السنية العربية: التبعية ومخاطر الانتحار السياسي – تحليل فقه الطاعة وتداعياته على فلسطين وأبعاد التحرر

السنية العربية: التبعية ومخاطر الانتحار السياسي – تحليل فقه الطاعة وتداعياته على فلسطين وأبعاد التحرر

 

 

د. محمد خليل الموسى

في صمتٍ ثقيل مثخن بالجراح، ومن قلب خراب ووهن مديدين، تظهر السنّية العربية وكأنها قد استنفذت آخر ما فيها من رمقٍ وجودي. الواقع أن المسألة لا تتعلق بمذهبٍ ديني أو بطائفة محددة، بل بسياق كامل من الوعي التاريخي، والسياسي والثقافي والديني الذي ما انفكّ يكرّس الطاعة والخنوع، ويحظر النقد، ويشرعن الاستبداد، وينظر إلى قضايا التحرر كأنها رجسٌ من عمل الشيطان. إن الإسلام السني العربي كما تشكّل تاريخيًا، لا كما هو في نصوصه وأصوله أو إمكاناته التأويلية، يقف اليوم عاريا أمام مرآة وجودية شفافة لا لبس فيها؛ فتظهر له هشاشته واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وتنعكس فيها صورة كاملة الأوصاف لكمَّ التناقضات والتواطؤات التي حوّلته إلى آلة انتحار جماعي، أو بتعبير أكثر رهافة أو لباقة، إلى فقهٍ للغياب.
أولاً: السنّية العربية : الطاعة أولا
السنة في أصلها النبوي ديناميكية نصية مفتوحة، تتغيا الاتباع لا الانصياع، وتؤسس الشرعية على أساس “القدوة” لا “السلطة”. لكنها مع تماهيها مع السلطة سلطوية في العهد الأموي، ثم تأطيرها نظريًا في كتب الأشاعرة والماوردي وابن جماعة وغيرهم، فقدت بعدها الرسالي، واتخذت من فقه الطاعة مستقرا لها: طاعة الإمام المتغلّب، وتحريم الخروج على السلطان، واعتبار السلم مع الجور خيرًا من الفتنة مع العدل. وفي هذا السياق يذكر ابن جماعة الكناني في كتابه ” تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام،” الآتي : “وأما الطريق الثالث الذي تنعقد به البيعة القهرية، فهو قهر صاحب الشوكة؛ فإن خلا الوقت عن إمام، فتصدى لها من ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف … ولزمت طاعته”.  وهذا المبدأ لم يكن يقتصر على ابن جماعة، بل  نادى به أئمة كبار آخرون.
هذه التحولات لم تكن محايدة، بل كانت تحالفًا بين الفقيه والدولة، وهو تحالف أنتج “إسلامًا رسميًا” يقدّس السكون، ويخشى من “العدل الثائر” ويغيب ” العقل الناقد”. لا ريب أن تلك  التحولات في الفكر السياسي الفقهي لم تكن محايدة أو عفوية، بل جاءت نتيجة تحالف بنيوي بين المنبر والسيف، حيث وجد كل طرف في الآخر ضمانة لبقائه : فقد وفّر السلطان للفقيه الشرعية والحماية والمكانة، بينما وفّر الفقيه للسلطان الغطاء الديني وشرعية الطاعة والتسليم بحكمه.  ويمكن القول أن محمد عابد الجابري حلل هذه العلاقة المركّبة بين المعرفة الدينية والسلطة  وانتهى بالمجمل إلى أن  الفقهاء كانوا في الغالب موظفين في الدولة، يخطبون بلسانها، ويفتون بما يناسب مصالحها ويدوّنون ما يحفظ استقرارها. لقد كان سواد العلماء جزءًا من جهاز الدولة، يسعون إلى شرعنة الطاعة لا من باب التقوى، بل من باب الحفاظ على سلطة الأمر الواقع.
لقد أفضى هذا  التحالف إلى إيجاد تصور للدين يخالف مقاصده وغاياته الرسالية التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فباتت تعد المطالبة  الثورية بالعدل تهديدًا، وأضحى العقل الناقد بدعةً والسكوت عن الظلم نهجا وسلوكا. الأمر الذي أدى إلى إعادة تشكيل الفضاء العام في الثقافة الإسلامية بصورة تخدم بقاء السلطة لا يقظة الأمة ونهوضها. هكذا تَكوَّن ما يسميه عبد الجواد ياسين بـ”الدين الموروث”، دين الطاعة والانصياع، لا دين التحرر ومقارعة الظلم والطغيان..
ثانيًا: السنّية العربية والتآكل السياسي
في المئة سنة الأخيرة، لم تبنِ السنّية العربية دولةً مستقرة واحدة. كل المحاولات انتهت إلى حكم عسكري و/  أو فساد أو انهيار أو فقر وجوع. حتى في الحالات التي شارك فيها الإسلاميون بمن فيهم الإخوان المسلمون في السلطة، كانت الغلبة لميراث فقه الطاعة والاستكانة لا فقه المقاومة. وعندما تم تمكين السلفية الجهادية بتوافق دولي على استلام السلطة في سوريا كان الإذعان للمستعمر وللإمبريالبة ومخططاتها لا تخطئه عين. بالإضافة طبعا إلى ارتكاب المذابح والقتل والتقتيل بحق الأقليات المذهبية والدينية.
لم تنتج السنية العربية ، منذ الحرب العالمية الأولى، مقاومة مسلحة طويلة الأمد ناجحة (باستثناء أفغانستان السنية غير العربية). كانت المقاومة الفعالة دومًا إما قومية (الجزائر)، أو شيعية (لبنان والعراق)، أو ماركسية (فلسطين سابقًا)، أو غير عربية (تركيا، البوسنة، الشيشان). والسؤال المنطقي الذي يثار هنا : لماذا؟
الواقع أن الجواب يقوم على ركائز ثلاثة هي : الولاء للحاكم مهما ظلم، لنفور من العمل الجماعي المنظم والريبة من كل فكر تحرري خارج التراث المتعارف عليه.  وسنعمد إلى تحليل مجز لكل سبب من تلك الأسباب.
لقد ترسخ في الفقه السني ، منذ قرون، مبدأ الطاعة المطلقة لوليّ الأمر، حتى ولو كان الحاكم ظالمًا، تحت ذريعة “درء الفتنة” وتقديم الأمن على العدل. هذا المبدأ لم يكن مجرد توصية سياسية، بل أصبح قاعدة دينية لها حضور عميق في الوجدان الجمعي. ومن يقرأ ” طبائع الاستبداد ”  لعبد الرحمن الكواكبي يستنتج  أن الكواكبي يرى أن  من أُوتي حكّامه من طاعتهم، فما ظلموه، بل ظلموا أنفسهم حين ألبسوا القيد بالذهب.  فالعبودية – كما يراها –  ليست مجرد علاقة إنسانية، بل عقلية تتحكّم بطبائع الشعب ” فالأمة التي لا تعي استبدادها تستحق أن تبقى تحت الرجعية.”في هذا السياق، تصبح مقاومة الحاكم عملًا شيطانيًا، والخروج عليه فتنة، والدعوة إلى العدالة مغامرة حمقاء. النتيجة أن البيئة السنية العربية – بخلاف غيرها – حرّمت الثورة من جذورها، فقهيًا وثقافيًا، فباتت الثورات إمّا خاطفة وغير منظمة، أو مآلها الفشل الداخلي.
أما بالنسبة للسبب الثاني وهو المتعلق بكون الجماعة السنية العربية مبعثرة ولا تعرف العمل الجماعي المنظم، فالمقاومة لا تُصنع من النوايا الطيبة، بل من التنظيم الصلب، والعمل الجماعي، والتخطيط الطويل الأمد. وفي السياق السني العربي، يندر أن نجد تقاليد راسخة لبناء تنظيمات أفقية أو هرمية فعالة خارج أجهزة الدولة أو القبيلة. وقد لاحظ ابن خلدون في هذا السياق أن : ” العرب … هم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم… “. لذلك يصح القول بأن العرب لا يجتمعون إلا على فزعة، فإذا نظرت إليهم بعد سكون الغضب، وجدتهم كما كانوا: جزرًا متنافرة. على أي حال، ابن خلدون في تحليله الخالد هذا ، يربط بين غياب البنية المؤسسية وغياب المشروع السياسي طويل النفس. فالعمل الجماعي المنظم لا يولد في مجتمع يقوم على العصبيات اللحظية وردود الفعل العاطفية والتفكير الرغائبي . ولهذا، فشلت معظم المحاولات السنية في بناء مقاومات فعالة أو دائمة. وذلك لعدم وجود  حاضنة اجتماعية حقيقية ولا بنية مؤسسيةولا قيادة جامعة تعبر عن مشروع موحد. وبالمقابل، نشأت مقاومات فعالة في السياقات القومية (جبهة التحرير الجزائرية)، أو الشيعية (حزب الله)، أو الماركسية (منظمة التحرير سابقًا)، لأنها امتلكت ما تفتقده البيئة السنية: القدرة على التنظيم والانضباط السياسي. وحتى حماس السنية، عندما وجدت بيئة حاضنة في غزة ومجتمعات محور المقاومة، وبنية مؤسسية وقيادة جامعة غايتها تحرير فلسطين كان استثناء فريدا من نوعه في سياق السنية العربية المعاصرة.
أما بالنسبة للسبب الثالث، فمن أخطر عوائق المقاومة في العالم السني العربي، هو التعامل مع أي فكر تحرري – سواء أكان مصدره الماركسية، أو القومية، أو حتى حركة التجديد الإسلامي ذاتها – بوصفه بدعة أو خروجا عن الدين. فثمة عقلية انغلاق إبستمولوجي (معرفي)، لا ترى الحقيقة إلا فيما كُتب في المصنفات التراثية وانتهى. ما يؤدي إلى الانتقاص التجديد، ومصادرة الفضاء العقلي الذي يمكن أن تنمو فيه مفاهيم مثل “الحرية”، “المساواة”، الكرامة، وحقوق الإنسان و “العدالة الاجتماعية”، وهي المفاهيم التي لا تستقيم أي حركة مقاومة بدونها. بل أن هذه المفاهيم لم تصبح بعد العناوين الرئيسة للسنية العربية المعاصرة. ومن هنا، فإن من يسعى إلى التفكير خارج السياق السني التراثي ينظر إليه كمبتدع على الأقل، وربما كختئن أو مرتد. وفي المقابل، تمتع الفكر الثوري الشيعي أو القومي بمساحة أكبر بكثير للحركة والاجتهاد، مما أتاح له إنشاء نماذج مقاومة صلبة.
قصارى القول أن غياب المقاومة السنية العربية لا يرجع إلى عوامل سياسية أو جغرافية فحسب، بل ثمة بنية ذهنية – فقهية تشكّلت عبر قرون، فحوّلت السلطة إلى قدر، والطاعة إلى واجب والنقد إلى فعل شائن أو لا طائل من ورائه على أقل تقدير.وإذا كان من أمل، فهو في إعادة بناء فقه جديد للحرية والمقاومة والكرامة، ينطلق لا من إنكار التراث، بل من نقده وتفكيكه، وتحويله من أداة خضوع إلى مصدر إلهام للتحرر. أي بتفجير طاقاته الثورية الكامنة من خلال تفكيكه وإعادة بنائه في ضوء قيم الكرامة، الحرية والعدالة.
ثالثًا: فلسطين وغزة: الانكشاف والانحلال الكاملين
في غزة، بلغ الانكشاف والانحلال ذروته. فبينما تُقصف المدينة بلا رحمة، وتُباد العائلات، وتُجتث الحياة، لم نجد في عواصم الدول السنّية العربية الكبرى سوى بيانات رخوة، وشجب خجول، وصفقات خلفية. بل وذهبت بعض هذه العواصم والمجتمعات إلى ما هو أبعد: شيطنة المقاومة،حظر التبرعات وفتح شرايينها للتطبيع.
 فلسطين بالنسبة للسنّية الرسمية “صداعٌ سياسي” لا “قضية وجودية”. ولهذا فهي مستعدة للتفريط بها مقابل استقرار النظم الحاكمة أو إرضاء للولايات المتحدة. أما السنّية الشعبية، فهي وإن تعاطفت عاطفيًا، إلا أنها لم تُنتج خطابًا تحرريًا منظمًا، ولا فعلًا تضامنيًا حقيقيًا يتجاوز اللافتة والمهرجان. ولتوضيح هذه الفكرة نقول: الأنظمة العربية ذات البنية السنية  لم تتعامل مع فلسطين كـ”قضية وجودية” تمسُّ البنية العقائدية والسيادية للأمة، بل كملف سياسي– أمني يُدار وفق مصلحة النظام، لا مصلحة الشعب. وهكذا، جرى تحييد فلسطين عن أي خطابات سيادية أو تحررية، وتحويلها إلى شأن داخلي فلسطيني محض.
أما فيما يتعلق بالسنية العربية الشعبية، فالصحيح أنها تبدي تعاطفًا شديدًا مع فلسطين، خصوصًا في لحظات التصعيد (غزة، الشيخ جراح، الأقصى)، لكن هذا التعاطف يظل موسميًا، عاطفيًا، انفعاليا، رغائبيا ورمزيًا لا يتعدى : المهرجانات، الشعارات ، حملات إلكترونية والخطب لحماسية. لكن ليس هناك أي فعل منظم، ولا أحزاب فاعلة وجدية ولا تحركات شعبية عابرة للحدود أو ضاغطة على كيان الاحتلال لوقف مذابحه في غزة.  ونستطيع أن نعزو هذا الموقف السني العربي الشعب إلى كون البيئة الفكرية السنية الشعبية تعاني من مشكلتين مزمنتين: الخوف من التنظيم السياسي المستقل، المرتبط بتراث النفور من “الحزبية”، خاصة بعد تجارب الإخوان المسلمين. والعداء التاريخي لأي خطاب تحرري غير متمركز على التراث السلفي، بما يجعل التفاعل مع خطاب المقاومة، خصوصًا لو كان يساريًا أو شيعيًا، محل ريبة وعدم قابليتها لقبول وجود مذتهب أو طوائف أو تيارت عقدية غيرها ضمن السياق الإسلامي. وكان كان هذا واضحا في موافق السنية العربية الشعبية في الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على حزب الله وإيران في إطار طوفان الأقصى.
في الدول العربية ذات البنية السنية، اتسمت السنّية العربية الرسمية (والشعبية أحيانًا) بكونها صامتة، أو متآمرة، أو مرعوبة من الثورة ضد الطغيان والاحتلال والتدخلات الخارجية. والسبب دائمًا هو الخوف من الفتنة، و”الحرص على وحدة الأمة”، وهي مفارقة كبرى، إذ كيف تكون الوحدة مبررًا للصمت على الذبح، بينما لا تُمنح للفلسطيني المقتول ولا لليمني الجائع؟
يقينا أن  الموقف من غزة هو لحظة الحقيقة، ففي هذه المدينة المحاصَرة، انكشفت كل أقنعة الاعتدال، والتدرج، والمصالحة، وظهر وجه السنّية السياسية العربيّة: وجه البيروقراطية، الخوف، الحسابات، والهروب من الحقيقة. من يخذل غزة لا يفعل ذلك لأنه خائف أو جبان فحسب، بل لأنه لا يمتلك أدوات الرؤية  ولا محفزات البصيرة  لأن فقهه لا يرى العدل إلا إذا أذن به الحاكم، ولا يسمع صوت الدم إن لم يمر عبر “الولي الشرعي”. ولأن علماءه، في الغالب، سادرين في غي التحريض الطائفي والدعوة إلى قتل المخالف لهم بالمذهب على أساس أنه دمه حلال وحياته مهدورة.
وفي المقلب الآخر، نجد أن من قاتل الكيان الصهيوني واقعيا وعمليا كان من خارج  السنية العربية التقليدية: حزب الله ، إيران، اليمن والفصائل الماركسية  – القومية الفلسطينية (منظمة التحرير، الجبهة الشعبية…). أما الحركات الإسلامية السنية العربية غير التقليدية (حماس والجهاد الإسلامي)  فقد كانت بوجه عام خارج السياق السني العربي الرسمي، وجزئيا ربما خارج المزاج السني العربي الشعبي، وبالذات الوهابي. والسؤال الذي يثار هنا ( وهو سؤال في غاية الأهمية) لماذا كانت الجهات التي تفاعلت مع فلسطين وغزة ونزفت دما من أجلها من خارج السنية العربية؟  والجواب واضح ويتمثل بكون هذه القوى كانت امتلكت واحدًا أو أكثر من العناصر الآتية :رؤية تحررية واضحة المعالم لا ترى المقاومة خروجًا بل واجبًا،  تنظيم عسكري – سياسي فعّال وأرضية دينية أو أيديولوجية تؤمن بالقتال ضد الطغيان دون قيد “السلطان” أو فقه الطاعة”. بينما السنية العربية، كما ألمعنا سابقًا، تأسر فكرة المقاومة داخل ثنائية الفتنة والخروج.
فما يحكم الوعي السني العربي التقليدي تجاه الثورة والمقاومة هو فقه الطاعة: “لا يجوز الخروج على الحاكم”” و درء الفتنة أولى من طلب الحق”. وهي مقولات فقهية تشكّلت في زمن الفتن السياسية الكبرى (الفتنة الكبرى، واقعة الحرة، سقوط بغداد…) وجرى تأبيدها كثوابت دينية، رغم كونها اجتهادات سياسية مشروطة بسياقات تاريخية. ومن هنا، أصبحت كل مقاومة مسلحة بدون إذن الحاكم – حتى لو كانت ضد محتل أجنبي –أمرا غير مرغوب فيه . صفوة القول هي المسألة ليست  أن السنّة العرب لا يحبّون فلسطين، بل القضية أن بُناهم الفكرية والفقهية والسياسية تمنعهم من تحويل الحبّ إلى مقاومة، ومن تحويل الشعور والرغبات إلى مشروع. وفلسطين لا تحتاج تعاطفًا عاطفيًا، بل تحتاج: فكرًا تحرريًا صلبًا، تنظيمًا ثوريًا راسخًا وكسرًا للتابوهات السياسية والفقهية التي جرّمت الثورة باسم الطاعة وخروجا من عقابيل الطائفية المنتنة وما يحيط بها من أوهام وأساطير حول الآخر المختلف طائفيا. وحتى يحدث ذلك، سيظل السنّة العرب يصفقون للمقاومين من بعيد، بينما يقفون عاجزين عن أن يكونوا طرفًا فاعلًا في معركة الوجود الأهم في القرنين العشرين والواحد والعشرين.
رابعًا: السنّية العربية وغياب اللاهوت السياسي التحرري

من الناحية التاريخية، لم تتمكن السنية العربية من إنتاج لاهوت سياسي تحرري يدعو إلى المقاومة أو العدالة خارج منظومة الدولة. وهذا على خلاف ما ما فعلته: الكاثوليكية اللاتينية في أمريكا الجنوبية من خلال “لاهوت التحرير”، الذي جعل المسيح أيقونة ثوريًا يقف مع الفقراء ضد الطغاة، والشيعة السياسية، حيث يمكن القول بأن “عاشوراء” و”الغيبة” مثلت بنية رمزية تسمح بنشوء لاهوت سياسي تحرري ومقاوم، والبروتستانتية، التي كانت عاملا محوريا في كسر وساطة الكنيسة، وانتقدت الملكية، وأسّست لمفاهيم  كالعقد اجتماعي وسيادة الدولة.  في المقابل، بقي الفكر السياسي السنّي أسيرًا لأمرين قاتلين هما : تجريم الخروج على الحاكم؛  

وقد تحول هذا المبدأ من نصيحةسياسية في زمن الفتن إلى قاعدة عقائدية، ما جعل كل نقد للحاكم يُعدُّ خروجًا، وكل محاولة للإصلاح تُصنّف فتنة. وهذا ما نراه في كتابات عدد من كبار الفقهاء، الذين رفضوا الخروج على الحاكم الجائر، وفضّلوا الطاعة المشروطة بدرء الفساد، واعتبروا من خرج على السلطان  “شق عصا الطاعة وأفسد الجماعة.” هذه الصيغة لا تميّز بين سلطان عادل وظالم، بل تشرعن الطاعة كأولوية مطلقة، مما قتل أي إمكان لبناء فقه ثوري. الواقع أن هذه القاعدة تتكرر لدى كثير من الفقهاء : الحكم لمن غلب بالسيف. أي أن القوة تسبق الشرعية، والتاريخ يسبق الحق. فها هو الماوردي في الأحكام السلطانية، يُبرر بيعة المتغلب بقوله : “إذا تغلّب قوم على الإمامة، واستتب لهم الأمر، وجبت طاعتهم إذا لم يُظهروا كفرًا.” هذه النظرية بدلت مفهوم الشرعية رأسًا على عقب: السلطة لا تنشأ من إرادة الأمة، بل من الأمر الواقع. وهكذا، أصبح “الشرعي” هو “القائم”، لا “العادل”.

أعتقد أننا لا نتنكب الصواب إن قلنا أن الفقيه السني العربي غالبًا هو ابن الدولة ولم ولن، يفكر قط في مواجهتها، حيث أنه أقرب إلى كاتب بلاط منه إلى ” ضمير الأمة”. وهذا ما جعل أغلب المذاهب الفقهية تُقنّن الواقع بدل السعي إلى تغييره، وتُنتج فقهًا يتماهى مع السلطة ولا يُقاومها. وحتى عندما ينتقد، يفعل ذلك من موقع الحذر، لا المواجهة.
لا جرم أن هذا الفقه بحاجة ماسة إلى النقد، ذلك أنه يعترف بالشرعية لأي حاكم متغلب، و يمنع الناس من المطالب بحقوقهم ويجرّم الثورة والاعتراض باسم الدين. هذا الفقه، بصورته الحالية، أضحى عائقا حضاريا وجوديا أمام نهضة المسلمين المعاصرة وتحررهم واستقلالهم ، وبخاصة في ظل انكشاف الأنظمة العربية وتواطئها مع الاستعمار الجديد والتطبيع مع الاحتلال.، وانكشاف حجم الطائفية والعمى المذهبي لدى السنية العربية الشعبية التبي أضحت أداة يستثمر فيها الغرب والصهاينة بما يخدم مشاريعهم الاستعمارية والتوسعية في المنطقة. وهذه نتيجة لا يمكن أن ينكرها أي عاقل، فالدين إذا أصبح خادمًا للسلطة، ذوى الضمير. والعلم إذا تحول عصا بيد السلطة تداعى العدل. ولهذا فإن نقد هذا التراث ليس خيارًا فكريًا ولا ترفا علميا  بل ضرورة وجودية.  وإلا فإن الأمة ستبقى رهينة فقهٍ لا يُنجز ثورة، ولا يولد مقاومة،  ولا يحرّر وطنًا ولا يطرد محتلا، بل ربما يخدمه.
خامسا : هل أصبح الأفول قدرا؟ : التفكيك كحاجة
وختاما، لا يسعنا إلأ أن نسأل : ما العمل إذًا؟ هل نترك السنّية العربية تتآكل وتنتحر؟ هل نخرج منها؟ هل نسعى إلى إفراغها من مضمونها؟
بالطبع الإجابة : لا. بل المطلوب تفكيكها من الداخل.  ونقصد بذلك إعادة قراءتها قراءة ما بعد استعمارية، تبحث عن الإمكانات الذاوية في طي النسيان، والتأويلات المهملة، وتحرر لحظة “النبوة” من  لحظة “السلطة”. نحن بحاجة إلى لاهوت سياسي سني تحرري مقاوم، يستمد جذوره من العدالة القرآنية، ومن تجربة النبوة، ومن تراث المعتزلة المبني على العدل والتوحيد، والفكر المقاصدي والتصوف التأملي النقدي، بدلًا من الجمود الفقهي. أي أننا في أمس الحاجة إلى ما يطلق عليه  إدوارد سعيد بـ”المثقف المنفي” داخل السنّية، ذلك الذي لا يحفل بطمأنينة المؤسسة، ولا يطرب لتصفيق الجمهور، بل يحرث التربة الصلبة للفكر ويفضح خيانات الصمت والهوان والتجيشش الطائفي.
رغم كل ما قيل، فإن الواقع ليس قدرا لا مجال لتفاديه أو تجنبه.  فثمة محاولات  جريئة لإعادة تعريف السنّية خارج تراثها السلطوي . ففي المغرب،  تسعى بعض التيارات إلى إعادة تأويل الشريعة في ضوء حقوق الإنسان. وفي فلسطين، تصنع المقاومة الإسلامية واقعًا يتجاوز كثيرًا الموروث الفقهي السني العربي الرسمي. وفي الشتات، هناك من يكتب، ويُنظّر، ويشكّك، ويطرح أسئلة. المشكلة أن هذه المحاولات ما زالت هامشية، مبعثرة، وفردية، وتحتاج إلى تكوين جبهة معرفية متماسكة، تشبه ما قامت به “مدرسة فرانكفورت” في نقد العقل الغربي، أو ما يفعله مفكرو مدرسة ما بعد الاستعمار (TWAIL) في نقد القانون الدولي. نحن بحاجة إلى مدرسة سنّية نقدية جديدة، لا تستمد مشروعيتها من الماضي، بل من قدرتها على مساءلته.
دعونا نأمل بنهوض جديد للسنّية العربية ؟  ولكن علينا ألا نغرق في الحلم، فهذا النهوض ثمنه باهظ وطريقه عسير ، لأنه يحتلاج منا إلى : نقد الذات، مواجهة التراث وتحرير الفقه من السلطة. لا يمكن أن تُبنى مقاومة أو دولة أو مشروع حضاري على قاعدة “أطع ولو جلد ظهرك”. ولا يمكن أن يُنتَج فكر تحرري من عقلٍ يخاف السؤال، ويقدّس الطاعة، ويستبيح من يخالفه مذهبيا أو طائفيا وويرتاب من الحرية وحقوق الإنسان .
لا نغالي إن قلنا أن السنّية العربية اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تنحاز إلى المظلوم، وتعيد تأسيس مشروعها على العدالة، والكرامة والحرية وإنسانية الإنسان،  أو تستمرئ انتحارها البطيء، حتى تنقرض كقوة معنوية في هذا العال. دون أن تدرك ذلك المآل المحتوم.  فهل من يسمع؟ وهل من يعقل؟ وهل من يبصر؟ وهل من يجرؤ؟ ربما السؤال الأخير بداهي لمن يسمع ويبصر ويعقل.