حمد التميمي: هل حدثت تغييرات في معايير الصراع في الجنوب السوري؟ نظرة استشرافية

حمد التميمي
في مشهد إقليمي متوتر بطبعه، جاءت الضربة الإسرائيلية الأخيرة على مواقع في السويداء ودمشق لتكشف عمق الهشاشة في التوازن السوري، وتطرح أسئلة مصيرية حول مستقبل الجنوب وتداعيات الصراع السوري ككل. الحدث لم يكن مفاجئًا في توقيته بقدر ما كان صادمًا في دلالاته: إسرائيل تعلن أنها تتحرك “لحماية الأقلية الدرزية”، بينما الواقع الميداني لا ينفصل عن نزاعات محلية، وتجاذبات ذات أبعاد إقليمية وعالمية. مهمة هذا المقال أن يسبر الحدث بلا اصطفاف، محاولًا فكك عُقده وقراءة تحولاته وانتظار ما سيليه.
الجنوب السوري شهد في الأعوام الأخيرة تصاعدًا في وتيرة النزاعات بين الدروز والقبائل السنية، وسط تراجع نفوذ السلطة المركزية وعودة الحساسيات الهوياتية، مع حضور ظاهر للجماعات المسلحة والمصالح الإقليمية. حكومة أحمد الشرع الجديدة وجدت نفسها في مرمى اختبار قاس، فمع كل اضطراب أمني يُعاد تدشين سؤال الشرعية والقدرة على الإمساك بخيوط اللعبة المحلية. الاشتباكات الأخيرة انفجرت نتيجة احتكاكات عرقية/اجتماعية تمددت على خلفية تقاطع النفوذ بين العائلات والزعامات المحلية من جهة، وارتدادات الصراع الإقليمي من جهة أخرى. هكذا، تبدو الضربة الإسرائيلية أعمق من مجرد دعم طرف أقلوي، بل إعادة رسم للحدود وتحريك لمياه راكدة تراهن أطراف عديدة على بقاءها غامضة.
دوافع إسرائيل لم تكن يومًا محصورة في الخطاب العلني حول “حماية الدروز”. تاريخ المنطقة يشير إلى غريزة إسرائيل التاريخية لترتيب خطوط تماس آمنة على حدودها، بالتزامن مع إضعاف أي حضور عسكري أو سياسي قد يشكل تهديدًا، أكان عبر مقاومة محلية أو وكلاء إقليميين. التصريحات الإسرائيلية الأخيرة أوضحت المزج بين الجانب الإنساني والأمني، وتحدثت تلميحًا عن “منطقة عازلة” وعن منع تمدد أي فصائل مدعومة من إيران أو الفصائل الموالية لدمشق. هذا الخطاب المزدوج لطالما كان أداة سياسية لتسويغ أي تحرك عسكري، لكنه اليوم يتقاطع مع فراغ إقليمي وتراجع التركيز الدولي على الملف السوري، ما يمنح إسرائيل هامش حركة أوسع.
حكومة الشرع واجهت الضربة بسلسلة شجب وتصعيد لفظي، لكن المشهد كشف عن عمق الأزمة الداخلية أكثر مما أبرز متانة الرد أو مركزية القرار. الشارع السوري في الجنوب يعيش على إيقاع ترقب دائم؛ السلطة التنفيذية تراهن على تعبئة الجمهور خلف خطاب “دفاع وطني”، بينما الواقع يكشف شروخًا اجتماعية وأمنية تتجذر مع كل تصعيد خارجي. بدا واضحًا أن الشرعية لا تُكتسب بالخطب الوطنية وحدها، بل بالقدرة على معالجة النزاعات العميقة وتمكين السلطة من فرض هيبتها دون الاعتماد المفرط على حلفاء الخارج.
ردود الفعل الدولية والإقليمية كانت باهتة: بيانات “قلق” اعتيادية من الأمم المتحدة والدول الغربية، مواقف مترددة من تركيا والعراق وإيران، وصوت عربي خفيض يغلب عليه الصمت أو الانشغال بالأزمات الداخلية المتراكمة. التفاعل الباهت قد يُفسر بأنه قبول ضمني بالأمر الواقع، أو تعويل على الوقت لإعادة تثبيت توازن جديد، وربما محاولة لإبقاء الاشتباك ضمن حدود لا تجر المنطقة إلى مواجهة شاملة على حساب قضايا أكثر إلحاحًا في ملفات كل دولة.
رصد سيناريوهات المرحلة المقبلة يحتاج إلى إدراك تعقيدات الجنوب السوري: هل نشهد تثبيت نموذج جديد للوجود الإسرائيلي غير المباشر عبر وكلاء محليين أو ترتيبات أمنية مضمرة؟ أم أن التصعيد الحالي عرضة للتجدد في شكل موجات عنف متقطع تولدها كل أزمة هوية أو احتكاك قبلي/طائفي؟ قدرة الجيش السوري على الرد تبدو محدودة في ضوء التفوق التقني الإسرائيلي والسقف الدولي المغلق أمام أي مواجهة مباشرة واسعة. السيناريو الأكثر ترجيحًا هو تكرار الضربات التكتيكية واستمرار الحرب الباردة في الجنوب تحت ذريعة الردع والحماية، بينما المجتمع الدولي يراقب عن بعد دون إرادة لتغيير قواعد اللعب جذريًا.
في ظل هذا السجال، تطفو الأسئلة العميقة التي لم يعد بالإمكان تجاهلها: هل ستبقى السويداء ملف تفاوض دائم ومحور مساومة ما بين الخارج والداخل؟ هل ما يحدث حلقة جديدة في مسلسل النزاع السوري الطويل أم بداية لتحول جوهري في خارطة النفوذ جنوب البلاد؟ كيف ستتعامل الحكومة السورية مع واقع الحساسيات الطائفية والمصالح الإقليمية؟ وهل يغدو الجنوب ساحة مكشوفة لصراع جديد، أكثر غموضًا وتعددًا في مراكز صناعة القرار؟
الإجابات ليست بسيطة ولا متاحة بسهولة. مشهد الجنوب السوري اليوم لا يُقرأ بمعزل عن توازنات اللاعبين الكبار في الإقليم وداخل سوريا نفسها. ويبقى أخطر السيناريوهات هو ضعف الانتباه للمخاطر العميقة للاصطفاف، وإغفال أهمية الاستثمار في المصالحة والعدالة الاجتماعية، وبناء آليات حقيقية لإدارة تعددية المجتمع السوري وحماية الهويات بدل تحويلها لمادة ضغط سياسي أو أمني. الزمن وحده كفيل بأن يكشف إن كانت هذه الضربة مجرد محطة مؤقتة في سردية الصراع السوري، أم بداية لتحول استراتيجي تترتب عليه خرائط وعناوين جديدة لكل الإقليم.
كاتب قطري