أ. د. هاني الحديثي: مستقبل الشرق الأوسط واستراتيجيات التغيير

ا.د. هاني الحديثي
يخطىء من يعتقد ان اسرائيل تتحرك في محيطها الاقليمي بعيدا عن الأجندة الأمريكية خاصة والغربية عامة .
تشكيل الكيان الاسرائيلي منذ البداية هو مرسوم غربي لرسم الاتجاهات والخارطة الجيواستراتيجية لعموم بلدان العالم العربي وجوارها الاقليمي الشرق أوسطي بدءا من مؤتمر بازل 1879 و مؤتمر كامبل 1905 ومعاهدة لوزان 1922 والتي شكلت الأساس في اتفاقية سايكس بيكو 1916 و اتفاقية لوزان 1922 م.
والسبب يكمن في جوهر الموقع الجيواستراتيجي للوطن العربي والأهمية البالغة لمنع قيام كيان عربي حضاري يربط الشرق بالغرب.
وفي ضوئه فان مسألتين مهمتين ظلت تشكل محور السياسات والاستراتيجيات الغربية هما تدعيم قدرات اسرائيل وإيصالها الى مستوى القدرة النووية(خارج نطاق رقابة المنظمة الدولية للطاقة الذرية) الموازية والمتفاعلة مع الغرب ،و منع قيام اي شكل من أشكال التضامن العربي.
و من متابعات دقيقة وتحليلية للوضع العربي والمحيط الاقليمي أرى ان الغرب نجح إلى حد بعيد في صياغة العلاقات العربية العربية من جهة ،والعلاقات العربية مع محيطها الاقليمي (ايران وتركيا و اثيوبيا ) وفق رؤيته لمستقبل عموم منطقة الشرق الأوسط عبر انشاء أنظمة او ازالة أنظمة تبعا لتقديراته ليس للعالم العربي والشرق أوسطي حسب انما لطبيعة المتغيرات الدولية ومجابهة نفوذ القوى الكبرى كالاتحاد السوفيتي (روسيا الاتحادية)والصين والتي تسعى لان تكون قوى مهيمنة في الاستقطاب الدولي عبر مشاريعهم المعلنة .
ان مما يسر للغرب والولايات المتحدة تحقيق استراتيجياته ليس فقط الاعتماد على اسرائيل كقوة متقدمة انشأت لهذا الغرض حسب انما في الضعف والارتباك والتناقضات العربية -العربية كانظمة سياسية شارك الغرب في صناعة معظمها ضمن رؤيته الاستراتيجية ،والأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الأنظمة المناهضة للغرب والتي بدأت تظهر بشكل عاطفي وشعبوي متميز منذ عقد الخمسينات للقرن العشرين وهي تجارب قومية وحدوية صادقة في مساعي التحرر من الاستعمار الغربي وإقامة كيان عربي موحد بالضد مما ذكرناه من مشاريع واتفاقيات و معاهدات غربية ولكنها دخلت معترك الأخطاء الاستراتيجية في مسألتين رئيسيتين:
الأولى :بناء أنظمة تلهب العواطف الجماهيرية ولكنها اخطأت في تنظيم تلك الجماهير في أنظمة ديمقراطية تمنحها حق المشاركة في الأنظمة السياسية لتتحول تلك الأنظمة الواعدة الى أنظمة ديكتاتورية قمعية تهمش الرأي الاخر وتقمع الحريات مقابل شخصنة السلطة.
الثانية :دخول الأنظمة هذه ومشاريعها بعملية صراعات حادة كل منها يعصف بالآخر ويسعى لتحطيمه من منطلق الأنانية وادعاء الزعامة المخلصة دون غيرها للامة العربية ليدخل العالم العربي مرحلة صراع الزعامات بدلا من الذهاب الى وحدة او اتحاد المشاريع.
وهنا كانت فرصة الغرب ومعه اسرائيل لتقويض هذه الأنظمة واحدا بعد الاخر عبر وسائل متعددة استنهضت بها العداءات التاريخية لبلدان الجوار الاقليمي ، والحروب المحلية والإقليمية ، وتشجيع ظواهر الانبعاثات الدينية والمذهبية ، وتغذية الصراعات الداخلية العربية -العربية بين أنظمة راديكالية مدعومة من الشرق الاشتراكي سابقا وانظمة محافظة مدعومة من الغرب وهي محط اهتمام اسرائيل والتي أنتجت معها لاحقا التطبيع الإسرائيلي -العربي بامتياز .
ان البلدان العربية مشرق العالم العربي (العراق وسوريا والأردن ومصر ولبنان فضلا عن بلدان الخليج العربي هي ساحة التغيير المركزية إلى جانب ايران وتركيا حيث توفر الإمكانات لانبعاث الصراعات الداخلية على أسس إثنية عرقيات ومذاهب واديان ومكونات أخرى وهو الوضع الذي مارسته ايران ولعبت على اوتاره في جميع بلدان المشرق العربي وسيلة منها لنشر نفوذها الاقليمي بعد الثورة الإيرانية وفق منهج ولاية الفقيه خارج نطاق العقل الواعي بارتداداتها عليها لاحقا وهي دولة القوميات المتوازية الرافضة للبقاء تحت هيمنة القومية الفارسية ،فضلا عن الأساليب الخاطئة التي عالجت بها الأنظمة في تعاملها مع مشاكلها المكوناتية وفق نموذج تركيا في التعامل المتطرف مع القضية الكوردية وعدم اقرارها بالحقوق القومية والثقافية للشعب الكردي وكذلك الحال في التعامل بنسب مختلفة في سوريا والعراق.
في ضوء ماتقدم فأن مايجري داخل العراق المرشح لاضطرابات سياسية ومحيطه الاقليمي أرى ان زلزالا سياسيا قادم لامحالة وان مقدماته بدأت فعلا ، وليس سلسلة الحرائق في محافظاته واستهداف منشآته العسكرية والنفطية من الداخل عبر فصائل خارج دائرة المسائلة القانونية وربما من الخارج إلا انذارا اوليا يجب الانتباه لها بحرص.
مساعي نتنياهو لتدمير وتقسيم سوريا عبر اللعب على وتر الأقليات كما حصل في موضوع النزاعات المسلحة بين الدروز و القبائل البدوية ، وقبلها احداث الساحل السوري بدعم إيراني لجماعات متمردة من بقايا نظام بشار الاسد محطة أخرى خطيرة نحو تشكيل دولة فاشلة يمكن ان تذهب نحو الانشطارات والتقسيم إلى مناطق نفوذ بين القوى الإقليمية تخدم الخارطة الجيواستراتيجية لاسرائيل والقوى الإقليمية الخارجية يتبعها احداث اضطرابات في الأردن ومصر فضلا عن تركيا وايران على غرار مايهدد سوريا التي تواجه نموذجا للتفتيت على غرار ماتحقق في لبنان.
جميع هذه البلدان معرضة لهزات داخلية عنيفة سواءا بتحريك الوضع المذهبي والعرقي وتوظيفها لصالح انهيار الأنظمة ،او بإحداث حرائق تهز الأوساط الاجتماعية ،او باستخدام الدرونات الحربية وقصف المنشآت العسكرية والنفطية وغيرها كما حصل في قصف المنشات النفطية شمال العراق (اقليم كوردستان فضلا عن بيجي و كركوك دون إيضاحات او تفسيرات مقنعة عدا الاتهامات التي تنال فصائل مسلحة تأتمر باوامر خارجية خارج نطاق الدولة ، وقد سبق لايران واعلنت صراحة عن مسؤوليتها في تحقيق تلك الضربات تحت مزاعم لاصلة لها بالواقع.
هنا لابد ان نمر على طبيعة التهديدات التي تتعرض لها مصر من جانب اسرائيل التي تضغط باتجاه حسم معركة غزة وترحيل سكانها الى سيناء من جهة ، والتهديدات التي يتعرض لها الامن القومي لمصر الناتج عن انشطارات الحرب السودانية والمترافقة مع تهديدات الامن المائي الذي يشكله سد النهضة في إثيوبيا بدعم أمريكي معلن وصريح وما يحققه مجمل ذلك من ضغوط جدية تتعرض لها مصر في ضل اوضاع اقتصادية متأزمة للغاية.
تاسيسا على ماتقدم فان المحيط العربي مشرق العالم العربي يقف عند مفترق طرق خطيرة لن تسلم منها البلدان الأخرى وضمنها بلدان الخليج العربي التي تجد نفسها بين مطرقة التطبيع مع اسرائيل او سندان التهديدات الخارجية رغم مظاهر الوفرة والاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة وغيرها وهي وسيلة ثبت عدم مصداقية الولايات المتحدة في التعامل مع حلفاؤها إلا بالقدر الذي يؤمن سيطرتها المطلقة على الشرق الأوسط حيث تلعب اسرائيل الدور الأكبر نحو تحقيقه وإنجازه كونه يؤمن لها الامن المطلق لعقود طويلة.
أن معالجة هذه التحديات المصيرية لايتطلب فقط اجراء تغييرات بنيوية وهيكلية داخل هذه الأنظمة في استجابة نوعية للتحديات الداخلية وقصور الأنظمة السياسية حسب وضرورة إصلاح العلاقة بينها وبين شعوبها بعيدا عن العسكريتاريا ومنهج التهميش والإقصاء والذهاب بدلا من ذلك لتأسيس أنظمة مدنية تحقق فعلا وليس شكلا دولة القانون ، انما عبر تحقيق منظومة اقليمية عربية كبرى اقتصاديا وأمنيا ودفاعيا وبالتنسيق مع بلدان الجوار المعنية وفق مشتركات واضحة لمواجهة مايمكن ان يحدث مستقبلا على عموم بلدان الإقليم العربي و الشرق أوسطي.
بدون ذلك فإننا امام مرحلة فقدان التوازن والانهيار لما هو قائم وتحقيق تغييرات جوهرية في الخريطة الجيوسياسية.
كاتب عراقي