دبلوماسية القوة وفرض السلام بالقوة وفقاً لقانون الغابة!

الدكتور رجب السقيري
رغم أن ” فرض السلام بالقوة ” ليس أمرا جديداً في تاريخ العلاقات الدولية عبر العصور ، حيث أن المنتصر هو الذي يفرض شروطه دائماً سواءً كان النزاع بين دولتين أو بين حلف أو مجموعة من الدول وحلف آخر أو مجموعة أخرى من الدول كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية ، إلا أن الإصطلاح نفسه “فرض السلام بالقوة” كان دائماً يتم تغليفه أو تغطيته بحجة دبلوماسية قوية تبرر استعمال القوة التي غالباً ما تكون قوة مسلحة إضافة إلى آليات التأثير الأخرى كالتهديد باستعمال القوة أو استعراض القوة بهدف الردع أو بهدف الدفاع المشروع عن النفس وهو أمر مبرر في كل القوانين والشرائع الدولية .
لكن الأمر يختلف عندما تثور المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي وتحاول تحرير أرضها من ربقة الاحتلال أو الاستعمار الاستيطاني كما حدث في الجزائر قبل الاستقلال وكما يحدث حالياً في فلسطين . عندها يحاول جيش الاحتلال قمع المقاومة ، حتى لو كانت سلمية وغير مسلحة ، مدعياً زوراً وبهتاناً ، أنه يدافع عن نفسه ويدافع عن “أمن واستقرار” البلد الذي يحتله والشعب الواقع تحت احتلاله ، بينما هو في الحقيقة يحاول حماية احتلاله وقمع كل من يعارض سياساته في البلد الخاضع للاحتلال أو حتى في البلدان المجاورة ، وكثيراً ما يشكل الاحتلال حكومةً عميلة من أهل البلد المحتل مثل حكومة فيشي التي شكلها الألمان بعد احتلالهم لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية .
أما عن موقف حلفاء دولة الاحتلال فسرعان ما نجدهم يهبون بتصريحات نارية مزلزلة تدعم “حق حليفهم المعتدي المحتل بالدفاع عن نفسه كما حصل بعد السابع من أكتوبر في الحرب على غزة ، وإذا انبرى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أو أي مسؤول أممي ، بما في ذلك مسؤولي المحاكم الدولية ، أو ناشط في مجال حقوق الإنسان ، وتجرأ على القول أن ما يفعله جيش الإحتلال يتجاوز بدرجات حق الدفاع عن النفس فإنه يتهم بأقذع التهم ويتم التنكيل به ويتلقى شتى أنواع التهديدات ثم تصدر بحقه عقوبات من المجالس التشريعية للدول الحليفة الذين يملكون حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي ولهم سطوةٌ وهيبة وهيمنة على كل المنظومة الدولية ، بل ويتزعمون القطب الأوحد للنظام العالمي وتنتشر قواعدهم العسكرية وحاملات طائراتهم في طول العالم وعرضه . ثم تأتي مرحلة الانتقام من المقاومين الذين يوصمون بصفة الإرهاب ، وفي كل عملية الانتقام فإن الهدف السهل والميسور والأقل كلفة هو الأطفال والنساء وقصف خيام النازحين وقتل كل فئات المدنيين المجوعين وتدمير المستشفيات والكنائس والمساجد ورياض الأطفال والمدارس والجامعات والأسواق والمخابز وتشديد الحصار .
في ظل ما تقدم لا بد من سؤال يتردد على ألسنة الناس في المجتمع الدولي وهو : إذا كان السلام يفرض بالقوة المسلحة فما فائدة القوانين والشرائع الدولية ؟ وأين الأمم المتحدة ومجلس أمنها من كل هذا ؟ ، وأين هي نظرية الأمن الجماعي collective security التي اتفق عليها المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية ؟ وأين هي المنظمات الدولية ؟ وأين مجلس حقوق الإنسان ؟ وأين قوات حفظ السلام ؟ وهل هناك قوات لإنفاذ السلام ؟ وأين المحاكم الدولية ، بل وأين النظام العالمي ، ولماذا لم يعد فاعلاً، وكيف لزعيمة العالم الحر (الولايات المتحدة) أن تقبل بفرض السلام بالقوة سواءً كان النزاع بين إيران وإسرائيل أو بين الأخيرة وسوريا أو بين تل أبيب وبيروت أو بينها وبين تركيا ؟ وأين الدول العربية وجامعتها وميثاقها ومعاهدة الدفاع العربي المشترك ؟ كل هذه القوى والقوانين والشرائع والأنظمة والمجالس والمعاهدات لا تستطيع أن توصل الغذاء والدواء إلى أهل غزة المجوعين المهجرين الذين يقتل منهم العشرات يومياً أثناء ذهابهم لإحضار لقمة عيش لأطفالهم ونسائهم وشيوخهم ؟ لماذا يجب أن تحسم الأمور بالقوة المسلحة ؟ هل تعطلت عجلة الدبلوماسية ؟
قبل أن نتوسع في الأسئلة أكثر من ذلك لابد من الإجابة الحاسمة وهي أن النظام العالمي قد أصبح في حالة موت سريري وهو يعيش حالياً على أجهزة التنفس الصناعي . أما الدبلوماسية التقليدية الناظمة للعلاقات الدولية كما عرفناها عبر القرون الماضية وكانت كفيلة بحل العديد من النزاعات والصراعات والحروب الأهلية في كل حدبٍ وصوب على هذه الكرة الأرضية والمؤمل أن تحل كل ما ينجم عن النزاعات العالمية من مخاطر . ” فالعوض بسلامتكم ” إذ حلت محلها دبلوماسية البلطجة .…نعم يا سادة دبلوماسية البلطجة التي تحل النزاعات بالقوة المسلحة ، وتعتمد على شريعة الغاب حيث يأكل الكبير الصغير والقوي الضعيف والسمين النحيف .
أما الاتفاقيات والمعاهدات والمنظمات والمجالس والوكالات الدولية فتقبل التعازي فيها في نيويورك لمدة ثلاثة قرون (وربما بعد حرب عالمية طاحنة لا تبقي ولا تذر) وذلك في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبسبب العدد الكبير المتوقع للمعزين فسوف يتقبل أعضاء مجلس الأمن الدائمون وغير الدائمين التعازي أيضاً في قاعة المجلس كما تفتح قاعة المجلس الإقتصادي والاجتماعي ECOSOC للمعزين ، إضافة إلى قاعة مجلس الوصاية TRUSTEESHIP COUNCIL الذي أصبح عاطلاً عن العمل منذ أن تحررت آخر مستعمرة في العالم .
أما في أوروبا فتقبل التعازي في مقر الأمم المتحدة في مدينة ڤينا Vienna في قاعة منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا UNRWA وفي قاعة الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA .
أما في جنيف فتقبل التعازي في قصر الأمم palais des nations بما فيها قاعة مجلس حقوق الإنسان HUMAN RIGHTS COUNCIL وفي قاعات كلٍ من المفوضية السامية للاجئين UNHCR ومنظمة التجارة العالمية WTO ومنظمة الصحة العالمية WHO وباقي منظمات النظام العالمي WORLD ORDER .
في الشرق الأوسط تقبل التعازي في مقر جامعة الدول العربية في مدينة القاهرة / الحي التجاري / كورنيش النيل .
وإنا لله وإنا إليه راجعون
سفير سابق لدى الأمم المتحدة / جنيف
وباحث في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية