د. مصطفى التل: غزة كعلامة فارقة في تطورات القضية الفلسطينية وإعادة النظر في العلاقات الإقليمية

د. مصطفى التل
تعتبر الحرب الأخيرة على غزة نقطة تحول حاسمة في مسار القضية الفلسطينية، حيث تركت آثارًا عميقة على مختلف الأصعدة.
من المهم أن نتساءل: هل كانت إسرائيل ستتوقف عن تحقيق أهدافها في الإقليم لو لم تحدث هذه الحرب؟
من الواضح أن إسرائيل، كدولة تسعى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، لم تكن لتتراجع بسهولة عن أهدافها. فاستراتيجيتها تعتمد على تعزيز نفوذها الأمني والسياسي، وهو ما يتطلب منها الاستمرار في الضغط على الفلسطينيين وتوسيع نفوذها في الدول المجاورة.
الثمن الباهظ الذي دفعته غزة خلال هذه الحرب هو ثمن طبيعي بالنظر إلى الأهداف الاستراتيجية التي تم إحباطها لإسرائيل, فقد تمكنت المقاومة من تحقيق انتصارات معنوية وعسكرية، مما أضعف من صورة الجيش الإسرائيلي الذي لطالما اعتُبر لا يُقهر, هذا النجاح في التصدي للاحتلال أظهر أن الفلسطينيين لن يقبلوا بالتنازلات، وأنهم مستعدون للدفاع عن حقوقهم مهما كانت التضحيات.
على الصعيد المحلي، عزّزت الحرب الانتماء الوطني الفلسطيني ووحّدت الصفوف بين مختلف الفصائل، كما عمّقت العلاقة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية التي صمدت رغم القصف المكثف والضغوط الإنسانية القاسية, وفي المقابل، وجدت إسرائيل نفسها أمام تحديات وجودية، حيث انكشفت هشاشة منظومتها الأمنية، وتعرّضت سمعتها الدولية لضربات قوية مع تصاعد الإدانات العالمية لجرائمها بحق المدنيين.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أحدثت الحرب زلزالًا في مسار التطبيع، حيث أوقفت الزخم الذي كان يشهده هذا الملف، وفرضت إعادة تقييم جذرية لطبيعة العلاقات مع الكيان المحتل, أدركت العديد من الدول العربية أن التطبيع مع إسرائيل لا يمكن أن يتم في ظل استمرار الانتهاكات ضد الفلسطينيين، مما جعلها تعيد حساباتها في علاقاتها مع تل أبيب.
تأثرت دول مثل السعودية والإمارات، التي كانت تسعى لتعزيز علاقاتها مع إسرائيل، بشكل كبير, أظهرت استطلاعات الرأي تراجعًا حادًا في التأييد الشعبي للتطبيع، مما دفع الحكومات إلى اتخاذ مواقف أكثر حذرًاً, كما أن بعض الدول، مثل البحرين، خفّضت مستوى تمثيلها الدبلوماسي مع إسرائيل، مما يعكس تراجع الثقة في إمكانية تحقيق تطبيع حقيقي في ظل الظروف الحالية.
لقد بيّنت الحرب أن غزة لم تكن ساحة معركة عسكرية فحسب، وإنما تحوّلت إلى معمل استراتيجي أعاد تشكيل المعادلات السياسية والأمنية في المنطقة, بينما كشفت عن عمق الأزمة الأخلاقية للمجتمع الدولي، أظهرت أيضًا مرونة المقاومة وقدرتها على التأقلم مع أصعب الظروف.
اليوم، وبعد أن أصبحت صور الدمار في غزة جزءًا من الذاكرة الجمعية للإنسانية، فإن الدروس المستفادة من هذه المواجهة ستستمر في تشكيل مستقبل الصراع, أثبتت هذه الحرب أن الحقوق لا تُنتزع إلا بالمقاومة والصمود، وأن زمن الحلول المجتزأة قد ولى إلى غير رجعة.
إن تأثير الحرب على العلاقات الإقليمية مع إسرائيل سيظل حاضرًا، حيث ستبقى القضية الفلسطينية محور التركيز، وستستمر الدول في إعادة تقييم مواقفها بناءً على ما يحدث على الأرض.
في النهاية، يمكن القول إن الثمن الذي دفعته غزة لم يكن مجرد خسائر مادية، بل كان ثمنًا لتحقيق أهداف استراتيجية أكبر، تمثلت في إحباط المخططات الإسرائيلية وتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية وحضورها.
كاتب اردني