د. جمال الحمصي: إنشاء الأوهام: التجارة بالضمير والحديث الفارغ في زمن ما بعد الحقيقة

د. جمال الحمصي: إنشاء الأوهام: التجارة بالضمير والحديث الفارغ في زمن ما بعد الحقيقة

د. جمال الحمصي

لماذا ربط القرآن الكريم بين القول السديد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا) وبين الإصلاح وبناء الأمم )يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(؟ لأن التمويه والكذب والتضليل يقود، على المستوى الجماعي وفي الأجل الطويل، الى فساد المجتمعات وشللها وانهيارها. هل تتخيل كم ستعاني الأسر والأسواق والاقتصادات والمجتمعات السياسية والحوكمة العامة من نموذج الكاذب والمُضلّل اذا كان هذا هو النموذج السائد؟ باختصار: الحكي مش ببلاش.
ويبدو ان كثير من العرب، جماهير ونخب وقادة ومؤثرين، مبتلون منذ القدم، وأكثر من غيرهم، بمتلازمة الخطابة والتنديد والظاهرة الصوتية منذ عصر الجاهلية، ويحدث هذا رغم ان كتابهم القرآن الكريم قد حذّرهم مراراً من آفات اللسان ومن زخرف القول ولهو الحديث. رغم ذلك، وللإنصاف، تبنى العرب المتقدمين حلف الفضول لإغاثة الملهوف.
وهنالك العديد من الآيات القرآنية المُحْكمات التي تؤكد تحريم اتباع الظن والهوى والمجادلة بالباطل. ولقد أنعم الله على الإنسان بنعمة البيان والبلاغة (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ليس ليستغلها في التضليل والتحريض والبراجماتية وقلب الحقائق لمصلحة مالية أو عقائدية أو سياسية.
وقد انقلب تأثير متلازمة “صف الحكي” من منصات الشعر والخطابة فيما مضى الى منصات الإعلام والمحتوى والسياسة وفي الصحافة الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. حتى الغرب العلماني بعد ان فقد الايمان بقدرة العلم والفلسفة على كشف الحقائق الكبرى والقيم العليا والصغرى، انكفاً في معظمه الى “ما بعد الحقيقة”، أي الى العاطفة والشعبوية و”الروح الحيوانية”.
مقابل ذلك، مفاهيم مثل الحق والعدل والحقيقة والكرامة والموضوعية والصدق وما شابه أصبحت أقل أهمية في عقلية العربي الجديد والسياسي الغربي، فهو لا يزال يعتقد ان الواقع الكوني يتحول وينقلب فجأة بمجرد الكلام والتلميح والتنديد والهذار!. أنها أقرب الى عقلية التمني والتشهي حسب الهوى والمواربة حسب المصلحة الذاتية.
محاولات بيع المواقف بالدولار والتشويش وتضليل الرأي العام تضخمت للأسف في عصر التحولات الاقليمية والرقمنة العالمية حتى مع بعض الأساتذة الجامعيين والمؤثرين وأشباه الباحثين، لكن الحل ليس في تقييد الإعلام الرقمي وكبح سُنّة التدافع، بل في تقييد خطاب الكراهية والفتنة والتحريض تحديداً، خصوصاً إذا كان جماعياً وموجهاً من بؤرة مركزية بعيدة. كما أن سنن الله في الوجود قد أقرت ضوابط كونية حاسمة لظاهرة “ما بعد الحقيقة”: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”!. وبناء عليه، فليبتعد المؤثرين والكتّاب وأشباه الباحثين عن الزبد والفتن وما يضرّ الناس ليكسبوا دنياهم وآخرتهم.
ونصيحة من القلب: على المؤثر والسياسي والكاتب والباحث والعلماني والفقيه ان يجاهد في استبطان نفسه والتأمل العميق بها وكشف قيمها الأساسية Core Values التي ينطلق منها مواقفه وتصرفاته ومدى مسوغاتها الموضوعية: هل هي قطعيات الدين (وجود الخالق ومسؤولية المخلوق)؟ أم معطيات العلم الحاسم وليس الجدلي؟ أم اغاثة المظلوم والملهوف؟ أم الظن والهوى؟ أم التقليد؟ أم المصلحة الذاتية؟ أم الإرث الغربي مثلاً؟ أم مصالح غير الأمة؟ أم مصالح الاستبداد؟ حتى لا يكون جزءأ من القطيع وتبرير “الباطل بلا طائل”.
يسهل على المؤثر في مختلف الميادين ان يزعم انه يبغي الإصلاح والمصلحة العامة، لكن عليه هنا ان يستند الى نظرية موضوعية وليست شخصية للمعرفة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ )!.
الثقافة الغربية، بشقيها العلمية والعامة، ليست مهووسة باللغة والهذار عموماً، بل بتفحص جوهر الظواهر وأسبابها ومسبباتها. فهي تدرس نظم الظواهر بعمق في مسعى لإصلاحها وتطويرها مع تبني منهج مفتوح في المراجعة والنقد وتقييم النتائج. المنهجية العلمية تؤكد الفصل التام بين عالم الواقع (ما هو كائن والمدعوم بالاحصاءات والشواهد) وعالم القيم (ما هو مرغوب شخصياً)، بمعنى ان الباحث ينبغي ان يعزل قيمه وتفضيلاته الشخصية عند دراسته بحيادية لموضوع معين.
باختصار، التضليل ظاهرة خطيرة ومتعددة الأبعاد، وهي مرتبطة بضنك الحياة وفسادها واتساع الفوضى فيها على مختلف المستويات، كما انها تُضخّم من العدمية الاخلاقية في المجتمعات العربية. لذلك حذر القرآن الكريم من الكذب وخداع النفس والآخرين وعلى الله عز وجل (يخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
اما “ما بعد الحقيقة “Post-truth فهي ظاهرة يتفاقم فيها “الوعي الزائف” والدعاية، ويفقد فيها الرأي العام والكتّاب والنخب والدول احترامهم للحقائق والمبادئ الموضوعية، ويكون فيه التأثير الأكبر للمشاعر الشخصية والدوغمائية والمصالح الآنية الضيقة. والحل هو أولاً بتفعيل سُنّة التدافع الفكري وفق معايير مهنية عالية المستوى وليس بتقييد حرّية الرأي على إطلاقها، وثانياً في كشف التضليل العابر للدول وتقييده، وثالثاُ بتقوية المناعة الذاتية للشائعات والبروباجندا وبنشر فضيلة الصدق في الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام والنادي والهيئات العامة.
كاتب اردني