د. روز اليوسف شعبان: نضال أرملة من الجليل في رواية “أرملة من الجليل”

د. روز اليوسف شعبان
أرملة من الجليل رواية للشاعر والكاتب محمد بكرية، إصدار دار يافا العلميّة للنشر والتوزيع، عمّان (2024)، رسمة الغلاف الفنانة مها تيسير ياسين.
في هذه الرواية يسرد الشاعر والكاتب محمد بكريّة، سيرة أسرته، وتحديدًا سيرة كفاح والدته، التي تزوجّت في الخامسة عش وأنجبت عشرة أبناء، وترمّلت في سن السابعة والثلاثين. هذه الأم المكافحة نذرت نفسها لأولادها، فعملت في فلاحة أرضهم، وأعالت أبناءها، ووقفت بصلابة تواجه الجنود الإسرائيليّين الذين همّوا بالدخول إلى أرضها ومصادرتها، لكنها استبسلت في الدفاع عن حقّ أبنائها في العيش بكرامة، “فانسحبت الدبابات وهي تمحو أشتال مساكب الدخان عمدًا، وكان الجنود الذين اعتلوا صهواتها يضحكون ساخرين شامتين منتصرين على الأطفال الخائفين”(ص 34). يستذكر الكاتب هذه الحادثة التي أثّرت في نفسه، فقد كان طفلّا آنذاك، أرعبه ما شاهده، فأمسك بثوب أمّه باكيا وهي تقول لهم:” فوتو يمّا، فوتوا جوّا، تعالوا، يا ربّ ألطف، ارحمنا برحمتك، ما تطلعوا سكروا البوابة والتريس”(ص 35).
يتطرّق محمد بكريّة أيضًا، إلى نضال أهل بلدته عرّابة وغيرها من البلدات العربيّة في مواجهة سياسة مصادرة الأرض، التي أسفرت عن مواجهات مع الجنود وأدّى ذلك إلى استشهاد العديد من الشباب في الثامن والعشرين من عام 1976، والذي سمّي بيوم الأرض.
شريط من الذكريات يمرّ في خلد الكاتب، وخاصّة في طفولته حين كان يعمل مع والدته وإخوته في زراعة الممساكب بأشتال الدخان والبنادورة في حاكورتهم الواسعة التي تقدّر بخمسة دونمات، يقول عن ذلك:” هذه الفلاحة مهنة أمّي التي أتقنتها جيّدًا فصارت علامة فارقة لعائلتنا وذلك بسبب حاجتنا إلى مردودها الماديّ، ففي الصيف كنّا نفلحها بكافّة أصناف الخضار للاستهلاك العائليّ وللتجارة أيضًا. أمّا في الشتاء فكانت تخضرّ بأحواض طويلة عبارة عن دفيئات من النايلون لاحتضان أشتال البنادورة والدخان”(ص 70). يقول الكاتب:” إنّ هذه المرحلة كانت مبعثًا لسعادتنا خاصّة نحن الصغار بسبب مشاركة أعداد من الأشخاص في هذا العمل مما يضفي جوًّا احتفاليّا ناهيك عن الفوضى الجميلة التي كنّا ننعم بها ونحن ننفّذ تعليمات الكبار”(ص 70).
تولّى الابن عليّ وهو ثاني الأبناء مسؤوليّة الأبّ، فالأخ الأكبر شقّ طريقه وانسلخ عن الأسرة لأسباب كثيرة، وبقي الأخوة بلا أب وبلا شقيق أكبر، فحرص عليّ على تربية أخوته، تربية سليمة قويمة كما حرص على نجاحهم في المدرسة، وكان بالنسبة للوالدة هو رجل البيت الذي تستشيره في كلّ كبيرة وصغيرة. على أنّ اهتمام عليّ بأخوته، وحنانه عليهم، لم يخلّص الكاتب من حالات الحرج حين كان يشاهد ولدًا من أولاد الجيران مع والده صدفة، أو حين كان يلعب مع أولاد الحيّ فيمرّ والد أحد الأولاد، يتوقّف يبتسم لابنه، أو يداعبه ببعض الكلمات، وأحيانًا يعدو الولد صوبه ويتشبّث بتلابيبه، يقول الكاتب عن هذا المشهد:” كنت أنزوي جانبا خجلًا من هذا المشهد، كم كنت أتمنّى في سريرتي لو لم أكن شاهدًا على لقاء الولد مع أبيه لأنّ ذلك غريب عليّ جدًّا لا عهد لي بهذه التجربة، ولم أتذوّق حضن الوالد، ولم أكن أعرف الشعور الذي يعشعش في وجدان الطفل حين يمازحه والده، أو حينما يربّت على كتفه، أو يحتضنه، كم كان محرجًا ومؤلمًا في آن واحد”(ص 122).
كلّ هذه الذكريات وغيرها تمرّ في ذهن الكاتب، خلال زياراته الأسبوعيّة لوالدته التي أصابها العجز والاكتئاب، وكان أولادها يتقاسمون الوقت في البقاء بجانبها كلّ حسب دوره، وكانت لبيبة شقيقة أخيه الكبير ممرّضة، اهتمّت بأمورها الصحيّة وعكفت على تأمين ما ينقص من أدوية وكانت بمثابة ابنتها السادسة، تبرّعت بسخاء لتنظيف بيتها والإشراف على اغتسالها ومجالستها إلى حين وصول أحد الأشقّاء أو إحدى الشقيقات.
يتساءل الكاتب في نفسه في إحدى الليالي التي كان يبيت فيها في غرفة والدته:” لماذا اختارها الله لهذه المواجهات والصراعات التي لا تنتهي؟ لماذا وهب النساء الأخريات حياة هانئة وابتلاها هي بالذّات؟ ثمّ كيف استطاعت أن تتعايش مع المرض والهموم والتعب؟”(ص 123).
هكذا يأخذنا الكاتب في روايته لنغوص معه في صراعاته الذاتيّة، تساؤلاته، وخوفه الشديد على والدته المريضة، فيعتني بها ويحرص على تسليتها حين يكون بجانبها، وتحفيز ذاكرتها لاسترجاع مشاهد من حياتها وكفاحها من أجل إعالة أبنائها.
ينهي الكاتب روايته بمشهد مؤثّر جدّا وهو وفاة الوالدة، وما يصاحبه من حزن وشجن وبكاء.
أسلوب السرد:
اعتمد الكاتب في سرده على أسلوب السرد الذاتيّ، فجاءت الرواية بصيغة” الأنا” معبّرا بذلك عن حالته الشعوريّة خلال سرده للأحداث الواقعيّة التي عاشها وأسرته، مستخدما العديد من تقنيّات الحداثة، كالمونولوج (الحوار الداخليّ)، الاسترجاع والأحلام.
المونولوج:
يُعرّف المونولوج على أنه “نقل لكلام توجّهه إحدى الشخصيّات لنفسها. الضمير المسيطر عليه هو المتكلّم-وله مقدّمة غالبًا ما تشتمل على ضمير الذات “نفسه” (القواسمة، 2006، ص 185).: قال في نفسه، خاطب نفسه”. ويُعدّ استخدام تقنيّة المونولوج والكشف عن مكنونات النفس وما يعتريها من مشاعر واحدة من تقنيّات رواية تيّار الوعي، التي تُعنى بتقديم الخارج من خلال الداخل؛ أي من داخل الشخصيّة وليس من خارجها، وهو نوع من أنواع الصوت المتداخل الذي يقدّم، كذلك، داخليّة (وعي) الشخصيّة من الداخل. (قاسم، 1984، ص. 54).
من الحوارات الداخليّة للراوي التي تبيّن لنا غضبه على والده الذي تزوّج من أمّه في سنّ مبكّر ما يلي:” تساءلت لماذا كان يجب أن يتزوّج أمّي وهي طفلة في سنّ الخامسة عشر؟ ألم يكن من المنطق أن يبحث له عن عروس أكبر؟ ولماذا استغلّ موافقة أبيها المضمونة كي يتزوّجها؟ لماذا كان يجب عليها وعلى الفتيات في تلك الفترات أن يستجبن لرغبات آبائهنّ وقراراتهم دون اعتراض أو إبداء امتعاض؟ لماذا كتب عليها أن تلد عشرة أبناء بفارق عام أو عامين بين مولود وآخر؟ ولماذا كتب عليها أن تعيلهم في مرحلة مبكّرة وحدها بعد أن غيّب الموت زوجها؟ ولم أذاقها القدر كلّ أصناف الهموم والمتاعب فعاشت عمرها قلقة على مصير أبنائها وقبل ذلك على توفير لقمة العيش لعشرة أنفار؟ هل خلقها الله كي تخوض غمار تلك التحدّيات وما يصاحبها من خوف وحزن ووحدة وألم، إلى أن صارت صديقة للأمراض ورهينة للأدوية” (ص 53-54).
كلّ هذه التساؤلات تكشف لنا الصراعات الداخليّة في نفس الراوي وما يعتريها من حيرة واضطراب.
تقنيّة الاسترجاع
الاسترجاع أو “الفلاش باك” هو مصطلح روائيّ حديث، يعني الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب (قاسم، 1984، ص. 54).
وهو توقُّف الروائيّ عن سرد الأحداث في نقطة معيّنة، والعودة بالسرد إلى الماضي لاسترجاع أحداث تقادمت بعُطل الزمن؛ إذا رأى ضرورة لذلك، فهو، وفق جينيت، “ذِكْر لاحق لحدث سابق للنقطة التي نحن فيها من القصّة”( جينيت، 1997، ص. 79).
تنوّعت الاسترجاعات في هذه الرواية، بعضها جاء على لسان أمّ الكاتب، حين كانت تسترجع من ذاكرتها أحداثًا عايشتها، وبعضها من قبل الراوي الذي كان يسترجع أحداثًا ومشاهد من طفولته. من استرجاعات الأمّ ما يلي:” حدّثتني الوالدة وهي تستحضر زميلاتها ممّن عشن حياة قاسية أنّ الحاجّة أرملة مصطفى البدران، رحمها الله، ذاقت الأمرّين حتى ربّت صغارها بشقّ الأنفس قالت أمّي:” بكفي يمّا إنّو ابنها جميل الكبير انحبس وهو شابّ وبِلشتْ فيّو وبعًرّ أولاد” (ص 50-51).
في هذا الاقتباس نجد استرجاعين، فالكاتب يسترجع ما حدّثته به والدته عن هذه الأرملة، والأمّ تسترجع قصّة كفاح هذه الأرملة. ويمكن القول إنّ الاسترجاعين، يخرجان عن رقعة الحكاية الأصليّة لهذه الرواية، والتي تتمحور في كفاح الأرملة أم الكاتب، وعلاقته الوطيدة بها. وقد أشار إلى هذا النوع من الاسترجاع جيرار “جينيت” (1997) الّذي يقسّم الاسترجاع إلى نوعين: الاسترجاع الداخليّ والاسترجاع الخارجيّ. يحدّد الأوّل بأنّه الاسترجاع الذي يكون “حقله الزمنيّ متضمَّنًا في الحقل الزمنيّ للحكاية الأولى
والاسترجاع الخارجيّ هو ذلك الذي “تظلّ سعته كلّها خارج سعة الحكاية الأولى”( جينيت، 1997، ص. 60-61).
ومن الاسترجاعات المتعلّقة برقعة الحكاية الأولى( الأصليّة) التي تبيّن لنا طريقة تربية الأمّ واستخدامها عبارات، تثير فزع ابنها وتخيفه إلى درجة البكاء دون قصد منها، وهو صغير، ما يلي: يقول الراوي: “حينما كانت شقاوتي تجتاز حدود المعقول وتثير غضب الوالدة، كانت تحاول معاقبتي ليس بهدف إنزال العقاب، بل لتثير فيّ خوفًا يجعلني أهدأ كمن يتلقّى حقنة مخدّر، لقد اعتادت، رحمها الله، تهديدي ملوّحة بسبّابتها، وهي متجّهمة الوجه: والله إذا بتظل تغلّبني لأرجعك عند إمّك، عند الشحادة الّلي تركتك تحت الزيتونة، هي، أي أمّي تنصرف إلى مشاغلها أمّا أنا فأصاب بصعقة في روحي أشعر أنّني انسلخت عن هذه الدنيا والعائلة بثانية واحدة تمامًا، كان ينتابني شعور بالغربة والعزلة وعدم اليقين والهلع، بلحظة واحدة يصفرّ ويتكدّر وجهي، تسري ارتعاشة ساخنة في بدني، فألجأ إلى إحدى شقيقاتي راجيًا إيّاها أن تكذّب قول أمّي، تضحك شقيقتي وتطمئنني” (ص 104-105).
أمّا الأحلام والكوابيس التي تجلّت في هذه الرواية، فهي ميزة أخرى من ميزات تيّار الوعي، حيث يرى ( مبروك، 1989، ص 258) أنّ توظيفه يعبّر عن التجديد في الفنّ القصصيّ والروائيّ، من حيث ارتباطه بتكنيك القصّة الشعوريّة، فأضحت قصص تيّار الوعي نتيجةً فعليّةً لاستخدام الكاتب الحلم في قصصه، والإغراق في الحلم إلى حدّ التداعي (مبروك، 1989، ص 258). والتداعي هو مصطلح أطلقه عالم النفس ويليام جيمس (William James) ليعبّر به عن الانسياب المتواصل للمشاعر داخل الذهن، واعتمده النقّاد من بعده لوصف نمط من السرد الانسيابيّ، حيث يعتمد في ابراز تجربة الفرد في نقل الانفعالات والذكريات والاستيهامات (زيتوني، 2002، ص. 66)
من الأحلام والكوابيس التي تكرّرت في هذه الرواية، اختفاء أمّه بشكل فجائيّ، فزع الراوي، بكاؤه الشديد، نداءه عليها، بحثه عنها، رؤيته لها في السماء وهي تلبس عباءة بيضاء وتغطّي راسها بمنديل أبيض، وجهها مضاء، باسمة راضية، معافاة تقول له أمّه: ما تخاف يمّا، تخفش أنا مسافرة ما تنادي ع حداـ روح أُول لإخوتك أنا سافرت. لا اااا، ارجعي يمّا، ارجعي صحت دون جدوى اختفت أمّي. (ص 168-169). ثمّ يستطرد الكاتب في وصف مشاعره بعد أـن يصحو من كابوسه:” فجأة انتفضت مرعوبا، لاهثًا والعرق يتصبّب من جبيني…(ص 169).
ومن الكوابيس الأخرى التي كانت تتراءى للكاتب في منامه الكابوس التالي:” كان كابوسا مخيفًا، رأيت نفسي موجودًا في أرض واسعة جدًّا لا حدود لها، في ليل بهيم، أقبض على كتف والدتي الأيمن فيما شقيقي محمود ممسك بالأيسر، أمّا باقي أشقّائي فكانوا يقفون أمامنا، كلّنا نبحث عن درب يوصلنا إلى قرية ما، أمّي تقف منتصبة بعنفوان شبابها تلبس ثوبًا كحليّ اللون وعلى رأسها حطّة بيضاء، أمّي؟ أجابتني وهي تهدّئ من روعي كعادتها: بعد شوي يمّا، ما تخفش يا حبيبي.. سألتها وين إحنا؟ تجيبني وهي تحاول إخفاء حيرتها وخوفها: إحنا قريبين يمّا، فحجتين ومنوصل إن شاءالله. خذي أخوك يمّا إمسكيه وامسكي محمود هيّاني راجعة، ولما حرّرت راحتها من يدي انفجرت بالبكاء. لا يمّا خذيني معك وين رايحة؟ بخطى ثابتة تقدّمت وتوغّلتْ في الظلام الدامس حتّى اختفت تمامَا. (ص 57-58).
يصوّر لنا هذا الكابوس خوف الكاتب من فقدانه لوالدته، التي تعلّق بها، فكانت ملاذه الوحيد، ومبعث أمانه واستقراره.
اللغة:
من خلال اللغة يمكننا الاطّلاع على أفكار الشخصيّات، رؤاها، فكرها، وفلسفتها الحياتيّة. وبما أنّ الرواية سردت بلسان الراوي(الكاتب)، فقد تمكنّا من خلال لغته، الوقوف على أفكاره، معتقداته، مخاوفه، والاطّلاع أيضا على رؤى الشخصيّات الأخرى التي جاءت في رواية أرملة من الجليل.
تميّزت اللغة ببساطتها ووضوحها، تخلّلتها حوارات داخليّة وخارجيّة، إضافة إلى استخدام اللهجة المحكيّة المحليّة، والأهازيج من التراث الشعبيّ.
من الحوارات الخارجيّة باللهجة المحكيّة ما كانت ترويه الأمّ لابنها الكاتب حين كان يأتي لزيارتها ما يلي:” أبوك الله يرحمه ويسهّل عليه، كنت وأنا أروطة “صغيرة السنّ” نحلب المعزة وكنت آخذ ديست السبع ترطال” وعاء من الألومنيوم أو النحاس يتّسع سبعة أرطال” وأروح أحلب البقرات والمعزة من الصيرة” حظيرة المواشي” تاعتنا إللي حدّ الدار. ومرّة من المرّات أجى حياة عبد الحيّ كان صاحب حياة سيدك على الصيرة بحجّة إنّه بدّه يشتري راس غنم من سيدك وشافني هناك بالصيرة ولمّا روّح قال لحياة أبوك: في عندار أبو ريّا وحدة صبيّة سبحان الّلي خلأها، ولك شو رايك نحكي فيها؟ أبوك ما شافنيش ولا مرّة. سيدك بخرّف ستّك جميلة بأولها: بتعرفي هذا الزلمة إلّلي بأولولوا عبد الحيّ الموعد صاحبنا؟ جاي يطلب سميّة. آلتلوا ستّك: يا ويلك من الله يطلبها وهي أدّ النتفة؟
آلها: والله إذا إلها نصيب الله يسهّل عليها. وصار هالنصيب. (ص 49-50).
من هذا الحوار تنكشف لنا عدّة أمور منها: طريقة الزواج، حيث لم يكن العريس بشكل عامّ، يشاهد العروس أو يلتقي بها، إلا بعد الزواج، كما كان الآباء يزوّجون بناتهم في سنّ مبكّر جدًّا. كما يتّضح من هذا الحوار، وظيفة البنت في بيت أهلها، من حلب الماشية والاعتناء بها، كما نتعرّف من خلال هذا الحوار على تعابير كانت تستخدم في الماضي ولا نستعملها اليوم مثل: الديست، الصيرة. كما يمكننا معرفة أنّ سكّان عرّابة البطوف يلفظون “حرف القال” آل” فبدلا من نطقهم “قلت” بالقاف، ينطقونها “ألت” بالهمزة.
ومن الأهازيج الشعبيّة ما ورد على لسان والدة الراوي:” يا مين يجيب الدوا ويا مين يداويني
علي يجيب الدوا ومصطفى يداويني
ومحمود يحطّ الدوا ع الجرح ومحمد يشفيني”. (ص 175).
من هذه الأهزوجة يتبيّن لنا تفضيل الأمّ لأبنائها الذكور عن الإناث، علمًا أنّ بناتها اعتنين بها عناية خاصّة، لكنّ التقاليد العربيّة والموروث الشعبيّ، يؤثر الذكور عن الإناث.
كما استخدم الكاتب تعابير تراثيّة تتعلّق بأدوات الزراعة والرعاية والخبيز وما إلى ذلك، مثل: الطابون، رغيف محمّر مقمّر، الرِذف، الصاج، حواكير، سناسل، الديست، المساكب، كما ذكر أنواعا من النباتات مثل: العلت، المُرّار، العنجل.
إضافة إلى ذكر طريقة الزواج سابقا، وإحضار العروس من بيت أهلها، على الخيل، وتجمّع المحتفلين في منطقة بركة القرية في عرّابة” في منطقة البركة كان النساء والرجال ينتظرون العروس وحال وصولها تنطلق الزغاريد والأهازيج الفلسطينيّة الجميلة” (ص 155).
الملخّص:
رواية امرأة من الجليل هي سيرة ذاتيّة وغيريّة، يسرد فيها الكاتب حياة أسرته (وتحديدًا والدته)، سردًا واقعيّا مؤثّرًا، ومن خلال سرده لسيرة والدته، يتطرّق الكاتب لسيرة أهل عرّابة البطوف، الذين يمثّلون نموذجًا مصغّرًا لسيرة الشعب الفلسطيني في سنوات السبعينات.
من خلال سرد الراوي، نتعرّف على الكثير من عادات الفلسطينيّين الذين يعيشون في القرى: مصادر رزقهم، ظروف حياتهم، صراعهم من أجل لقمة العيش، مواجهة الجنود والتصدي لهم لمنعهم من مصادرة الأرض، عادات الزواج، وكلّ ما يتعلّق في فلاحة الأرض، العلاقات الاجتماعيّة بين الناس، وما يسودها من تعاون وتعاضد، ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك، هو تسليط الضوء على قوّة المرأة الفلسطينيّة وكفاحها من أجل رعاية أولادها وحمايتهم، فكانت أم الراوي الأرملة الجليليّة التي تمثّل المرأة الفلسطينيّة المكافحة التي نذرت نفسها لرعاية أولادها العشرة، فنجحت في تربيتهم وتعليمهم، فبادلوها الحبّ والوفاء.
وقد ظهر تعلّق الكاتب الشديد بوالدته وتقديره لها، إلى حدّ، سيطرة الكوابيس على منامه، والتي كانت تظهر له والدته وقد ابتعدت عنه، فينتابه الخوف والرعب ويبكي بكّاءً مرّا.
سردت القصّة بلسان الراوي، الذي كشف لنا مكنونات نفسه وأفكاره، ورؤاه، من خلال تقنيّات الحداثة التي استخدمها، كالسرد الذاتيّ، المونولوج، الاسترجاع، الأحلام والكوابيس.
هذه الرواية هي شهادة على نضال شعب وتصدّيه لكلّ المصاعب التي واجهته من قبل السلطات، وكفاحه المرير من أجل لقمة العيش بكرامة.
رواية امرأة من الجليل هي رواية المرأة الفلسطينيّة الأبيّة، هي رواية التحدّي، الإباء والصمود على أرض الآباء والأجداد.
المراجع:
جينيت، جيرار (1997)، خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، ترجمة: محمّد معتصم؛ عبد الجليل الأزدي؛ عمر حلي، د. م.: المجلس الأعلى للثقافة، ط. 2.
زيتوني، لطيف (2002)، معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت: دار النهار للنشر.
قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
القواسمة، محمّد عبد الله (2006)، البنية الزمنيّة في روايات غالب هلسا: من النظريّة إلى التطبيق، عمّان: وزارة الثقافة.
مبروك، مراد (1989)، الظواهر الفنّيّة في القصّة القصيرة المعاصرة في مصر 1967-1984، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.