فؤاد مسعد: مسلسل “التغريبة الفلسطينية” بعد عقدين من الزمن لا يزال يحتفظ بعبء الذاكرة ويسرد قصة الأرض والثورة والمقاومة.

فؤاد مسعد
مسلسل تاريخي عن احتلال فلسطين، تأليف الكاتب/ وليد سيف، وإخراج الراحل/ حاتم علي، عُرض لأول مرة في أكتوبر 2004، لكنه عاد للواجهة في السنوات الأخيرة بعدما أعلنت دول عربية تطبيعها مع الكيان الصهيوني.
يكشف المسلسل عن حقائق حاول قطيع التطبيع القفز عليها وهو يولي وجهه صوب تل أبيب على وقع معزوفة أسموها “اتفاقات إبراهام”، وأول حقيقة وأهمها على الإطلاق: احتلال العصابات الصهيونية أرض فلسطين بتواطؤ ودعم غربي: بريطاني وأمريكي بالدرجة الأولى، وفي ظل عجز عربي لا يزال يجتر نفسه منذ عشرات السنين.
امتاز المسلسل- كما هي أعمال وليد سيف- بقوة النص وروعته وثرائه وتماسكه، وهذا شكّل الأساس المتين لقوة المسلسل وجماله، إلى جانب عوامل أخرى لا تقل أهمية كالإخراج وإدارة الإنتاج التي سهلت ووفرت كل شيء من أجل إنجاح العمل.
اختيرت قصيدة (الفدائي)، للشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان لتكون هي أغنية الشارة، كما تم اختيار أبطال المسلسل بعناية، فكان الثلاثي: خالد تاجا وجمال سليمان وتيم الحسن بالإضافة إلى جوليت عواد في طليعة الأبطال، الأول أب فلسطينيي مكافح، والثاني شاب وقائد في النضال والكفاح والدفاع عن الحق والأرض والبسطاء، الثالث هو “علي” أصغر أبناء العائلة ينشأ ويشب ويتعلم في كنف شقيقه الكبير وعائلته المشردة حتى يصل إلى المستوى المأمول في التعليم الجامعي، أما الرابعة فهي الأم الفلسطينية التي ظلت سنداً لزوجها وأولادها في كل مراحل النضال والمعاناة على الصعيدين العام والخاص.
يقول بطل المسلسل جمال سليمان في حوار صحفي إنه أول ما قرأ النص انبهر بروعته وتساءل: هل بالإمكان أن ننجح في تقديم هذا العمل للمشاهدين وهو بهذا الجمال والروعة؟
ولا يزال المسلسل بعد أكثر من عشرين سنة على عرضه أول مرة- يمثل مرجعاً قيماً لكل باحث في جذور القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، وقد حصل على عدد من الجوائز، منها أفضل سيناريو لمؤلفه وليد سيف، وأفضل ممثل (جمال سليمان)، وأفضل ممثلة (جوليت عواد).
البداية والأحداث
تبدأ أحداث المسلسل من ثلاثينيات القرن العشرين، في قرية فلسطينية- زمن الانتداب البريطاني، استمع بعض أبنائها لخطابات الشيخ عز الدين القسام وهو يدعو لمواجهة الانتداب والعصابات الإسرائيلية، ثم اندلاع الثورة الكبرى (1936-1939)، التي انتهت الثورة مع اشتعال الحرب العالمية الثانية.
ولأن رواية المسلسل استخدمت تقنية الاسترجاع فقد بدأت بالمشهد الختامي- تكريم الشاب الجامعي (علي) بعد تفوقه الأكاديمي، وفي اللحظة ذاتها يصله نبأ وفاة شقيقه الأكبر أحمد (أبو صالح) القائد والمناضل الذي طالما شارك بفاعلية في مختلف مراحل الثورة والكفاح الفلسطيني. وبعدها يبدأ سير الأحداث من البداية حتى النهاية- نهاية المسلسل وليست نهاية القضية.
وتوالت الأحداث والوقائع في محيط القرية – كما هي في الساحة الفلسطينية، من ظهور الشيخ الثائر عزالدين القسام واندلاع الثورة الكبرى ثم الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من احتلال وتهجير ملايين الفلسطينيين عام 1948، وصولاً إلى ثورة مصر في يوليو 1952 والعدوان الثلاثي سنة 1956، حتى حلت النكسة وهزيمة الجيوش العربية في يونيو 1967، وما ترتب عليها من احتلال إسرائيل مناطق فلسطينية جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري وجزء من سيناء في مصر.
الصراع بين الواقع والأمل
(لا تسل عن سلامته
روحه فوق راحته
بدلته همومهُ
كفناً من وسادته)
تغلب دراماتيكية الصراع في المسلسل بين الحق والظلم، الأرض وغاصبيها، الوطن والعدوان، ينعكس هذا الصراع على أبطال المسلسل في سجال بين الأمل والرضوخ، الأمل بحلم لم يأت بعد، والرضوخ لواقع ملبد بالسواد، سواد الهزيمة والنكبة والنكسة والقتل والتهجير، سيما بعد انتهاء الثورة الكبرى في الحلقة العاشرة من المسلسل، حين ظل القائد أحمد (أبو صالح) يرفض أي حديث عن نهاية الثورة، فقد ظل ينتظر التعليمات من القيادة، لم تأت التعليمات، بل جاء القمع والقوة المعتدية لتقهر أصحاب الحق والأرض والثورة، ليجد القائد نفسه مضطراً للقبول بالحقيقة المُرة التي طالما تهرب من مواجهتها.
ولم يفارق الأمل الفلسطيني أي جيل من الأجيال الفلسطينية، فقد ظلت أجيال الثلاثينيات والأربعينيات يحدوها الأمل بانتهاء الانتداب البريطاني وإقامة دولة فلسطين، فكانت الثورة والنضال والكفاح مستمراً في مواجهة الانتداب. أما أجيال ما بعد نكبة الاحتلال الصهيوني فقد عولت كثيراً على الجيوش العربية- جيش الإنقاذ وعلى ثورة مصر وجيشها بدرجة رئيسية حتى اصطدمت الجماهير بواقعة النكسة التي أجهزت على تلك الآمال.
رموز فلسطين
(صامتٌ لو تكلما
لفظ النار والدما
قل لمن عاب صمتهُ
خُلق الحزم أبكما)
تحضر في المسلسل رموز الحق الفلسطيني- كما هي حاضرة وماثلة في الواقع منذ أكثر من سبعين سنة، وفي مقدمتها المفتاح، الأمل الذي ظل يرافق المشردين واللاجئين ويكرهم بأنهم سيعودون يوماً إلى بيوتهم التي تركوها تحت وطأة الحرب والقتل والتهجير على يد العصابات اليهودية.
وقد سلط المسلسل الضوء على المفتاح عندما أغلقت (أم أحمد) بيتها خلال تحت وطأة الحرب والاجتياح في سنة 48، واحتفظت بالمفتاح لديها لحين العودة، وكذلك الشاب (سعيد) الذي يدركه الموت وهو في الصحراء قبل وصول الكويت، وفي تلك اللحظة يترك مفتاح بيته مع رفاق رحلته بعدما ظل يحتفظ به سنوات طويلة.
رمزية البندقية (البارودة) تحضر في المسلسل رمزاً للمقاومة ومواجهة الظلم وحماية الحق والدفاع عن الأرض والوطن، وأشهر بندقية في المسلسل هي البندقية التي اشتراها الشاب (العبد) من ذهب زوجته بعد زواجهما، ثم استشهد لتحتفظ بها زوجته، وفي معركة جديدة وهبتها لشقيقها حسن الذي يستشهد هو الآخر، لكنه يوصي بإعادة الأمانة إلى أهلها، فتعود البندقية إلى البيت وتسلم إلى الطفل رشدي ابن الشهيد العبد، يحتفظ بها حتى يكبر ويستخرجها بعد وقوع النكسة، وهنا تختتم أحداث المسلسل، في تأكيد على استمرار المقاومة.
كما تحضر الأغنية الفلسطينية بالإضافة إلى المرويات والحكايات والأسطورة المرتبطة بالأرض والعمل، الإرادة والصمود، وفي كل ذلك تمجيدٌ للحق الفلسطيني وتعبيرٌ عن رفض الظلم والاعتداء والاحتلال، ويتجلى التأكيد على أن قوة الحق ستنتصر على حق القوة مهما طال بها الزمن.
والمسلسل غني بالرموز والدلالات، كما هو تاريخ النضال الفلسطيني، وتناول كثيراً من القضايا والأحداث والمواقف في قوالب فنية ودرامية جعلته في طليعة المسلسلات التي سلطت الضوء على فلسطين وقضيتها ونضال شعبها المتواصل من أجل الحرية والاستقلال.