سعاد خليل: التوازن بين الإيجاز والتفصيل في النص

سعاد خليل
ان بداية الدرس الادبي تتجه او ما تتجه الي النص الادبي بوصفه المادة الحقيقية لما يمكن ان نسميه ادبا، واذا تم الاتجاه الي النص فان النظر يتحرك حركة سريعة الي ما يحتويه، من قيم فنية وإمكانات تعبيرية من محاولا الرصد والالمام بكل جزئياتها واذا كان هذا الالمام ميسورا للمدارس او للناقد، فانه ليس كذلك بالنسبة للقاري العادي، او المتلقي بوجه عام ، ومن هنا كان لابد من اختيار الطريق الذي يأخذ بيد المتلقي الي النص فيضعه تحت بصره ليتيح له قدرا من الاستيعاب، او بمعني اخر يحاول الدارس ان ينقل الملتقي الي الحالة المعرفية التي هو عليها لكي تكون هناك مشاركة حقيقية بين الدارس والمتلقي والنص الادبي.
وأول خطوات المشاركة ان يكون هناك نوع من الفهم الذي يقترب من الدقة لمدلول كلمة النص فالذي لا شك فيه ان كثير من المتلقين لديهم تصور اجمالي عن مفهوم الكلمة، ولكن داخل النص حركة واسعة فيلم بما فيه من عناصر الماما يستجمع كل الخطوات التي اقترحها الدارسون القدامى والمحدثون فيما يتصل بدراسة النص الادبي.
في هذا الخصوص نأخذ دراسة كتبها الدكتور : محمد عبد المطلب ونشرت في مجلة ابداع .يقول في هذه الدراسة المليئة بالشروحات والمفاهيم :
من السهل ان أتقدم للقاري بنص ادبي ، واعرفه به تعريفا مجملا وربما اقنعه ذلك ن وربما لم يقنعه ، لكنه في هذا او ذاك لا يمكن ان يصبح قادري علي لحركة الفنية التي تجوس خلال النص وتستكنه ابعاده الدلالية ، ومن ثم تقع بالضرورة علي قيمته الفنية ، ولذا كان من الضروري تجاوز النظرة الكلية الي الجوانب التفصيلية التي تقدم النص بكل جوانبه وبخاصة ما يتصل منها ببنائه الداخلي ، فعندما نذكر كلمة القاهرة يمكن ان يتبادر الي الذهن ادراك اجمالي لها ، لكنه ادراك قد يغيب معه التفصيل الدقيق لذي يكسب اللفظة مدلولها الحقيقي ، ومع التدقيق نتجاوز هذه النظرة الكلية التي قد تغني في بعض المواقف لكنها لا تغني في كل المواقف ، ذلك ان معاودة النظر تستدعي علي الفور كثير من المعارف التي تنتمي الي علوم مختلفة بعضها يعود الي علم الجغرافيا وبعضها الي التاريخ وبعضها الي الدراسات الاجتماعية والإنسانية ، أي اننا لكي نصل الي تحديد دقيق لكلمة القاهرة علينا ان نمدها الي التفصيلات ا الصغيرة والكبيرة ، اذا هي تعني مثلا الاف البيوت الصغيرة منها والكبيرة ، والاف الطرقات الممتد منها والمعوج وملايين البشر بخواصهم الفردي والجمعية ، ومن كل ذلك نأخذ اللفظة مفهومها الحقيقي ، فالمعرفة الاجمالية لا تفيد هنا الا اذا كانت الخطاب لمن لديه المام بالمكونات الأساسية لموضوع اشيء الذي يجري الحديث حوله .
وكثيرا ما نقع علي مفارقات عديدة تستدعيها طبيعة المقابلة بين الادراك الكلي والادراك التفصيلي، اذا تؤكد هذه المفارقات وجود حصيلة للمعني يخرج بها المتلقي كثيرا ما تتناسب تناسبا عكسيا مع الصورة المجملة لما يدور الحدي ث عنه فالكاتب الذي يعمد الي الاجمال قد يكون يفعل ذلك لقلة العلم التفصيل من نحية ، وضالة الخبرة بما يدور الحديث عنه من ناحية خري ، ومثل هذا يحدث بشكل موسع خاصة ندما يكون الموضوع المطروح متصلا بالدراسة الفنية الجمالية او ما يغلب عليه الطابع النظري عموما
والنص الادبي يمكن علي نحو من الانحاء النظر اليه كمجموعة من التراكيب اللغوية التي تعلق بعضها ببعض علي نحو مخصوص ، ومن هنا تكون ممثلة لنوع من الرمز والاشارية التي ترتبط بدلالات محددة مزدوجة المفهوم ، اذ هي من جانب ترتبط بالواقع الخارجي بكل محتوياته ، ومن جانب اخر ترتبط الابعاد النفسية الباطنية التي تتحرك داخل العقل عند المبدع او المتلقي ، علي السواء ، وهذا الارتباط محكوم بظروف الزمان والمكان والخواص الفنية ، اذا ان الاتصال بالمبدع انما يكون في لحظة الابداع فحسب ، وان ظل الانتماء النص الي صاحبه غير منقطع النسبة ، بينما الارتباط بالمتلقي يكون له استمرارية تتكرر بتكرر المتلقين مع اختلافهم في الأفكار والثقافات ، ومع اختلاف الواقع ازلمن الذي يعيشون فيه ، وهذا ما يمكن ان نعده التفصيل المجمل ، الذي يقتضي تجاوز الكل الي الجزء ومتابعته في عناصره التي يتصل بعضها ببعض حتي نصل الي الكل الذي تجاوزناه ، بعد ان نكون قد الممننا بالتفصيلات واستوعبنا نظامها ،او بمعني اخر تكون قد وقعنا علي نظمها الذي يتابع المفردات في حركتها التعليقية التي تؤول في النهاية الي ما نسميه بالنص ا لأدبي.
واذا كان الالمام بتفصيلات النص الادبي امرا عسيرا بعض الشيء ، اذا تبلغ التفصيلات بمفرداتها المئات والالوف ، فان هذا العسر يعود غالبا الي ضعف الخبرة وقلة التمرس ، فالإلمام التفصيلي يصير سهلا علي من يتعامل من خلال بصره وبصيرته مع الجوانب الحقيقية للنص والتي تتركز في حدة الصياغة اللغوية بكل اطرافها وحواشيها وبكل دواخلها وخوارجها ومن هنا يكون العجز عن التصور الكلي مؤديا الي الاعتماد علي التفصيلات الهامشية التي قد تستدعي من صابها صفحات طوالا دون الوصول الي تصور حقيقي وكلي للنص ، وتظل الملاحظات متأثرة هنا او هناك تنتقل من مردة الي اخري برصدها ورصد ما قبلها او ما بعدها دون الوقوع علي العلاقات الحقيقية التي ترتبط بين هذه المفردات وتصنع منها كلا متكاملا بحيث يتساوى الكل مع اجزائه ويكون الكشف عنهما كشفا عن لنظام العام الذي يسيطر علي حركة المفردات وبوجهها في خطوطها المختلفة التي منها ما يذهب طولا ، ومنها ما يذهب عرضا ، ومنها ما يتركز حركته في نقطة بعينها .
ونعاود مرة اخري تحديد مفهوم النص الادبي، ذلك انه اسم لا نطلقه علي شيء له وحدانية مفردة يمكن ادراكها ند اطلاق مسامها فورا كما نطلق كلمة الهرم علي هذا البناء المعروف، ونما النص اسم نطلقه علي محصلة عدد كبير من العناصر الجزئية ذات نظام خاص علي مستوي الافراد ، او مستوي التركيب ، كما ان نظامها له ارتباط بالمشاعر لداخلية لمبدع النص ، او بمعني خر هو تعبي لغوي عن موقف شعوري ، والتعبير اللغوي هذا ليس الا المادة المحسوسة للموقف الشعوري غير المحسوس .
ومن هنا كان النص تعبيرا عن الأهداف والغايات الجمالية التي ينشدها الاديب من خلال تعبير عن تجربته الخاصة او العامة وكل هذه التكوينات اللغوية ليست الا وسيلة موصلة الي الأهداف والغايات السابقة، وذلك يعني ان تكن الخواص التعبيرية لها ارتباطها الوثيق بمقدرة لدارس او المتلقي عموما حتي يكون علي وعي بما تحمله من شحنة عاطفية ، م خلال إمكاناتها اللغوية ، لأنه من الجائز ان تكون الأدوات اللغوية مقتصرة علي مجرد ملية التوصيل الفكري فحسب ، وهو امر ان صح احتواء النص الادبي عليه فانه لا يصح اقتصاره عليه .
ولا شك ان علم الدارس بطابع ما يقوم بدراسته ، هو في نفس الوقت يمثل قدرته علي التمكن من وصفه وصفا تفصيليا علي نحو يحقق له وجود مستقلا عن ذاته وكلما ازداد الدارس اقترابا من الشيء المعني وكلما حاول ان يقع علي خواصه ، فانه بالضرورة لا بد وان يستخرج خبراته الخاصة ، فاذ عجز عن هذا الاسترجاع في صورته القريبة من الاكتمال ، فانه قد يعجز امام ما يهمه دراسته ، فنحن قد نضع ساعة في يد صبي يلهو بها ، ويفكك اجزاءها ، لكنها علي هذا النحو سائر لا محالة الي الفساد ، اذا انه يعجز عجزا كاملا عن اعادتها الي حالتها التي كانت عليها ، بينما عندما نضع نفس الجهاز في يد خبيرة به فإنها تقوم بتفكيك العناصر والجزئيات الي مفرداتها الأولية ، ووترينا ما فيها من براعة الصنعة ، ودقة النظام ، لم تعود بها الي حالتها الاولي مرة اخري دون ان يختل نظامها ، او ينحرف عن صورته التي كان عليها، فالعلم بالشيء تفصيلا اول درجة من درجات السيطرة عليه والتعريف به ، اما الجهل بطبائع الشيء فانه يؤدي الي العجز عن التعامل معه علي أي مستوي من المستويات الشكلية او الباطنية ، ومن هنا كانت الصلة وثيقة بين العلم والالمام لحقيقي بالشيء المدروس ، وبين الجهل والقيود التي تقف حائلا بيننا وبين ما نهتم بدراسته .
فالتعامل مع النص يحتاج اذا الي معرفة حقيقية ، وهذه المعرفة تزيح عنه غطاءه ، فيحدث نوع من التالف بين الدارس والنص المدروس ، اما الجهل بالنص فهو مدعاة الي الوقوف امامه وقفة حيرة وارتباك ، ومن ثم قد يكو ذلك سببا مباشرا شفي رفضه ، او الانتقاص منه ، فالجهل بالشيء هو اول الطريق للعجز عن التعامل معه .
ومن خواص الأدراك التفضيل ان تتبين حقيقة البنية التي يقوم عليها النص الادبي ، وهي بنية شكلية بالدرجة الاولي ، فلا نستطيع ان نقدم الفارق الحقيقي بين جنس ادبي واخر الا بالرجوع الي الشكل الصياغي ، وما يمكن ان يصنع المبدع بالمادة التي اسلمتها له اللغة ، فهو يقوم بعملية اختبار من مخزونه المعجمي ، ثم في مرحلة ثانية يقوم بعملية توزيع لما تم اختباره ، وهو في هذا وذاك لا يغفل الجوهر عندما ينظر لي الشكل ، ثم يتم الادراك الحقيقي من خلال هذه الازدواجية ، فثنائية الشعر والنثر مثلا لا يتم ادراكها الا من خلال البناء الشكلي في مستوياته المختلفة ، ثم من خلال الجوهر الداخلي بأبعاده المختلف أيضا.
والنظر في بعض التراكيب اللغوية يؤكد كيفية بنائه هو الذي ينسبها الي أي طرق من الثنائية السابقة، أقول
انظر الي هذا الولد يجري سريعا
هذا الولد انظر اليه سريعا يجري
انظر الي هذا الولد يطير سرعة .
اجد ان الجملة الاولي تكاد اللغة فيها تسير علي نمط مألوف يمكن انتماؤه الي لغة النثر في عموما ، من حيث توزيع المفردات علي نحو ما حفظته اللغة ، ومن حيث الربط بينها علي نحو ما رسمته قواعد النحو في رتبها المحفوظة او غير المحفوظة ، فالفعل (انظر ) يقتضي بضرورة المواضعة مجيء ( حرف جر ) يتلوه هو (الي ) حيث يعلق الفعل بما بعده ، ويعديه اليه ، ثم لابد ن ينصب النظر علي مادة لغوية تجسد ابعاده ، وهي هنا ( هذا ) اسم الإشارة الذي يقتضي بالضرورة أيضا مشارا اليه هو الولد ، ثم تأتي مسببات النظر من خلال الجملة الحالية (يجري سريعا ). اما في الجملة الثانية فقد حدث نوع تعديل بالقياس الي الجملة الاولي، حيث تقدم المشار اليه علي النظر في حركة يمكن ان نسميها حركة افقية أحدثت تعديلا جزئيا في الدلالة ، ادي الي نقل الجملة من مستواها المألوف الي مستوي غير مألوف ، أي انن اصبحنا في مواجهة تعبير لا ينتمي الي النثر انتماء مطلقا ، ومنثم نعتبره في مرحلة وسطي بين هذا وذاك.
وفي الجملة الثالثة نجد نقلة كاملة في بناء اللغة، من حيث إخراجها من مجال الموضعة، وذلك عن طريق استخدام المجاز الذي يحدث خلالا في جدول الاستبدال ، بإحلال الفعل (يطير ) محل الفعل ( يجري ) وهذ بدوره يقودنا الي مرحلة التعامل الشعري ،حيث تجري المفردات علي غير ما وضعت له في الأصل .
والحق اننا لو عاودنا النظر في الجمل الثلاث مرة وراء اخري ن لما وجدنا هناك فرقا جوهريا في المضمون او المحتوي وانما الفرق الحقيقة نجده فيم جاءت عليه الجمل الثلاث من بناء شكلي ، مم يؤكد ان الشكل يلعب دورا رئيسيا في بناء لغة الشعر ولغة النثر .
وقد ادرك عبد القاهر الجرجاني دور لشكل التركيبي في ادراك نظام اللغة الذي يختلف في تراكبيه من جنس الي جنس اخر ، فمع اختلاف البناء الشكلي يأتي التمايز بين لغة الشعر ولغة النثر ، وي بدو ذلك واضحا من تعليق عبد القاهر علي قول البحتري .:
اذا بعدت ابلت وان قربت شفت
فهجرنها يبلي ولقيانها يشفي
وقد علم ان المعني: اذا بعدت عني ابلتني، وان قربت مني شفتني، لا انك تجد الشعر يأبي ذكر ذلك ويوجب اطراحه . وهذا البناء الشكل يمكن ان يمثل الفرق الحقيقي بين نوعي الصياغة النثرية ، والأدبية وغير الأدبية ن ويمكن تصور هذا عمليا من خلال تحليل عبد القاهر أيضا لقوله تعالي : وجعلوا لله شركاء الجن ) فهناك انتهاك للرتب بتحريك الالفاظ من اماكنها الاصلية الي أماكن اخري ضفت علي الصياغة طبيعة فنية نفتقدها اذا ما عدنا بها الي رتبها الاصلية ن فليس بخاف ان تقديم الشركاء له مزية نعدمها اذ نحن اخرناه فقلنا : وجعلوا الجن شركاء لله ، لان البناء الشكلي الأول اضفي افادة من خلال التقديم لا سبيل اليها مع التأخير ، بيان ذلك ان معني الجملة : انهم جعلوا الجن شركاء عبدوهم مع الله . وهذا معني يحصل مع التأخير ومع التقديم، لكن تقديم الشركاء يضيف الي هذه الإفادة معني اخر ، وهوانه ما كان ينبغي ان يكون لله شريك لا من الجن ولا من غير الجن ، واذا اخر فقيل : جعلوا الجن شركاء لله ، لم يفد ذلك ، ولم يكن فيه شيء اكثر من الاخبار عنهم بانهم عبدو لجن مع الله ، فأما انكار ان يعبد مع الله غيره وان يكون له له شريط من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه .
فاذ اعدنا الي البناء الشكلي الذي اعطي هذه الإفادة نجد ان التقدير مع التقديم يكون ان شركاء مفعول اول لجعل، والله افي موضع المفعول الثاني، ويكون الجن علي كلام ثان كانه قيل : فمن جعلوا شركاء الله تعالي ؟ فقيل الجن ، واذا كان التقدير في شركاء انه مفعول اول ، والله في موضوع المفعول الثاني ، وقع الانكار علي كون شركاء الله تعالي علي الاطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء .
وهذا البناء الشكلي لا يقتصر دوره علي التفرقة بين المألوف وغير المألف في النص اللغوي عموما والادبي خصوصا، وانما يمتد الي التفرقة بين ما يعتد به في الصياغة، وبين ما يخرج عنن الفهم والإفادة، وقد أشار الي ذلك كثير من الدارسين ن فاذا عمدن الي كلام وازلنا اجزاءه عن مواضعها ووضعنا وضعا يمتنع معه وجود نوع من التعليق بين المفردات بحيث يختل الشكل التركيبي تما فإننا سنواجه بشكل جديد لا يعتد به في مجال الاتصال اللغوي .
ان منهج شرح النص في فرنسا، والتحليل الشكلي الذي يتوازى مع تاريخ الفنون الجميلة في المانيا، ثم الحركة الذكية للشكليين الروس واتباعهم من التشيك والبولندينن ، كل أولئك اد أهمية دراسة العمل الادبي في ذاته ، وقد بدانا تراه الان بشكل مناسب ونحلله بصورة دقيقة ، وفي إنجلترا قام اتباع ريتشاردز بتركيز انتباههم علي نص محدد ، وبالمثل أيضا جعل فريق من النقاد في الولايات المتحدة دراسة العمل الفني مركز اهتمامهم . كذلك فان دراسات عديد ة عن المسرح تشدد علي الفق بينه وبين الحياة وتكافح البلبلة بين الحقيقة والمسرحية والحقيقة الواقعية ، وكذلك فان هناك دراسات متعددة في الرواية لم متمعد تقنع بالنظر اليها في حدود صلاتها بالبنية الاجتماعية ،بل تحاول ان تحلل مناهجها الفنية ، وما فيها من وجهات نظر من خلال تقنيتها القصصية.
وليس معني ان يلعب الشكل دورا أساسي في تجيد مفهوم النص ان نغفل المضمون ،فان كثيرا ممن عنو بالدراسة الداخلية للنص رفضوا هذه القسمة الحادة بين الشكل والمضمون ، فمن الواضح ان الفاعلية الفنية ينعكس من احدها للأخر ، اذا لا نتصور نصا ادبيا بلا معني يؤديه مهما كن سطحية هذا المعني او ضحالته ، فالتفريق بين الشكل كعامل مؤثر، المضمون كامل تابع يؤدي بنا الي ازدواجية وقع فيه القدماء ، واغرقوا انفسهم في مقاييس تتصل بهذا واخري تتصل بذاك ن مما مزق مفهوم النص ، اذا لا شك فيه ان الشكل يضم كل العناصر التركيبية التي تحتوي علي المضمون بالضرورة ، واي تغير في هذا الشكل يتبعه لزوما تغير في المضمون ، وهو ما اشرنا اليه في تحليلات عبد القاهر السابقة .
وعلي اننا اذا تفحصنا هذا التفريق تفحصا ادق وجدنا ان المضمون يتضمن بعض عناصر الشكل، فمثلا ان الاحداث المروية في الرواية أجزاء من المضمون، علي حين ان الطريقة التي رتبت بها هذه الاحداث في عقدة هي جزء من الشكل. ولو فقنا هذه الاحداث من هذه الطريقة التي رتبت بها لما كان لها أي مفعول فني علي الاطلاق فالحقيقة ان الخط الفاصل بين ما يسمي شكلا وما يسمي مضمونا امر في غاية الصعوبة. ان لم نقل في غاية الإحالة، فحتي اللغة التي تلعب دورا أساسي فيما يسمي شكلا نستطيع فيها ان نميز بين ما يختاره الأديب من مفردات اختيارا عشوائيا مبعثرا، وبين ما يقوم به الشكل والمضمون في كيان موحد، وهو ما اطلق عليه القدماء لفظة دقيقة هم (النظم) وهي لفظة تتساوي تماما مع لقطو البنية في الدراسات الحديثة.
وهذه النية يمتد مفهومه الي الاتصال بكثير من العناصر التفصيلية التي تختلف من نص مكتوب الي نص منطوق، وخاصة في مجال الابداع الشعري كما يمتد الي الاتصال بمسائل معقدة كالوزن والقافية في الشعر ، والتوازي والنسج في النثر ، ثم أنماط الحروف وما يكتنفها من صعوبة او سهولة، ثم أنماط التراكيب وتمايزها في ذاتها ، ثم تمايزها بحسب موقعها في الكلام ، وكل ذلك يقدم لنا في النهاية ما نطلق عليه (النص الادبي ).