سعاد خليل: إعادة تصور مفهوم الجمال في سياق التحولات الرقمية والثقافية

سعاد خليل: إعادة تصور مفهوم الجمال في سياق التحولات الرقمية والثقافية

سعاد خليل
في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع التطورات التكنولوجية وتتشابك الثقافات، يكتسب مفهوم الجمال بعدًا جديدًا يتجاوز الحدود التقليدية للفن والجمالية. لم يعد علم الجمال مجرد فلسفة تناقش صفات الجمال وقيمته في الأعمال الفنية القديمة، بل تحول إلى مجال ديناميكي يستجيب لتحولات العصر الرقمي وثورة وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا المقال يأخذنا في رحلة تاريخية وفلسفية عبر تطور علم الجمال، من جذوره في الحضارات القديمة مرورًا بالثورات الفكرية التي أعادت تشكيل فهمنا للجمال، وصولًا إلى العصر الرقمي الذي يعيد صياغة قواعد الفن وتفاعله مع الجمهور. نستعرض كيف تأثر الذوق الفني بالتحولات التقنية والثقافية، ونطرح تساؤلات جديدة حول ماهية الجمال ودوره في عالم متغير لا يكف عن التحدي والتجديد.
علم الجمال، أو فلسفة الفن، أو نظرية الجمال، هي مصطلحات مترادفة تعبّر عن انشغال إنساني عميق، يظهر بصور متعددة في جميع الحضارات. ورغم الاعتقاد السائد بأن “الجمالية” هي مفهوم حديث مرتبط بنظرة جديدة تجاه الفن، فإن هذا التصور يحمل جانبًا من الخطأ، لأن الجمال كان دائمًا عنصرًا جوهريًا في الحياة الروحية والثقافية للبشر.
ظهر مصطلح “علم الجمال” (أو الاستطيقا) بشكل رسمي عام 1760 مع الفيلسوف الألماني ألكسندر بومغارتن، حيث اكتسب طابعًا فلسفيًا منهجيًا، يعكس تحولات عميقة في علاقة الإنسان بالفن. فقد حدث انقلاب مزدوج في النظام الفني: من جهة الكاتب (أو الفنان)، ومن جهة أخرى المتلقي (أو الجمهور).
تحول وظيفة الفن: من المقدّس إلى الإبداع الشخصي
في الحضارات القديمة، وخاصة في العصر اليوناني، كانت الأعمال الفنية تؤدي وظيفة سامية تتجاوز حدود الإنسان. كانت “الكتب الفنية” أو الإنتاجات الإبداعية تمثل محاولة لإعادة خلق النظام الكوني، وتُمنح بعدًا شبه ديني، إذ يُعتقد أن الإله، بقدرته السامية، يتجلى من خلالها.

هذه الأعمال كانت تُصوَّر كمصغّر للعالم (Microcosm)، تعكس توازن الكون وتنسجم مع النظام الكوني العام. ولذلك، كان يُنظر إلى الفن بوصفه قوة خارجية تؤثر في الإنسان وتُسهم في تهذيبه وتشكيل وعيه، لا بوصفه نتاجًا داخليًا خالصًا.
الكاتب بين الماضي والحاضر
كما يشير لوك فيري في مقاله (بترجمة بدر الدين محمد)، لم يكن الفنان القديم يُنظر إليه كمبدع فردي، بل كوسيط يعبر عن حقيقة دينية أو ميثولوجية. لم يكن الناس يسألون عن اسم من صنع القطط المقدسة المعروضة في المتحف البريطاني، بل كانوا ينشغلون بمحتواها الرمزي وقيمتها الدينية.
أما اليوم، فقد تحوّل الكاتب والفنان إلى مركز العملية الإبداعية. لم يعد العمل الفني مرآة للعالم، بل مرآة للذات الفردية. أصبح الكتاب لوحة شخصية، أو بطاقة هوية تعبّر عن ذاتية مطلقة. في متاحف نيويورك، باريس، أو لندن، نقرأ اليوم أعمال ديشامب، ستيلّا، وأرتون، لا باعتبارها نسخًا للعالم، بل باعتبارها علامات فكرية تحمل بصمات الوعي الذاتي والجنون الإبداعي.
ثورة الذات وتناقض الحداثة
لقد غيّرت هذه الثورة في موقع الفنان منظومة القيم الجمالية. فلم يعد الفنان ناقلًا للتراث أو صوتًا للآلهة، بل أصبح مبدعًا ذاتيًا، يجد مصادر إلهامه في أعماقه. وهنا ظهر ما يمكن تسميته بـ”القطيعة مع التقليد”، حيث أصبح التجديد قيمة قائمة بذاتها.
لكن كما يشير بعض الفلاسفة، مثل أوكتافيو باث، فإن هذه القطيعة المطلقة مع الماضي تتحول مع الوقت إلى تقليد جديد. يصبح الإبداع المستمر عبئًا، والجدة تتحول إلى نمط فارغ. وهكذا، ما بدا في البداية ثورة حداثية، ينتهي إلى ابتذال و”شعبوية”، حيث تتكدس الأعمال الفنية في المتاحف دون أن تثير دهشة أو إحساسًا بالجمال الحقيقي.
تحوّل المتلقي: من التلقي السلبي إلى الذوق الفردي
التحول لم يقتصر على الفنان فقط، بل شمل المتلقي أيضًا. فكما يوضح لوك فيري، ظهر مفهوم “الذوق” بوصفه قدرة ذاتية على التمييز بين الجميل والقبيح، لا بوصفه توافقًا موضوعيًا حول صفات معينة.

ويُعتقد أن أول ظهور رمزي لهذا المفهوم (بمعناه المجازي) كان عند بلتازار غراسيان، الذي استخدمه ليصف الحكم الشخصي القائم على الإحساس والذوق. لم يعد الجمال موضوعيًا، بل ذاتيًا، يتعلق بما يعجبنا أو يرضي حواسنا.
مفارقة الاتفاق حول الجمال الذاتي
إذا كان الجمال ذاتيًا، كما تنص عليه نظريات الجمالية الحديثة، فكيف نفسر وجود إجماع على بعض الأعمال الكلاسيكية؟ كيف تَشُقّ أسماء كتّاب وفنانين مثل شكسبير، هوميروس، أو مايكل أنجلو طريقها عبر العصور، وتحظى بالتقدير رغم اختلاف الأذواق؟
هذه المفارقة تفتح باب التساؤل حول حدود الذاتية في الجمال، وعن مدى وجود قيم جمالية عابرة للثقافات والعصور. فهل هناك ذوق إنساني مشترك؟ أم أن ما نعتبره “كلاسيكيًا” هو نتاج تراكمات ثقافية وهيمنة تاريخية معينة؟
 علم الجمال في العصر الرقمي
مع تطور التكنولوجيا الرقمية وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، دخل علم الجمال مرحلة جديدة. لم يعد الفن مقصورًا على الوسائط التقليدية فقط، بل أصبح الفن الرقمي، الواقع الافتراضي، والفيديو التفاعلي جزءًا لا يتجزأ من الحقل الفني.
في هذا العصر، يتغير تعريف الجمال وطرق استقباله، حيث يمكن للمتلقي أن يكون جزءًا من العملية الإبداعية من خلال التفاعل المباشر مع العمل الفني أو المشاركة في إنتاجه. تظهر هنا أبعاد جديدة للجمال، مثل الجمال الافتراضي والتجربة الجمالية متعددة الحواس، التي تتحدى المفاهيم الكلاسيكية.
على سبيل المثال، فنون الواقع الافتراضي (VR) تسمح للمشاهد بالانغماس الكامل في عالم فني ثلاثي الأبعاد، مما يوسع نطاق التجربة الجمالية. كذلك، منصات التواصل مثل إنستغرام وتيك توك تقدم فنونًا رقمية يمكن أن تتفاعل مع جمهور عالمي في الوقت الحقيقي.
كما أن الذوق والجمالية في العصر الرقمي يتأثران بسرعة بالاتجاهات العالمية، ويصبح تمييز “الجمال الحقيقي” عن الظواهر العابرة تحديًا متزايدًا. هذا التحول يفتح نقاشات فلسفية جديدة حول ماهية الفن والجمال في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا مع الحس الإنساني.
وهكذا يمكننا ان نقول أن علم الجمال ليس مجرد ترف فكري، بل هو انعكاس عميق لتحولات الإنسان في نظرته للعالم، ولذاته، ولعلاقته بالفن. بين قداسة الماضي وجنون الحاضر، بين تقليدية الذوق وعبثية المعايير الجديدة، يقف الجمال كمفهوم حي، يعاد اختراعه كل يوم، في تجربة الفنان والمتلقي على حد سواء.
لكن، يظل السؤال مفتوحًا: هل الجمال شيء نكتشفه أم نخلقه؟
وهل يمكن للجمال أن يظل حيًا في زمن أصبحت فيه كل القيم محل شك؟
في خضم هذا التحول الهائل الذي يشهده عالم الفن والجمال، يظل علم الجمال مجالًا حيًا ومتجددًا يتحدى ثوابت الماضي ويحتضن مستجدات الحاضر. من الفلسفات الكلاسيكية التي ربطت الجمال بالحق والخير، إلى تجارب العصر الرقمي التي تطرح مفاهيم جديدة تتجاوز الحدود التقليدية، نجد أن الجمال ليس ثابتًا بل متغيرًا حسب رؤية الإنسان وبيئته الثقافية والتقنية.
إن إعادة تعريف الجمال في ضوء التحولات الرقمية والثقافية تفتح آفاقًا واسعة للتفكير، وتدعو إلى تأمل عميق في علاقة الإنسان بالفن، ودور التكنولوجيا في تشكيل ذائقته الفنية. يبقى السؤال المفتوح حول ماهية الجمال: هل هو اكتشاف أم ابتكار؟ وكيف يمكن أن يحافظ على أهميته في زمن تتداخل فيه الأجهزة الرقمية مع الحواس والتجارب الإنسانية؟
في النهاية، يستمر علم الجمال كحوار متجدد بين الماضي والحاضر، بين التقليد والحداثة، وبين الإنسان والآلة، ليؤكد أن الجمال هو مرآة الإنسان وروحه، مهما تغيرت أدوات التعبير والوسائط.