رجاء بكريِّة: “فن السرد” في الكتابة الإبداعية للشباب | الظهرات الشاملة، الفريديس | الداخل الفلسطيني

اشراف: الرّوائيّة رجاء بكريِّة
“..سعينا متواصل من أجل تلميع زجاج المخيّلة عبر الثّقافة لتمكين الفكرِ الحُر من التّحليق في واقع تطغى عليه الطّاقات السّوداء خصوصا في فلسطين”
تقرير: ((بيت النّورس))
أغلق مشروع “فنّ السّرد” أبوابهُ هذه الأيّام لجيل النّاشئة في اعداديّة الظّهرات الشّاملة، الفريديس| الدّاخل الفلسطيني. مشروع نوعيّ في الكتابة التّعبيريّة الابداعيّة، أشرفت عليه شكلا ومضمونا الرّائيّة “رجاء بكريّة” والمميّزُ فيهِ أنّه حصريّ لطلّاب المرحلة الاعداديّة الأولى. وقد تمّ العمل على هذه المجموعة الّتي تخصّ الطّبقة السّابعة مدّة عام كامل في ورشات الكتابة الابداعيّة وفق خِطّة اثراء أعِدّت خصّيصا لتنمية القدرات الفكريّة وتحفيز الموهبة على التّطوّر والاتّساع.
التّجربة تُثبت أنّ الإصرار على تغذية منافذ الفكر الإبداعيّ تشتغل بشكل لافت لدى جيل النّاشئة اذا حرصنا على المتابعة وتزويدهِ بمصادر غزيرة من الثّراء في الثّقافة الفنيّة والأدبيّة، سردا مسرحا وسينما والدّفع باتّجاه تذوين مفهوم فنّ المقارنة، وأعني تنمية القدرة على مناقشة الفكر العميق للمضمون الفِكري المعروض في المجالات الابداعيّة المختلفة وأدوات تفعيلها. فالمعروف أنّ فنّ المقارنة هو الوجه الثّقافي الأعمق للمساومة الفكريّة التّحليليّة العالية لدى الكبار والصّغار. حصيلة هذا المشوار مجلّة الكترونيّة يجري الاعداد لها تحت التّسميّة “فنّ السّرد” وهو الوصف الّذي أوردناهُ أعلاه. في سؤالنا لبَكرِيِّة)) عن سيرورة العمل عقَبت قائلة،
” أنت تبدأ مشروع الاثراء بانتقائيّة حذرة للنّصوص واللّوحات والمقاطع التّسجيليّة. النّقاشات والحوارات، تتداخل في مصادرها الابداعيّة وتُحرّض المنطقة السّاكتة لدى الطّالب. فجأة يبدأ بالاستجابة، فينثر نصوصا بالغة الرّهف وهواجس أوليّة لعالمه. هذا النّوع من الجماليّات لا يتكرّر كلّ يوم لأنّه وليد العمل والاختبار المستمرّين” بهذه الطّريقة يمكن وصف النّتاج الأخير لطلّاب المساق وعددهم لا يتجاوز عشرة طلّاب. وحين سألنا عن القيمة المضافة لهذا المشروع أجابت،
“بعينيّ كلّ مؤسّسة ثقافيّة ترتأي أن تكون نخبويّة في انجازاتها مطالبة بافتتاح مساق نوعيّ كهذا وأن يشرف عليه كاتب متمهّن في الكتابة يعرف في سيرورة العمل، قد تكون هذه المشاريع سببا في نشوء جيل يرمّم ما يتناثر في مجتمعاتنا، نحن بحاجة لمشاريع ثقافيّة داعمة للبنية الفكريّة النّاشئة لدى الطلّاب كي نمنحهم مساحة ناجزة للتّخييل والكتابة”. ولعلّ الحظّ الّذي ساقتهُ الحياة لهؤلاء الطلّاب مدير عام واسع الأفق أراد أن يستثمر في مُخيّلة طلّابهِ. كان قد حَلُم كما يحلمون واسثمر في قدراتهم رغم كلّ المُعيقات. هذا النّوع من المشاريع الثّقافيّة تدعمهُ مؤسّسات عربيّة للرّوائيّين الشّباب وتبذل فيهِ مبالغ طائلة، أرجو أن أتمكّن ذات يوم من الاشراف على مشاريع كهذه، ففكرة الدّعم الوارف لمشاريع التّعبير الفنّي في هذا الزّمن مِظلّة للأخلاق والفِكر والسّلوك وتقويم لصورة المشروع الرّوائي في العالم حتّى لا يعتقد كلّ من يكتب سطرين أنّهُ قد لامس السّحاب. سعينا متواصل من أجل تلميع زجاج المخيّلة عبر الثّقافة لتمكين الفكرِ الحُر من التّحليق في واقع تطغى عليه الطّاقات السّوداء خصوصا في فلسطين. كلّي أمل أن تصبح المشاريع الفِكريّة في الكتابة الابداعيّة نهجا داعما لصحّة المبنى النّفسي لدى المبدعين الصّغار والكبار.
فيما يلي مقتطفات من نصوص منتقاة لطلّاب المساق، جيل 12 سنة:
“عن الخَيل الّتي أحبّ”، حمدة سعايدة
“..حِصانٌ أصيل، عيناهُ واسعتان، فيهما هدوء لا يوصف، هدوءٌ يجعلُ كلَّ الأصواتِ حولِي تَختفِي فجأة. لم أعُدْ أسمعُ شيئًا، فقط أنظرُ إلى عينيهِ وأشعرُ أنَّهُ يفهمُ ما يجولُ في خيالي، كما لو أن هذا المخلوق البديع يقرأني من الداخل. ذكاء عميق الأثر يلمع وسط السكون، ولا يُترجم إلى كلمات، بل إلى شعور يُلامس القلب مباشرة، شعور بالطمأنينة، بالاحتواء.
وضعتُ يدي على عُنُقِه، كانت دافئة، وبدفئها شعرتُ بشيء يتسلل إليّ، شيء حي، حقيقي، كأنّي ألمسُ نبضَ العالمِ يَنبضُ حياة، نعم، لكن ليس الحياةَ الّتي نعرِفُها، بل حياة أخرى نقية، صافية، خالية من الضجيج والتّصنُّع. شعرتُ كأنّي ألمس جزءاً من روحي بحَثتُ عنه طويلًا، وعثرتُ عليهِ على غفلة، وكأنَّ هذه اليد التي وُضعت على عنقِهِ، وجدت مكانها الطبيعيّّ، الّذي تنتمي إليه منذ زمن.”
“حازِم وحيد”، رامة مُحسِن
“..أسرعَ راكضا بقدمين أَشبَه بمسمارين نحيلين صوبَ الخزانة كي يُحضرَ الدّواء، لكنَّهُ صُدمَ من اختفاءِ الدّواء، فجأة اختفى! فكّرَ بسرعة ماذا يفعل. فتّشَ عن مصروفِهِ، انتزعهُ وركض الى الصيدليَّةِ القريبة. اشترى الدّواء ووضعهُ في حقيبتهِ الصَّفراء. في طريق العودةِ كان عليه ان يمرَّ من باحةِ المدرسة، وقد اضطُرّ أن يُصادفَ بعض المتنمِّرين ممّن لا يحبّ الاقترابَ منهم. حين لمحوهُ لم يكتفوا بالقاء الكلامِ السّمِجِ المُهين على مسمعِهِ، بل أطبقوا عليهِ وبدأوا بتعنيفِهِ. انتزعوا دواء جدّتهِ منهُ والقوه أرضا. بكى حازم حينَ تذكَّرَ جدّتهُ. كان مُلزَما أن يعودَ الى البيتِ بأقصى سُرعةٍ. حينَ تخلّصَ منهم كان الوقتُ قد تأخّرَ. حين عادَ مُسرِعا قلقا ذهب مباشرةً الى جدّتهِ فوجدها قد فارقت الحياة، كان الدّواء الخيطُ الّذي يربطها بالحياة، الدّواء الّذي أُخِذَ منهُ بالقوّة.
“منقوشة بالزّعتر”، حلا صُبُح
“.. أقف في المطبخِ، يدي تغوصُ في العجينِ كأنَّني ألمسُ تُرابَ الأرضِ، أعجِنُهُ بحُبٍّ وصبرٍ، وأترُكُهُ يستريحُ كما يستريحُ القلبُ بعد صلاةِ الفجر. أُعِدّ الزَّعترَ، ذاكَ الخليطُ السّاحرُ منَ الزَّعترِ والسُّمسُمِ وزيتِ الزَّيتونِ، الّذِي يُشبهُ في رائحتِهِ همساتِ جدَّتِي وهيَ تقولُ: “الزَّعترُ للذّاكرةِ… لا تنسَي.”
تمدّ أُمّي العَجينةَ بأطرافِ أصابِعِها بِرقَّةٍ، ثمَّ تنثُرُ الزّعترَ فوقَها كَمَا ينثُرُ الفلّاحُ حنانَهُ على زَرعِهِ. تَدفَعُها إلى الفُرنِ، وما إن تبدأُ حوافُّها بالاحمِرار، حتى تفوحَ الرّائحة، رائحةٌ تجعَلُنِي أُغمضُ عينيّ شَوقاً، وَكأنَّنِي أعودُ طِفلةً تَركضُ إلى مائدةِ الإفطار، تَسبقُ الوقتَ لتَأخُذَ أوَّلَ قضمة.”
“رائحة البلاد”، فاطِمة أَعمَر
“.. كانت تدورُ في بالِها الكثيرَ من التّساؤلاتِ: كيفَ كانتْ صورةُ بلادي في زمنٍ مضى؟ كيف كانتْ تبدُو الجبالُ والسّهولُ والأوديةُ مقارنَةً باليومِ؟ هل تغيّرتْ مصادرُ المِياهِ؟ هل حافظتْ بلدي على طابَعِها التّقليديِّ كما في الماضي؟ مثلُ هذه التّساؤلات وغيرها كثيرة أخرى.
كانت تسرحُ في البعيدِ حينَ رنَّ جرسُ البابِ فجأةً ودونَ سابقِ انذار. فتَحَتِ البابَ فاذا بجدِّها وجدَّتها يفاجِئانها واقفَين أَمامها يحملان صينيّةِ “المبروشة” الى جانب مُرَبّى التّوتِ المنزليّ الّذي أعدَّتهُ الجدّة. همستْ ملاكُ بِنبرةٍ خافتةٍ مُنفعلةِ: أظُنُّ أنَّ من سيجيبُ على تساؤلاتي قد حضر. خفقَ قلبُها طربًا، حتّى أنّها كادت تطيرُ ابتهاجا. هكذا قادت جدّها وجدّتَها بسعادةٍ إلى الأريكة كي يشربا الشّاي السّاخنَ ويتلذّذا بطعم الكعكة اللّذيذة الّتي أحضراها.
وسط سعادة كبيرةٍ اقترحتِ الجدّةُ: ما رأيُكُم، يا أَحبّائِي، أن أقصَّ لكم حكايةً؟ قفزَ أحمدُ بحماسٍ صارخًا بانفعال: نعم نعم.. موافقٌ يا أحلَى جَدّة
سأختارُ حكاية “علي بابا والاربعون لصّا”
“ممرّ الأسرار في قلعة دراكولا”، ريتال عَوَض
“..عندما وصلنا، أنا وصديقاتي الثّلاث، إلى مُتحف التّشويق والغموض وفهمنا أنَّهُ في الأصل قلعة على اسم بطلنا مصّاص الدّماء، دراكولا، ازددتُ اندهاشا، وانتابني شعورا بالحماس والتّشويق. فكّرتُ في نفسي، “أريد ان أرى ما خلف هذه الحيطان”، لقد انبهرتُ من مستوى الإبداع في التَّصميم، ومن شدّةِ تأثّري فتحتُ الدّفتر الّذي جاءَ معي وبدأتُ اسجّل على ورقهِ أفكاري وانطباعاتي. كان يهمّني أن يرى غيري ما رأيت. فيهِ كتبتُ عن روعة وابداع التّصميم وغرابةِ المكان. خلال تنقُّلِنا داخل القلعة دخلنا إلى قاعة ضخمة عبارة عن معرض لصور الطّاغِية دراكولا، وكان هناك نوع من الموسيقى الهادئة تنبعث من زاوية ما في سقوف الغرف. فجأة بدأ المرشد بالتحدث عن دراكولا قال: عاش دراكولا في القرن الخامسِ عشر على هيئة رجل متعطِّشٍ للدِّماءِ، ينام في النّهار داخلَ تابوتهِ وفِي اللّيل يستيقظ باحثا عن ضحيَّةٍ جديدةٍ أَو بمعنى آخر عن طعامٍ يُشبِعُ معِدَتَهُ. وقد ذاعت شهرتُهُ في رواية Dracula التي كتَبَها (برام ستوكر)، وهو كاتب إيرلنديٌّ معروفٌ ونُشرَت عامَ 1897.”
“هوايتي وكيف أُمارِسُها”، عُمران فَرحان
“.. بدأتُ أحبُّ التّصميمَ عندَما صادَفتُ صُورًا جميلةً على الإنترنت، وكنتُ أتساءلُ: كيف يصنعونَها؟ مع الوقتِ، بدأتُ أتعلَّمُ برامجَ في التَّصميم، وأتابِعُ شُروحاتٍ على اليوتيوب. كنتُ أجرَِبُ وأخطئُ كثيرًا، لكنَّنِي لم أستسلم،ْ بل بدأتُ أتعلَّمُ من أخطائي.
أُحبُّ أن أُعبّرَ عن أفكاري من خلال تَصاميمي، سواء كانت خلفِيّات، أو مُلصقَاتٍ، أو حتَّى شخصيّاتٍ من خيالي. أحيانًا أمزجُ بينَ الرَّسمِ والتَّصميمِ، وأحاولُ أن أُطوِّرَ نفسي كلَّ يوم.
هذه الهواية ساعدتني على التّركيز، والتّفكير بشكل مُختلف، كما جعلَتنْي أفكر في مستقبلي. ربَّما أكونُ يومًا ما مُصمِّمًا محترفًا، أو صاحبَ صفحة خاصة أعرض فيها أعمالي.”
الطُلّابُ المُشاركونَ هم من طبقة الصّفوف السّابعة. تجربة ثرّة كما لم نتوقّعها لكنّ الاثراء المتواصل هو مفتاح التّحليق في فضاءات رحبة كهذه..