الجولاني: قائد بلا وطن

سعد الدالاتي
لعدة أشهر، بقيت السويداء خارج سلطة الدولة، وكأنها بقعة منسية لا يعنيها ما يُقال في نشرات الأخبار الرسمية عن السيادة والوحدة الوطنية. اعتُدي على محافظها، اعتُقل وأُهين، ومع ذلك لم نرَ تحركاً يُذكر من الدولة، ليس لعجز ميداني، بل لأن تحذيرات إسرائيلية صارمة أوصدت الأبواب أمام أي تدخل، فغاب الرد، وغابت الهيبة، وغابت الدولة.
لكن بينما كانت المحافظة تغلي، كان الجولاني، الذي أصبح يتصرف كرئيس بلا دولة، يتنقل بهدوء ما بين الإمارات وأذربيجان. وهناك، جرى ما لم يُكشف عنه صراحة: اجتماع مغلق مع مسؤولين إسرائيليين. لا تفاصيل واضحة، لكن بعدها مباشرة نشبت معركة غير مفهومة بين عشائر البدو وبين ميليشيات درزية انفصالية مدعومة من دولة الاحتلال، ما يشير إلى أن شرارة الفتنة لم تكن صدفة، بل أُعدّ لها في غرف مغلقة.
دخلت القوات الحكومية إلى السويداء، ولكنها لم تكن تلك القوات التي يعرفها الناس. لم تكن جيشاً وطنياً بملامح واضحة وانضباط عسكري، بل أقرب إلى فصائل شاحبة الهوية، لا تتبع سلسلة قيادة واضحة، ولا تنفذ أوامر وزارة الدفاع فعلياً. دارت معارك دامية، سقط فيها عشرات من القتلى، حتى تمكّنت القوات من دخول السويداء… لكن ما حدث بعد ذلك كان أقرب للانتحار منه إلى الانتصار.
وزارة الدفاع، التي يديرها مرهف أبو قصرة، أصدرت أوامر فجّة بسحب الآليات الثقيلة والسلاح النوعي من المدينة، لتتحول قوات الجيش إلى صيد سهل لرصاص ميليشيات الهجري. ولكن القاتل الحقيقي لم يكن في جبال السويداء، بل في دهاليز القرار السياسي، ضمن فريق الجولاني نفسه. فهل هو الغباء السياسي؟ أم العمالة المقنعة؟ لا أحد يملك جواباً، لكن النتيجة واحدة: الدم السوري يُهدر.
وبدلًا من إرسال تعزيزات، هرع الجولاني إلى طلب الحماية من الأميركي، والتركي، والقطري، بعد أول غارة إسرائيلية استهدفت مقر هيئة الأركان في دمشق. هرب إلى الدبلوماسية، كالجبان، وترك الميدان. قرر فجأة سحب الجيش نحو دمشق، وسلم محيط السويداء السُّني، حيث ما زالت المجازر الطائفية تُرتكب، والبيوت تُحرَق، والمقاتلون من أبناء العشائر يُقتلون بدم بارد، تحت أعين من يُسمّون أنفسهم “قوات ردع العدوان”.
وفي المشهد الأكثر إيلاماً، قبل أن يُقتل أحدهم لسان حاله يقول :
“أين الشاهين؟ أين العصائب؟ أين طبق الكرامة؟ أين من صدّعتم رؤوسنا بهم؟”
صرخة لم يسمعها أحد، أو سمعوها وتجاهلوها.
لقد انكشف كل شيء. لم يبقَ شيء من أوهام السيادة، ولا أكذوبة القرار المستقل. الجولاني يتصرّف كأنه رئيس… لكن بلا دولة.
ولا جيش يحمي، ولا كرامة تُستعاد، ولا دم يُصان
القذارة السياسية
في المشهد السوري المنهك، لم يعد السقوط يُقاس بعدد الضحايا فقط، بل بمستوى الانحدار الأخلاقي في القرار السياسي. تصرفات الجولاني في السويداء كانت مثالًا فاضحًا على ما يمكن أن نسميه دون تردد “القذارة السياسية”. حين أرسل جيشه — أو ما تبقى من هيكلٍ يُشبهه — إلى معركة بلا غطاء، وبلا سلاح، ثم أمر بسحب الآليات بعد أول موجة صمود، لم يكن يمارس سياسة، بل كان يُمارس فعلًا أقرب إلى الخيانة أو الانتحار المدروس.
لم يقدّم تفسيرًا، ولم يتحمل مسؤولية الدم، بل انشغل بعدها بجولات دبلوماسية ولقاءات مبطنة مع خصوم الأمس، وراح يتحدث عن “ضمانات دولية” بينما كانت قرى البدو تحترق، وأبناء السويداء يُحملون على السلاح كما في زمن الثأر. هذا النوع من القيادة لا يصنع دولة، بل يكرّس الفوضى، ويفتح الباب أمام التقسيم والفقدان النهائي للسيادة.
الجولاني لم يكن سياسيًا فاشلًا فقط؛ كان سياسيًا قذرًا، وظّف الدم كوسيلة تفاوض، وترك الأرض تُنهش لتأمين موقعه الشخصي على طاولة لا كرامة فيها ولا مستقبل
كن الأخطر من كل ما جرى، أن ما يحدث في السويداء لم يكن معزولًا عن مشروع أوسع يُطبخ على نار هادئة، هدفه إعادة رسم خريطة سوريا الطائفية على أساس تقاسم النفوذ لا على أساس وحدة البلاد. ما نشهده ليس تمردًا أهليًا فقط، بل فصلًا تجريبيًا يُراد له أن يُكرّس واقع “إدارات مناطقية” تحت عناوين زائفة: حماية الطائفة، رد العدوان، أو استعادة الكرامة. وكل تلك الشعارات ليست سوى واجهة لخيانة أكبر، تُدار من الخارج وتُنفّذ بأيدي الداخل. في هذه المعادلة، يبدو الجولاني مجرد أداة فاقدة للإرادة، يلبس ربطة عنق الرئيس ويقف على خرائب وطن
صحفي ومدون سوري