الأستاذ نصر سيوب: القُبلة التي تُخفف التوتر.. تحليل في هايكو الفنان سامح درويش

الأستاذ نصر سيوب
“صباحٌ شتويٌّ،
بُخارٌ بين عاشِقَيْن
تُطْفِئُهُ قُبْلةٌ.”
*************
ــ مقدمة :
بين برودة الصباح الشتويّ ودفء العاشقَين، تولد قصيدة الهايكو خالقة لحظة شعريّة مكثّفة، تلتقط المشهد الحسّيّ لتحوّله إلى استعارة وجوديّة عن طبيعة الحبّ والوجود. فـ “صباحٌ شتويٌّ” ليس مجرد إطار زمنيّ، بل هو مرآة تعكس صراع الحرارة والبرودة في النفس والعالم.
في أحضان النص :
ــ التحليل :
لقد اقتنص الشاعر مشهدا فريدا رآه في زمان ومكان محددين، فكان هذا الهايكو البديع، الذي يقدم لنا في بدايته “صباحٌ شتويٌّ”؛ مشهدا ثابتا آنِيا أو خلفية صامتة مُعزِّزةً مفارقةَ السطرين التاليين. فكلمة “صباحٌ” تضيف إحساسا بالبداية، لكن بداية باردة وقاسية، وكلمة “شتوي” توحي بالبرودة، والقسوة، والصقيع، والصمت. وهما يكوّنان جملة اسمية خبرية وليسا مجرد جملة وصفية فقط؛ فـ”صباحٌ” خبر مرفوع لمبتدإ محذوف تقديره “هذا” و”شتويٌّ” نعت تابع لمنعوته في الرفع، أو خبر الناسخ الحرفي المحذوف “إن” مع اسمه الضمير المتصل “ــه”. وكلا التقديرين (هذا ــ إنه) يؤكدان آنية المشهد وحضوره الملموس، فهما يُحيلان إلى صباح معيّن تشهده العين الآن، لا حديثا عن الشتاء وأحد صباحاته بشكل عام، فالتقدير بـ (هذا) يعطي الجملة قوة الإخبار المباشر والرصد الحاضر، والتقدير بـ (إنه) يضيف للجملة بُعدا من التأكيد والإقرار بالواقع، وهذا يتوافق مع جوهر الهايكو الذي يرصد لحظة آنية في الطبيعة أو الحياة.
كما أن كلمة “شتويٌّ” تعتبر كلمة الفصل الصريحة أو ما يُعرف بالكيغو (kigo) حيث تحدد الزمان أي فصل الشتاء، ورغم ذلك فهذا الهايكو يميل بقوة إلى موضوع إنساني وعاطفي بحت، مما يجعله قريبا جدا من روح السينريو، حيث تُستخدم الطبيعة (صباح شتوي) كخلفية أو عنصر يُبرز الدراما الإنسانية، وليس كهدف أساسي للتأمل.
والفاصلة في آخر الجملة “،” وهي تقنية الانقطاع في نهاية السطر الأول التي يعتمدها الشاعر في نصوصه التي تستوجب ذلك؛ تولِّد تشويقا شعريا بسيطا لكنه فعّال، وتُوقف الجملة قبل اكتمال سياقها النصي، وتحولها إلى مفتاح بصري يفتح باب التخييل أمام القارئ ليكمل المشهد ذهنيا ويطرح أسئلة ضمنية مثل : ماذا في هذا الصباح الشتوي ؟ وما الذي سيحدث فيه ؟
كما أن الشاعر بذلك يوجه القارئ ليُبطئ عند الصورة الأساسية المتمثلة في الصباح الشتوي قبل الكشف عن التفاصيل في السطرين الثاني والثالث، التي ستظهر أكثر غرابة وتأثيرا ضد خلفية الشتاء الموحشة، مع إشراكه في بناء المعنى وتخيل الرابط بين الصورتين وتهييئه لاستقبال المفارقة الكبرى المكملة للمشهد المتمثلة في القبلة المطفئة للبخار في السطر الثالث.
فتوظيف الشاعر لهذه التقنية أضاف بُعدا جديدا للمعنى في هذا الهايكو، بل وعزّز من إيقاعه الداخلي، وعمّق من مساحته التأويلية، ورفع من مستوى مشاركة القارئ في بناء المعنى. فقد حقّق بذلك ما يمكن تسميته بالدهشة المؤجلة. فلنتخيل أن الهايكو كُتب بدون فاصلة : “صباح شتوي بخار بين عاشقين تطفئه قبلة”؛ سيبدو النص أكثر سلاسة في القراءة، لكنه سيفقد تلك الوقفة الحاسمة التي تجبر الذهن على التوقف عند “صباح شتوي” ككيان مستقل بذاته له إيحاءاته : “برد، سكون، ضباب”، قبل أن يتم ربطه عضويا بالمشهد الإنساني اللاحق. فالفاصلة تمنح القارئ تلك اللحظة للتنفس لاستحضار صور الشتاء وطرح الأسئلة، ومن ثم تقدم له المشهد التالي كتحول أو مفاجأة. إنها كـ”كيريجي” مبكرة، ولم تكن مجرد علامة ترقيم.
وبهذا يكون الشاعر قد أثبت ليس فقط فهمه لمفهوم الكيريجي، بل قدرته على تطويعه وتكييفه ليصبح سمة مميزة في أسلوبه الخاص بالهايكو العربي، مُعلّيا من قيمة التوقف والتأمل في نص يُعرف أساسا بالإيجاز والسرعة.
بعد السطر الأول، يأتي السطر الثاني ليُدخل العنصر البشري (العاشقَين) في المشهد الطبيعي البارد وبينهما بخار ينبعث من فمَيْهما، نتيجة حرارة جسديهما في البرد القارس، ليعطينا صورة بصرية قوية توحي بالحميمية والاقتراب الجسدي. فوجود البخار بين العاشقين يربطه مباشرة بحرارة المشاعر والحب والعلاقة الحميمة، والتقابل بين برودة الجو الخارجي ودفء المشاعر الداخلية وهو لب الصورة.
ثم يأتي السطر الثالث والأخير “تُطْفِئُهُ قُبْلَةٌ” ليحدث المفارقة الكبرى والانزياح والدهشة “الكيريجي”، فالقبلة التي هي ذروة التعبير عن الحب والدفء العاطفي والجسدي، لا تزيد البخار بل “تُطفئه”. وهذا الفعل “تطفئ” مدهش ومحمل بالمعاني، وما استخدامه من لدن الشاعر بالاعتباطي أو العشوائي، بل هو مفتاح لقراءة تُحوِّل المشهد من ظاهرة طبيعية إلى استعارة عن “نار العشق” التي تُحرِّك الوجود من الداخل.
فاستخدام فعل “أطفأ” في صيغة المضارع يوحي بأن البخار المنبعث ليس مجرد ظاهرة فيزيائية ناتجة عن برودة الطقس، بل هو أشبه بـ”دخان” ناتج عن “نار” العشق المشتعلة في جوفَي العاشقَين، فهو شهادة عن نار خفية مستعرة وبركان مشاعر مكتتم في الأعماق. وجاءت القُبلة لتطفئ النار لا البخار فحسب. وهنا يكمن الانزياح العبقري؛ فالقبلة/المفارقة وهي ذروة الوصال لا تُوقد النار بل تخمدها، وتُخضع نار العشق الثائرة، وتُبدِّل هياجها بطمأنينة الامتداد في حضن المحبوب.
فالوصول إلى ملاذ الحبيب يطفئ لهيب الشوق المُؤرِّق، كأنه إشباع يُهدِّئ الثورة الداخليّة.
فاختيار الكلمات بدقة هو ما يميز الشعر الحقيقي ويجعله خالدا ومؤثرا، وعندما يدرك القارئ أن البخار ليس مجرد ناتج للبرد بل هو تعبير عن الشغف، وأن القبلة تطفئ هذا التعبير المرئي لتحوله إلى إحساس مباشر، فإن الهايكو يرتقي إلى مستوى جديد من الجمال والعمق.
ــ خاتمة :
هذا الهايكو القصير، كاللمحة الخالدة، يخبرنا أن الحب العميق ليس هدوءا بعد العاصفة، بل هو العاصفة نفسها وهي تطفئ نارها بلذة الوصول. فالصباح الشتوي لم يكن إطارا فقط أو موقعا زمنيا، بل مخبأ الأسرار التي تنكسر على شاطئ الأبدية. وهو ما جعل هذا الهايكو يملكُ قوة الجمال في ثلاثة أسطر فقط.