أقطاب عالمية قديمة كالعثمانيين في تركيا، والفارسيين في إيران، الصين وروسيا الارثدوكسية.
فالتسليم بهكذا طرح وشرح لمنقلب الصراع الدولي، سيعني بأن التاريخ قد استهلك معطياته في نموذج الدولة الأمة، وأن الغد حافل بانقراضات عدة على مستويات كبرى لعل أكبرها هو سيلان الجغرافية السياسية لتنغمر الصغار فيها وقد لا يسلم من ذلك الانغمار حتى تلك الدول التي لم تزلها باحثة عن نفسها كأمة، مهما كان حجمها المكاني والزماني والديمغرافي.
لكن سيكون الأمر غاية في الزلزالية والبركانية التي سيحدثها هذا الانبعاث الامبراطوري إذا ما قام على أسس من الماضي، غير متغير في التاريخ وفق ما تمليه وتقتضيه معطيات واقع وواقعية التاريخ، فالدولة التي ذكرها بوييه ذات الخلفية الإمبراطورية، إذا ما أسندت في سعيها الانبعاثي على خرائط قصص الماضي كشرعية لتمددها مجددا في الزمكان فسيكون عقبى ذلك الخراب الأكبر الذي سيحوصل كل خرابات التاريخ البشري، بل إن شيء من هذا يكاد يكون واقعا حاليا في عديد النزاعات الإقليمية، فالنزاع حول تسمية الخليج بين عربي وفارسي، والجزر المتنازع عنها بين ايران والامارات (أبي موسى وطومب الصغرى وطومب الكبرى) لهو لمحة مما قد يعظم ويطم في المستقبل إذا ما انقلب الوضع الدولي إلى السياق الامبراطوري.
أيضا من أهم ما يمكن فهمه من إيراد المفكر الفرنسي الآن بوييه للعودة القوية للروس إلى “اللعبة الامبراطورية” كشكل متجدد في الصراع الدولي، هو نهاية قدرة الدولة الوطنية على خوض الصراعات الدولية، لا في سياقها التاريخي ولا في سياق آليات جهدها للقاء عبر مسار تاريخي طويل من الصراعات الوجودية، ومن أهم تلكم الاليات التحالفات الجيوستراتيجية التي كانت تعقدها الدول بحسب مقوماتها المشتركة الثقافية العرقية الدينية وأحيانا المكانية.
إذت بات واضحا اليوم  أن الدولة الأمة مهما تعاظمت قدراتها الذاتية وانتشرت بها في ربوع العالم، لا يمكنها أن تسود لوحدها، بل أكثر من ذلك قد تضعف وتتداعي إذا ما اكتفت بتلكم القدرات، فالتاريخ صار أعظم من أن ترسمه عضلة دولة بذاتها، فحتى الوولايات المتحدة الامريكية اليوم، خارج وهم ترامب ومغامراته التي تلقى انتقادات جمة من عقول أمريكا، رغم ما أوتيت من إمكانيات مهولة في كل المجالات هي الان قاب قوسين من الازاحة من على عرش قيادة العالم والحضارة، أمام زحف الشرق وعلى رأسه الصين، وما يحيط بها من زحف اقتصادي أسيوي جارف.
وحتى آليات الاستقواء كالتحالفات عسكريا والتكتلات اقتصاديا بدت وقد استنفذت جدواها كعنصر محدد لعلاقات التعاون والتحامي بين أمم ودول العالم، فلم يكن الاوروبيون مثلا يعتقدون بأن الولايات المتحدة قادرة بطبيعة نظامها الرئاسي المحض، أن تدير ظهرها لهم وهم يواجهون روسيا عبر أوكرانيا ويسعون بحسب نظرية برجينسكي لتحجيمها واقصائها من على طاولة “اللعبة الإمبراطورية” ومن ساعتها صير إلى ضرورة البحث عن إطار جديد للتعاون والتعاضد العسكري خارج الحماية لأمريكية لأوروبا، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في احتفالات ذكرى الثورة الفرنسية، بحثه على الاعتماد على القوة الذاتية في عالم يقتضي إظهار المهابة والقوة ! وقبله تم ابرام اتفاقات تعاون نووي مع بريطانيا هي الأولى من نوعها في تاريخ البلدين.
إذن فالصراع كما تبرزه مراحله في التاريخ، وكما تؤشر له النظريات والأفاق المتبناة من عديد الدول ذات الدور المحوري في العلاقات الدولية، ليسه فقط طابع لهذا التاريخ، وميزة بشرية تعكس البنية النفسية للأمم كما هي للأفراد، وإنما صار يفسر بكونه حاجة تاريخية لا محيد عن اشعالها والسعي لضمان استمراريتها من أجل أن تتعزز وتتكرس قوة القوي المتبوع و وتتكسر مساعي نهضة الضعيف التابع، وغاية ما يحصل لهذا الصراع في التاريخ هو أن أنماطه ووسائله تتبدل بحسب تبدل مصادر التنظير له من عقل ودائرة حضارية إلى أخرى، وهكذا يتأكد شيئا فشيئا من أفق التاريخ أن الدولة الأمة في سياق الصراع الدولي، والذي كانت هي بذاتها من تداعياته وإفرازاته، وما ابدعته من وسائل من أجل البقاء وتحقيق مصالحها كالتحالف والتكتل والتعاون، عبر مستويات مختلفة من الاقليمية والانتمائية الحضارية، والمشتركات الثقافية والمقدرات الطبيعية، صارت مهددة بالإزاحة في ظل تصاعد المد الامبراطوري الذي يحمل هو الآخر في طياته العديد من عناصر أزمته الذاتية، أو لنقل أزمات كامنة في قراءات عقوله للتاريخ كإرث وكواقع للصراع، ولكن هذا الوحف الإمبراطوري في نزوعه لا يقيم اليوم وزنا لما قد يفرض الماضي من قراءة ارتجاعية للقوى، ذلك لأن هاته الامبراطوريات مزهوة ومنشغلة اليوم بمعاودة الانبعاث وتحقيقه كمشروع شرعي وحتمي مهما كان الثمن في ذلك، وإذا كان من شأن ذلك أن يفرز أو يكشف عن أزمات على الصعيد الدولي فليكشفها، طبعا هذا ليس تصديقا لتنبوءات صامويل هنتينغتون، الذي تحدث عما اعتقد أنه سيكون صدام حضارات، ذلك لأن العلاقات الدولية الحاصلة اليوم، لم تخل من هذا الصدام، أو على الأقل باعتماده كمحدد رئيس في تحقيق التعاون وتغلبه في فض أو تأجيج النزاعات، وإنما هو ترقب بحسب ما تكشف عنه حصائل الواقع، لما سيكون عليه الغد من “لعبة الامبراطوريات” كما وصفها المفكر الفرنسي الآن بوييه، حيث سيظل العرب في طور حضاري جديد خارج هاته اللعبة لكونهم أشتات من التابعين للمركزيات الامبراطورية التي يتم التأشير لها والتبشير بها اليوم.
كاتب جزائري