التجويع المنظم في غزة: كيف يسبب الاحتلال المجاعة؟ ومن يتواطأ معه في هذه الجريمة؟

التجويع المنظم في غزة: كيف يسبب الاحتلال المجاعة؟ ومن يتواطأ معه في هذه الجريمة؟

 

 

د. أميرة فؤاد النحال
لم يعد ما يجري في غزة مجرد حصار طويل الأمد أو أزمة إنسانية طارئة، بل هو انتقال فجّ من نمط العقوبات الجماعية إلى سياسة الإبادة بالبطون الخاوية، فالاحتلال لا يمارس التجويع كأداة ضغط، بل كجزء من هندسة الفناء الهادئ، ضمن منظومة متكاملة تستهدف كسر روح الحياة في القطاع، وتجريده من قدرة الصمود والمقاومة، والمأساة لا تقف عند حدود الجريمة الصهيونية، بل تتسع لتشمل شبكة كاملة من التواطؤات الإقليمية والدولية التي تُعيد إنتاج التجويع بصيغ ناعمة، وتحول المساعدات إلى أداة ضبط، والإنقاذ إلى مسرحية إعلامية.
تُمارس المجاعة على غزة بوصفها أداة إخماد سياسي، وتُدار برعاية دولية على نحو يجعل المجتمع الدولي –بصمته أو تبريره– شريكاً مباشراً في الجريمة، كما تتحمل دول الجوار خاصة تلك التي تتحكم بالمعابر والمنافذ، نصيبها من وزر الجوع، إما بالفعل أو بالصمت، في وقتٍ تتهاوى فيه القيم الأخلاقية، ويُترك شعبٌ بأكمله ليصارع الموت في معركة طاحنة مع الجوع، يأتي هذا المقال مُحاولاً تفكيك بنية الجريمة المركّبة، ويعيد ترتيب الأدوار على مسرح المجاعة الممنهجة في غزة، حيث لم تعد الأسئلة تقتصر على: من يجوع؟ بل: من يُجَوِّع؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن يقف على قارعة الموت يتأمل بصمت؟
لم تعد المجاعة في غزة عرضاً جانبيّاً لحرب، ولا نتيجة عارضة لحصار، إنما تحوّلت إلى سلاح استراتيجي في يد الاحتلال، يمارسه بوعي كامل وبنَفَسٍ طويل ضمن ما يمكن تسميته بمشروع الإنهاك الحيوي، حيث يُستبدل القتل بالصواريخ بقتل الغذاء، ويُدار الموت بصمت عبر تفكيك البنية الحيوية للحياة، فمنذ ما يزيد عن تسعة أشهر، اعتمد الاحتلال منظومة مركّبة تقوم على التجويع بوصفه عقيدة أمنية، لا مجرد أداة ضغط، فالمجازر الميدانية في غزة يقابلها مجازر خفية تُنفَّذ على موائد الناس، حيث تم إغلاق المسالك الغذائية بالكامل، وتدمير سلاسل الإمداد المدني، وتجريم الطحين، وقصف عربات التوزيع، واستهداف البيوت الزراعية ومخازن المؤن، كل ذلك ضمن هندسة دقيقة لخفض السقف الغذائي في القطاع إلى ما دون خط الحياة.
لقد استعلى الاحتلال بخطط الحصار إلى مستوى إدارة موت بيولوجي بطيء، عبر فرض حالة من الانكماش الحيوي، تُمنَع فيها الكتلة السكانية من الوصول إلى الحد الأدنى من الموارد التي تُمكّنها من البقاء، هذه ليست عقوبات جماعية فحسب، بل آليات إبادة جُزئية تمارسها دولة عضو في المنظومة الدولية بحق شعب محاصر، بلا ماء ولا دواء ولا غذاء، ولفهم عمق هذه الاستراتيجية، علينا النظر إلى المجاعة في غزة من زاوية القتل المؤجل؛ حيث يُترَك الإنسان ليموت على مراحل، وتُختبَر مناعته في معركة غير متكافئة مع الجوع، وسط طوابير من الأطفال والنساء الذين يتساقطون في الشوارع بحثاً عن لقمة.
في هذا السياق، لا يمكن القبول بوصف ما يحدث بأنه كارثة إنسانية، فهذه التسمية تبرّئ الجاني وتُخفي الفاعل السياسي، وتُسوّق لفكرة أن الجوع في غزة نتيجة ظرف وليس نتيجة سياسة، والحقيقة أن ما يجري هو إبادة غذائية مكتملة الأركان، ترتكب ببطء، وتُدار بصمت، ويشارك فيها متواطئون كُثُر بالصمت أو بالتبرير أو بالإغاثة الانتقائية، ومن هنا فإن التجويع ليس مجرد انتهاك، بل أحد أركان مشروع التصفية الناعمة، التي تُمارس على أهل غزة بوصفهم كتلة مقاومة يجب إخضاعها، أو إرغامها على القبول بالهزيمة عبر سلاح الجوع لا القصف.
لم يعد الحصار المفروض على غزة مجرّد سياسة صهيونية، بل أصبح منظومة دولية مُتعددة الأطراف، تُدار بمزيج من التجاهل القانوني، والتبرير الإغاثي، والتواطؤ السياسي، في مشهد صار أقرب إلى هندسة مجاعة مشروعة تُمارس تحت لافتة القانون الدولي، وتُدار بمعايير الحد الأدنى للبقاء، وتتولى مؤسسات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة دوراً محوريّاً في ترسيخ هذا النموذج، عبر خطاب يربط بين استمرار الحصار وضبط الإمداد الإنساني، بحيث يتحوّل الإنسان في غزة إلى رقمٍ في جداول التمويل، تُدار المجاعة عبر ما يمكن تسميته بنظام الإبقاء البيولوجي، حيث يُسمح للضحية بالتنفس، لكن لا يُسمح له بالحياة الكريمة، ويُضخ الحد الأدنى من المعونات ليبقى الجسد على حافة الانهيار، دون أن يموت تماماً، لأن الموت الكامل يُحرج النظام الدولي، أما التجويع المزمن فلا يزعجه.
ليس ذلك فحسب، بل وقّعت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع الاحتلال اتفاقيات أمنية علنية وسرية تضمن ما يُعرف في الدوائر الغربية بإدارة منسوب الحياة في غزة، وتراقب عبر الأقمار الصناعية كمية الغذاء المسموح دخوله، وعدد الشاحنات، ونوعية المواد الطبية، هذه منظومة ضبط غذائي تُخضع أهل غزة إلى برمجة موت تدريجية، تُدار من الخارج وتُنفّذ من الداخل، والأخطر من ذلك أن هذه المنظومة أعادت تعريف المساعدات الإنسانية لتصبح جزءً من أدوات الحصار، إذ تُستَخدم كأوراق مساومة لا كحقوق واجبة، فيتم تأخيرها، فرزها، تجفيف منابعها، بل ويُعاقَب المتبرعون أحياناً عبر قوائم تجميد الحسابات، مما يعني أن حتى فعل الرحمة قد جرى تحويله إلى جريمة محتملة إن لم تندرج في البروتوكول الغربي للإغاثة المشروطة.
حين خُلقت جغرافيا فلسطين، كان من حكمة الله أن تُحاط بدول عربية تشكّل مجالها الحيوي وسندها الطبيعي؛ لكن هذه الجغرافيا تحوّلت، في ميزان السياسة المعاصرة، من محيط دعم إلى سياج حصار، ومن حدود إسناد إلى بوابات خنق تتحكم بالموت والحياة، فمصر التي تملك بوابة غزة الوحيدة غير الخاضعة للاحتلال، تمارس منذ بدء الإبادة دور الرقابة الصامتة، حيث تُدار معبر رفح بمنطق التصريح الاضطراري، ويُفتح على استحياء في لحظات الضغط الإعلامي، ويُغلق بمجرد هدوء الكاميرات، لا تدير مصر المعبر بوصفه منفذاً إنسانيّاً، بل بوصفه أداة ضبط سياسي، تستجيب من خلاله لحسابات إقليمية ودولية تتجاوز المسؤولية القومية والواجب الديني، وأما الأردن بوصفه المعبر الشرقي لغزة، فقد اختار الانخراط في منطق التوازنات الهادئة، مكتفياً بخطابات لا تغيّر في الواقع شيئاً، بينما يمر عبر أجوائه الدعم العسكري للعدو دون اعتراض، وتُغلق حدوده أمام أي تحرك حقيقي لكسر الحصار.
إن صمت دول الطوق ليس حياداً، بل جزء من منظومة التجويع الممتدة، وتواطؤ فعلي يُترجَم بمنع الإغاثة، وغضّ الطرف عن المجازر، واحتواء الغضب الشعبي، وهكذا تتحوّل الحدود العربية إلى سياج مكمّل للحصار الصهيوني، وتصبح السيادة الوطنية حجة لتبرير الانعزال بدل أن تكون ذريعة للتحرّك، إن الحديث عن الشرفاء من هذه الأنظمة بات ترفاً لا وقت له، فالصمت أمام الجريمة جريمة، والإغلاق جريمة، وتسييس الإغاثة جريمة، نحن أمام جغرافيا محاصِرة لا تُغلق المعابر فقط، بل تُغلق ما تبقّى من أمل في أن تفي الأمة بواجبها الطبيعي تجاه غزة.
إن مصطلحات مثل كارثة إنسانية أو تدهور في الأوضاع هي شفرات سياسية لإخفاء مسؤولية الاحتلال وتحويل المجني عليه إلى رقم في نشرة إخبارية، ولذلك من واجب السردية الفلسطينية أن تُعيد تسمية الأشياء بأسمائها: نحن أمام إبادة بطيئة مُحسوبة، تُنفَّذ بآليات الاحتلال البيولوجي، حيث الغذاء والماء والدواء يتحوّلون إلى أدوات قمع، والمجاعة تُدار كبنية من بُنى الاستعمار، هنا يجب أن نُسقط الخطاب المنمّق، ونعيد الاعتبار لتوصيف الواقع بلغة الحقيقة: لا يوجد تضييق بل خنق، لا توجد معاناة بل جريمة متكاملة الأركان تُنفذ بوعي وسبق إصرار.
في مواجهة هذه الجريمة المركبة، لا يملك الضمير الإنساني ترف الحياد، الصمت أصبح شراكة في الجريمة، والانتظار صار شكلاً من أشكال التواطؤ، فالخيارات الشعبية مفتوحة، بل وواجبة: من المقاطعة الشاملة للاحتلال ومؤيديه، إلى الخروج في الساحات والضغط على الأنظمة المتورطة في تجويع غزة عبر بوابات العبور وخيوط التحكم، فالميدان السياسي ليس مغلقاً؛ يمكن إعادة تعريف العلاقات مع القوى الدولية الداعمة للمجرم، ويمكن إسقاط شرعية المؤسسات التي تُشرعن الحصار بقرارات إنسانية تخدم الجلاد، كما أن الشارع العربي خاصة في دول الطوق، يملك ورقة زلزالية: تحريك الجماهير لتكسر الطوق الجغرافي والسياسي معا، والإعلام المقاوم أيضاً يحمل مسؤولية في تفكيك الرواية المُضللة، وتسليط الضوء على المجاعة المصنوعة لا على المساعدات المهروسة بين شروط التمويل السياسي، أما المثقفون والعلماء والنخب، فهم اليوم أمام امتحان وجودي: إما أن يصطفوا في معسكر الضمير الجمعي، أو يُسقطوا بأنفسهم آخر أوراقهم أمام شعب يُباد على الهواء مباشرة.
إن ما يجري في غزة ليس حصارا بالمعنى الإداري، ولا كارثة إنسانية بالمعنى الإغاثي، بل مشروع إبادة ممنهج تديره منظومة استعمارية بشراكة دولية وإقليمية متكاملة، وبإشراف هندسي يحسب السعرات والأنفاس، ويُعيد تعريف الجوع كمركبة قتل، كل من يطالب بالصبر دون حراك، وكل من يبرر الصمت بسياسة، وكل من يسكت عن هذا الموت المدروس، هو جزء من الجريمة، فنحن لا نكتب لاستعطاف، ولا نحاور لرد مجاملات، بل نقف في مواجهة جريمة تاريخية تُرتكب أمام أنظار العالم المتحضر الذي يبررها بالقانون الدولي، ويغسل يد القاتل بالإغاثة المشروطة.
ولذلك.. نعلنها صراحة: نبرأ إلى الله من صمت العلماء، وسكوت الدعاة، وانشغال المنابر بخطاب الحيض والنفاس في زمن يُجَوّع فيه شعب كامل عن سبق تصميم، نبرأ إلى الله من الشاشات التي توزن الضحايا بميزان التوازن، ومن الأقلام التي تساوي بين القاتل والقتيل.
إن غزة لا تطلب شفقة بل موقفا، لا تنتظر فتوى بل فعلاً، ولا تبحث عن غوث، بل عن انحياز أخلاقي كامل لكسر هذه المنظومة القاتلة، وحتى يحدث ذلك، لن نراهن على أحد، رهاننا على رب السماء، وعلى دم لا يخذل القضية، وعلى أمعاء خاوية لا تنحني.
كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي