نزار القريشي: حكاية الكلب الأحمر

نزار القريشي: حكاية الكلب الأحمر

نزار القريشي
عندما لا تمتلك سيارة فإن من حسنات ذلك أنك ستركب الطاكسيات، وفي ركوبها كل يوم تتواصل الحياة.

لدى مفترق طريق “إيسو” ضرب السائق المقود بكلتا يديه احتجاجا على عبور راجل المسافة بينه وبين السيارة القادمة، هو أدرى بسرعته، يقدر أنه الأسرع ويعبر.

خفف السائق من سرعته، وعلق قائلا:

–      الكلاب الضالة والقطط الشاردة تعرف أن السيارات خطر يكلف الحياة، لذلك تتحاشى وتتريث حتى تخلو الطريق. ومن المفترض أن البشر أعقل، ومع ذلك لا يعقلون أن عملية عبور قد تكلف، في أيسر الأحوال، كسرا خطيرا. هكذا يصبح الرجل الذي كان حيا، إن مات، مجرد رقم في حصيلة حوادث السير. استأنف تعليقه: “بعد قليل سنرتقي عقبة المصلى وسترون بأم أعينكم كيف تلتصق القطط والكلاب بالحيطان، وكيف يعترض البشر مرور السيارات.
تدخل راكب وعلق:
–       ليس لدى الكلاب والقطط وبقية العشيرة الحيوانية اللاوعي الذي يسلبها الحضور، لديها وعي فقط بمجريات الأحداث، لذلك تؤدي واجباتها بمنتهى الدقة والوعي والحضور.
لكن أحد الركاب ستثيره فكرة أن يكون لدى القطط والكلاب وعي، فتدخل قائلا:
–      لا يا سيدي، ليس لدى القطط والكلاب وعي.
بل إن لديها وعيا في حدود السيرورة ليس إلا. وأنا أصدق السائق في ما قاله، إذ بأم عيني شاهدت البغال تجفل من عبور السيارات، ورأيتها تتوقف تماما عن الحركة. إن رد الفعل الذي هو جفل بغل في عمقه تفكير قائم على حدث سابق تمكن البغل من استيعابه، وبالتالي إتقانه. لقد أدرك البغل أن حياته مهددة من طرف الكائن المدعو “سيارة”، لذلك فهو يتحاشاها، بينما البشر واع بأن السيارة خطر، لكنه يتجاوز مكنون خطرها، ظنا منه أنه أقدر على التحكم في عملية العبور.
من بين الأمور الكثيرة التي واجهتها في الحياة، وقفت على حقيقة مذهلة، وهي أن الفلاح الأصيل يستوعب أسلوب التفكير ونمط الحركة، والفعل ورد الفعل لدى فعله، فيتصرف معه وفق مقوماته الذاتية. ليس البغال فحسب، بل سائر العشيرة الحيوانية تجرب الأشياء المكونة لبيئتها، تتلقى ردود أفعال، تميز ما بين الشيء والشيء، وتتعامل معه وفق كنهه.
وافقه السائق الرأي، وبعد أن حمد الله على وجود رجل مثله يفهم ويعي، أكد أن البهائم والوحوش والأنعام، حتى وإن كان أفق تفكيرها محدودا لاقتصاره على ما يحتاجه، لكننا حين ننتبه إلى تصرف العشيرة الحيوانية بشتى أصنافها نكشف أنه فكر متسم بالسربلة والاعتدال والحكمة، ويرتكز على الغاية، إذ إن العشيرة الحيوانية لا تندفع خلف أية فكرة، وهي لا تفكر إلا لكي تفعل، على عكس البشر.
عاد الرجل ليقول:
–      في بداية حياتي المهنية، أخوكم في الله أستاذ جرى تعيينه في قبيلة بني حسان. أكثر ما هنالك التين والزيتون والكلاب والبغال والقردة… وتلال تمتد مرتفعة لتؤلف في الأفق جبلا، منظر خلاب حقا، لكن حين تقضي وقتا طويلا في تأمله يصبح مشهدا مألوفا.
قبالة الكوخ الذي آوي إليه تمتد بيوت الفلاحين. وهي في الواقع أكواخ تؤلف بيوتا. في كل بيت منها رهط من الكلاب. وهذه العشيرة من الكلاب كان لها فضل تصريف الوقت البطيء حد الضجر. وهنالك كان جمع غفير من الكلاب تابعته بانتباه شديد، انتباه الدارس والباحث.

في تلك الأيام العظام وقفت على بعد لم أكن لأبلغه…

عشيرة الكلاب عن بكرة أبيها متحدرة من صلب الكلب الأحمر المجعد الوجه، إنه جدهم، لكنه لم يكن جدا وقورا حكيما كما يليق بالجد. كان فظا غليظ القلب، من فرط شراسته وأنانيته أسميته “الوغد الأحمر”. يأتي من بعده الأبناء والأحفاد والأسباط فما دونهم.

الجد، ورغم بلوغه أرذل العمر، أبى أن يتنازل عن الزعامة. وكان هذا الوغد الأحمر قد أكد لي تمام التأكيد ماهية شهوة السلطة وتأثيرها في النفوس، لذلك فإذا شاهدت زعيما ما يتمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير من حياته فلا تلمه.
حيثما ولى وجهه تبعته كلبة مجعدة الوجه مثله، لكنها لم تبلغ درجة القبح التي بلغها. فحتى نفوس الكلاب تنعكس على تعابير وجوهها.
لا تكن الكلاب الوفاء لمن يأويها ويطعمها فقط، فهي وفية لبعضها البعض أيضا. وتلك الكلبة العجوز مثال حي وراق، وحب جارف ملك قلبها طوال عمرها، وهو وغد حقيقي لا أعتقد أنه أحبها، أو حتى أحب كلبة غيرها.
يحدث أحيانا أن تحفظ كرامتها وتبتعد عنه عندما يتصرف وكأنه تخلص من عبء ثقيل. عندها، تحاول الكلبة الاندماج، لكن أبناءها وأحفادها وأسباطها لا يكترثون لها، فتضطر لأن تصطف إلى جانب الوغد الأحمر الذي اعتاد أن تذهب وتعود وتذهب وتعود. وهو يتقبل هذا التضارب والانقسام في المشاعر كما يليق بوغد كبير. فلم يكن ليحتج، أو ليستفسر لماذا ذهبت ولا يكترث لذلك.
كنت أحسب أن مجموعة الكلاب قطيع واحد، يقوده الوغد الأحمر، لكن مفهوم القطيع ونظامه يسود عشيرة الضأن والأبقار والأكباش وما شابه هؤلاء ممن لا زعيم بينهم، ولا من يحاول أن يتزعمهم.
لاحظت أن المجموعة منقسمة إلى قسمين، القسم الأول يقوده حفيد أو سبط للوغد الأحمر، شبيه به إلى حد التطابق، ولربما هو نسخة طبق الأصل منه في شبابه، رغم أن المنحدرين من سلالة واحدة لا يتآنسان. حاول السبط الأحمر أن يثبت قوته وخشونته أمام الوغد الأحمر، لكن الجد اللعين هزمه شر هزيمة في معركة مفتوحة لم يحضرها غيري.
ولأنه قاوم بشراسة توهم أنها جولة في معركة الزعامة فقط. لكن الجولة الثانية والثالثة والرابعة أثبتت أن القوة تضعف بعامل العمر. ويمكن أن أقول عن ثقة إن خبرة العراك وفنونها هي ما أبقت الوغد الأحمر زعيما حتى هذه الأيام.
القسم الثاني من المجموعة يقوده سبط آخر، أسود الوجه أبيض الخلفية، وسيم ورشيق ومتناسق العضلات، وسيد العشيرة المفروض بكاريزما الهيبة والالتفاتة والوسامة، يشبه إلى حد كبير فرسا عربيا أصيلا.
بعد المعارك الأربع التي خاضها الوغد الأحمر ضد الحفيد الأحمر، والتي خلفت ندبا أسودا على خده الأيسر، اضطر أن يخوض معركة فاصلة ضد الحفيد الأسود، معركة لم تكن متكافئة على الإطلاق، قوة عضلات الفرس الأسود، خفته، حيويته، لم تدع للخبرة القتالية فرصة، فانهزم بكل معنى الكلمة.
من موقعي استنتجت أن جولة واحدة على منصب الزعامة غير كافية، والعرف أن تكون هنالك ثلاث جولات فقط.
أضعت جولة في معركة الزعامة. لم أعرف كيف، ولربما لم تضع، ودليلي هو أن لتجمع الكلاب العام موعد لا يتأخر دقيقة.
تعودت على متابعة أمر تجمع الكلاب. عادة سرعان ما تحولت من فكرة إلى رغبة، ثم إلى قرار، حتى أصبحت حاجة من فرط التكرار.
صارت عادة الكلاب عادتي، وتحولت عادة حضور جمع الكلاب العام إلى رغبة جامحة في معرفة حاجة الكلاب إلى التجمع؟
تسيد الفرس الأسود العشيرة وتصرف كما يحلو له، غير أن سيادة الفرس الأسود اتسمت بانتقال السلطة إن صح التعبير، لا شراسة، ولا نظرات شزراء، كل في شأنه.
هو الفرس الأسود، لم يفرض على أحد سلوكا معينا ولا حتى انتخب لنفسه رفاقا مخلصين أو حاشية.
الإناث يحطن به، هل هو تنافس من قبلهن على نيل حب الأقوى والأوسم والأذكى؟
ذات يوم هوى صاحبه على أم رأسه بهراوته. اعتقدت أنها قاصمة لعمر الوغد الأحمر، لكنه أصدر صوتا حانقا -هكذا تصورته- وانكفأ لبعض الوقت، ثم عاد يرمق العشيرة بنظرات لا مبالية.
كان الوغد الأحمر واعيا بكامل التعاسة وشقاء وضعه المزري، كلبا طاعنا في السن، فاقدا قوته مكروها من طرف العشيرة. وذلك بعدما أصبح دمه مهدورا من قبل ولي نعمته.
عقد مع نفسه جلسات للحزن، ظلت تتخذ مواقع استراتيجية تعلو دائما مكان التجمع، وتجعله بعيدا عن هدف هراوة ولي النعمة.
أفراد العشيرة، خاصة الطاعنون في السن، جيله والذي يليه، كثيرا ما  يبادلون نظراته بنظرات تشف وازدراء.
بينما كانت كلبته تسعى في بعض الأحيان إلى الانفصال عن العشيرة لترتقي إلى مقره العلوي. وغير بعيد عنه، تعي فظاظة طبعه، فلا تنفصل عنه، بل تعلن له، فقط، عن استمرار الوفاء برغم الجفاء.
بعد أن هوى عليه بهراوته، قلت لصاحبه:
–      إنه مهان في شأنه. منبوذ من قبل العشيرة، مخلوع من زعامته، وزدته أنت بمحاولة اغتيال.
ردّ الرجل:
–       لا تعرف، منذ زمن طويل وأنا أروم قتله عدة مرات، لكنه عصي على الموت. وشاهدت مرة في منامي أنني أقتله، وأنا رجل ما أحلم بشيء إلا ووقع، وإن بعد عمر طويل.
فكرت بعد ذهابه في أن من عوامل نجاح المرء في حياته أن تنعكس معطيات واقعه اليومي مع أحلامه ومناماته.
وفكرت في أن صراع الوغد الأحمر والفرس الأسود على السلطة لا يختلف كثيرا عن الصراعات الناشبة على السلطة بين أمة البشر بمختلف أجناسها.
بعد شهور…، بدا جليا أن اعتزاز الفرس الأسود بنفسه، واختياله، وإيثاره رفقة الإناث، أدت إلى انقسام المجموعة للمرة الثانية إلى قسمين.
بعض ممن كان تابعا للوغد الأحمر فضل الانضمام إلى قسم السبط الأحمر، قبل أن يهنأ وينعم بسيادته وزعامته. استنتجت أن فترة المعارك الأربع التي خاضها ضد جده، والتي انهزم فيها، لم تكن مانعا أبدا لحشد أتباع له. فقد ورث عن جده الوغد الأحمر كل قبيح شقي بسببه.
كانت الحياة طبيعية للغاية. السيد مشهود له والمسود معترف. الضعيف معثور وحقه مضمون في أوقات الرخاء. وللقوي خط أحمر لا ينبغي له أن يتجاوزه وإلا اضطر لنزال حول السيادة من جديد، وهو نزال لا رحمة فيه ولا وسطاء تسوية، إلى أن مد السبط الأحمر نطاق سيادته إلى مجموعة الفرس الأسود التي لا تعني له السيادة ما تعنيه للوغد والسبط الحمراوين، ربما لأنه نالها بجهد غير مذكور. عندها دقت ساعة أخرى من ساعات حقب الزمن في عمر الكلاب، ساعة الحسم للزعيم المتبوئ، أو للقوي المتربص الباحث والساعي للاستيلاء على السلطة.
ذكرني السبط الأحمر برفيق الطفولة من أطفال حارتنا. لم يترك واحدا ما لم يخض ضده معركة، ولم يفز إلا على الضعفاء منا. أما الأقوياء من الأطفال فكان يمنى في كل محاولة بهزيمة نكراء، لكنه لا يرعوي، ويحاول، رغم ما يتكبده من ضربات، أن ينتصر ولو مرة واحدة.
تمكن الفرس الأسود منه ببالغ السهولة. قوة عضلاته ورشاقتها، خفته وحتى ذكاؤه وهدوء أعصابه، يمكنونه من خوض معاركه بكل زهو. يتلقى الضربات لكنها لا تؤثر فيه، وهذا يمكنه من التلاعب بخصمه والتحكم فيه. طوبى للوغد الأحمر، إنه لمقاتل صعب المراس وشديده حقا، السبط الأحمر لم يصمد أكثر من خمس دقائق، إذ سرعان ما أجهز عليه.
في كل معارك السيادة، والتي نشبت أمام عيني، كان ثمة ما أسميته شرف الانتصار وعذر الهزيمة. ما أن يطبق المنهزم أسنانه حتى يتراجع للوراء. ولا تبدو عليه نية الهجوم. يتوقف المنتصر، ويتتبع حركة المنهزم. عدم معاودة المنهزم الهجوم تعني هزيمته التي تحفظها ذاكرة العشيرة وتدين جراءها للمنتصر بالطاعة والانصياع.
بعد المعركة الثانية في زمن سيادة الفرس الأسود، بدا جليا استشعاره لمفهوم الزعامة والسيادة. فقد أخذت تصرفاته المتعالية تختفي بالتدريج، ولم يعد يختال في مشيته. وأخذ ينتبه لتحركات السبط الأحمر وأتباعه. لقد أصبح يدرك، وما أدركه هو وضعه الخاص الذي يهدده السبط الأحمر. هذا الذي ورث عن جده الوغد الأحمر فظاظة الطبع وقسوة القلب، لكنه لم يرث شجاعته التي تجلت سافرة ذات لحظة لم أفطن بها، رغم تتبعي وانتباهي الشديد. بدا أنه كان حزينا ومطعونا في شرفه، وكان يعد العدة لاسترجاع مكانة علوه. هجم بسرعة، وفجأة انقض على الفرس الأسود، نال منه، ليس عضة من الفم، عضه من طرف الأسنان… ينبغي أن أذكر هنا والآن أن بعض الوقت صرفته في محاولة استئناس للفرس الأسود، نجحت فيها، ولأنه صديقي تركني أفحصه، وعرفت أنه لم ينل منه كامل النيل، ذلك لأنه كلب هادئ الأعصاب. بعدما لم تنجح محاولة الهجوم الفجائي، وقفا قبالة بعض، وجه شديد الشراسة مكسر الأنياب، مقابل رأس مرفوع متأهب للمعركة.
كان لا مفر من نزال سيادة. انقضا على بعض في الوقت ذاته. لم تكن معركة سهلة مثل المعركة الأولى، لأن الوغد الأحمر لم يكن مستعدا لها كامل الاستعداد. أما الثانية، المعركة الفيصل، فخاضها بكل الغضب الذي اشتعل فيه، والحقد الذي اشتد، والبغض الذي اصطرع.
أحب كل ما هو عريق ومتراكم ومكتسب، لذلك أسفت كل الأسف لهزيمة الخبرة القتالية ذات الفنيات العالية التي اكتسبها الوغد الأحمر، أمام قوة عضلات ولياقة ورشاقة وخفة الفرس الأسود.
كانت معركة أقصر زمنيا من معركة الفرس الأسود ضد السبط الأحمر.ثلاث دقائق في أقصى تقدير استشعر بعدها الوغد الأحمر أنه غير قادر على الاستمرار حتى الموت. أطبق فمه، اختفت الشراسة وظللت الكآبة وجهه المجعد وعاد القهقرى إلى موقعه الاستراتيجي المشرف على العشيرة والآمن لهراوة ولي النعمة.
اشتد حزن الوغد الأحمر وعذابه، وهزل عوده، ونبذته العشيرة كل النبذ، ولم يعد يجرؤ على التعدي حتى على الضعفاء من الكلاب.
وبعد أيام، ازداد وجهه بشاعة، وأخذ في مهاجمة كل من يمر من أمامه، وسال اللعاب من فمه.
خاله فلاحو قرية بني حسان قد أصابه السعار.
قلت لهم:
–      حزن حتى جن.
اضطررت، حين استغربوا وصف الجنون الذي أدليت به، أن أشرح لهم أنه لم يهضم كل الهضم خلعه من على عرش العشيرة، وحاول جاهدا استعادة عرشه، لكنه فشل وانهزم، ولم يرض كبريائه أن ينتهي هكذا، ذليلا بعد عزة نفس… هو الذي كان سيدا سينتهي منبوذا. وقد اعتبروا ما أدليت به من قبيل مزاعم أولاد المدينة المتعلمين. ثم انقلب الحديث إلى ضرورة التخلص منه قبل أن يؤذي طفلا من أطفال القرية.
أعدوا دلاء المياه والهراوات، وطوقوه من كل حدب، وأقبلوا عليه مشكلين دائرة لا تسمح له بالهروب. ألقوا عليه دلاء الماء فهمد واستكان، وانهالوا عليه ضربا بالهراوات حتى أسلم الروح.
كنا قد وصلنا إلى موقف التاكسيات… نزلنا وفي البال حكايات أخريات، لكن عن القطط.
كاتب مغربي