نبض القلب… إصابة مباشرة في القلب

نبض القلب… إصابة مباشرة في القلب

د. لينا الطبال

في جبال السويداء وشيوخها لم تبدأ القصة هذا العام، ولا هذا الشهر ولا حتى البارحة… القصة بدأت قبل أن يولد الأسد الأب، وقبل ان يتم حكم هذا الشرق من قبل دويلات أمن ومخابرات. في زمن كانت فيه سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وكانت السويداء تقود الثورة السورية الكبرى، ويهتف سلطان باشا الأطرش باسم كل السوريين… لم يهتف الدروز وقتها باسم طائفة أو جهة واحدة، هتفوا باسمنا كلنا… هتفوا بنا، عنا، رغما عنا أحيانا.
واليوم، لا أحد يردّ لهم الهتاف.
 الدروز الذين كتبوا في جبال العرب صفحات من ذهب، يُقتلون اليوم ويتم قصفهم من السماء برخصة وطنية… أليس هذا ما يسمى بسخرية القدر؟ من دافع عنك بالأمس يتم ذبحه اليوم على يد نظام يُبارك أصلا قتل مواطنيه بواسطة طائرات الردع الإسرائيلي الذكي…ويفتح لهم الهواء والارض: رصاصة مباشرة في القلب تأتي على يد نظام لا قلب له.

السويداء لم تكن في يوم من الأيام منطقة صغيرة في هذا الوطن ولا هي حي نائم من احيائه… السويداء هي اختصار مكثف لقرون من التاريخ، صلبة كجبلها، عصية على الانحناء…
لكن هل تظن أن إصابة الدولة بالزهايمر كافية لمحو قرون من البطولات؟ يا صديقي، حتى لو نسيت الدولة أسماء الشهداء… فجبالهم ما زالت تتذكر رائحة البارود! التاريخ لا يُمحى بِخَرَف نظام مريض.
الزهايمر قد يُنسينا مواعيد الانتخابات… لكنه لا يُنسي الصخور من مرّ فوقها بدمه… شيوخ الجبل ذاكرتهم حادة كهذا الصخر، وكرامتهم تُروى في الدم، ولا تُنسى…
 احفظ هذا جيدا “الخراب لا يحتاج لعدو، يحتاج فقط إلى رجال بلا ذاكرة”، بهذه الجملة وصف تولستوي الحروب.
قد يُنسي الزهايمر أحمد الشرع طريق قصر الشعب مثلا، فينتهي به المطاف على أبواب الكنيست يقرعها وهو يهتف: “افتحوا… اريد القاء خطاب عن الوحدة الوطنية!”

يُقال إن السويداء تُقصف بفتاوى خرجت طازجة من على منابر المساجد، فتاوى جُهزت على شكل صواريخ حارقة، وعلى وقع عبارة “اقتلوهم”… منذ الفجر، تتحرك نفس الأرتال، ونفس المساجد أيضا، تُعلن النفير، لكن هذه المرة ضد الدروز…
كأننا نعيش فجر مذبحة 1838… أو 1860، لا فرق… لكن السماء هذه المرة تمطر طائرات إسرائيلية غبية
تحوم بذكاء اصطناعي فوق جبل فيه ذاكرة أذكى من كل عملائهم…
تقصف بلا وعي طائفة أشد عناد من غبائهم المتطور، وذاكرة أقدم من دولتهم… وأقدم من عقدهم النفسية.
 لكن اطمئن.. كل هذا يتم بهدوء، بعناية وبرقي شبيه ببدل الرئيس أحمد الشرع: ناعمة، راقية، ومفصّلة حسب المقاس.

ثمانون… تسعون… مئتان؟ أوقف هذا العد السخيف ارجوك، لانه لم يعد يعني أي شيء. كأننا نعد الزهور.. كأن الطفل الذي شُطِر إلى نصفين هو المسؤول لأنه كان يلعب … كأن الجثة هي المسؤولة عن سقوطها.. وكأن النتيجة هي دائما واحدة: القاتل ينجو، والمقتول يُحاسب.
يقولون، اشتباكات بين مسلحين. كما اتهموا من قبل الفلول في الساحل… الفلول، هذه الكلمة الجذابة لكل من له أذن تُتقن سماع الأكاذيب، أصبحوا اليوم يقولون: قواتهم هي من تفتعل المجازر. حقا؟
هل الدروز أيضا من هؤلاء الذين يفتعلون موتهم؟

شيوخ السويداء يكفيهم أن يتكلموا، فيخرج صوت الجبل من حناجرهم، صوت وحده يعادل فرقة مدفعية، ليُقال به ما لا يُقال. كان الدروز دوما في عمق سوريا، لا على أطرافها؛ في قلب العروبة حيث تأتي الطعنات أولا… وفي لبّ الدولة الوطنية، تلك التي تبدلت وجوهها، وتغيرت أعلامها، وبقوا هم كما هم، لم يطلبوا ثمنا، ولم يتأخروا عن نداء.

هل علينا أن نصفق لأن القصف هدأ قليلا؟ أن نشكر الحكومة لان عدد الموت انخفض من 30 إلى 12؟
أي وطن هذا الذي يفاوض على عدد شهدائه وعلى قبورهم؟ أي دولة تلك التي تعتبر انخفاض عدد القتلى مؤشر على التقدم؟

ربما لسنا في وطن… نحن في مكان بارد او في لا مكان، شيء يشبه الكارثة. اجل نحن في كارثة…  يحاولون ان يرسموا لها خريطة لإقناعنا انها مكان … وهي تتسع كل يوم اكثر. الكارثة تكبر كل يوم مثل ورم سرطاني وهي عميقة كحفرة قبر…  لكن عبثا لا تجد متسع لكافة للجنازات. لكن لا تخف، سيقولون لك: كل شيء على ما يُرام.

في نفس الوقت التي تستمر “حلاقة الشوارب” في السويداء، بِشَفرة كتب عليها “صُنع في تل ابيب “، يطالب النواب في بيروت بتسليم سلاح المقاومة… وفي الوقت الذي يقصف فيه طيران العدو الجنوب والبقاع وبيروت، يناقش نواب “السيادة اللبنانية” جدول زمني لتسليم هذا السلاح … قد لا تعجبكم هذه الجملة، لكن احفظوها جيدا: هذا السلاح لن يُسَلَم. لا احد يسلم سلاحه وسط مذبحة مفتوحة…
من السويداء إلى البقاع الى الجنوب اللبناني الى الساحل الى دمشق وغزة… خطوط النار متصلة.
وفي الخلفية، إسرائيل تقهقه، تضحك على غباءنا المزمن وتمضي في طقوسها المعتادة وتقصف بشهوة الوحش.
 تذل الشيوخ، تمزق الأطفال، وتفرح عند رؤية سيارات الإسعاف ثم تقصفها…
عرفت الآن ان المرضى النفسيين لا يملون من إعادة مشهد الذبح نفسه… وهم لا يكتفون بفعل الشر، انما يتلذذون به.
إسرائيل، سلاح الجو الرسمي للمجازر المنظمة والملونة بأزرار من الدم والاشلاء.
منذ بداية عام 2025، قامت بـ7864 غارة، نعم نعم، لا تُصحح لي الارقام، دعك منها… كل مرة نفس الحكاية…
 12983 غارة جوية، و1009 برية من باب التنويع، إضافة الى 987654321 هدف، من مبانى الى بسطات خصار، فضلا عن عدد القتلى… من يهتم؟! ألف، عشرة آلاف، هي فقط ارقام … لا تعني اي شيء.

حلب؟ تلقت نصيبها، أُعطيت جرعتها. لم تعد حلب… اسمها الآن مخيم رقم 3، أو المنطقة السكنية 42 ب. سميها كما يخطر على بالك من أسماء بشعة لكنها لم تعد حلب.
دمشق، يجب أن تبقى خائفة… حتى الهواء فيها خائف، حتى القطط… حتى الغبار وحتى نحن في منافينا المرفهة خائفون عليها.
والمسيحيون يحرسون كنائسهم ويسّفرون أبنائهم خلسة، كأنهم يهربون من جريمة لم يرتكبونها. يرحلون عن بقايا وطن، وبقايا زمن، وعن حنين الى مستقبل قد لا يأتِ.
والجبل اختار ألا يشارك في مهزلة الحرب… فدخلها بالقوة.
حمص، درعا، طرطوس، القنيطرة، اللاذقية، حماة… كلهم أخذوا نصيبهم.

كل هذا منذ أن سقط النظام…  ديسمبر 2024، يوم عادي… سقط فيه كل شيء ما عدا المجازر.
لا، لا يا عزيزي… المجازر تحولت فقط من نظام الى آخر.. من ضوء أخضر. الى ضوء أخضر فسفوري.
 يُضيء الطريق لكل من قرر أن يمشي فوق أشلاء أبناء وطنه.

السويداء تحترق… والقصر فارغ لا صوت، لا صفير… فقط صمت… صمت طويل وبدلة رسمية مشغولة بحفر قبر جديد للثورة الكبرى… قبر فخم تضع فوقه زهور بلاستيكية بلون الدم.

العدو يقصف، والنظام غائب والعرب مشغولون بالأعراس والمهرجانات الصيفية. ةالجبل لا يساوم، ولا يتراجع.
 لكن المعارضة؟…
أين هي المعارضة؟ هاهاها … ما عدنا نملك واحدة.
صار لدينا معارضة سنية، معارضة درزية، معارضة علوية، معارضة ماركسية، معارضة أرضية وفضائية، معارضة ممولة من القبو ومعارضة مدعومة من السطح.  كل فئة معها معارضتها… كل حارة معها متحدثها….
معارضة الأمس كانت تعارض نظام الأسد وزال.  فلما زال، زالت. تبخرت. ما عادت مطلوبة. السفارات أغلقت دفاتر الشيكات. لا ميزانية، لا مكاتب، لا معنى.
لكن الأهم… ماذا سيحدث الان؟
هل على اطراف أخرى ان تتحرك؟ “قسد” مثلا. الآن. إن لم تتحركوا، فستسقطون بنفس الطريقة.
نعم، سقوط السويداء هو سقوطكم المسبق. ليس لأنكم تشبهونها، انما لأن النظام هو من يشبه نفسه في كل مكان.
من لا ينصر أخاه في الجبل، سَيُسلب منه النهر والسهل والسوق.
في النهاية اعرفوا جيدا ان السويداء ليست وحدها من يحترق، لا يوجد حياد اليوم. لا في السياسة، ولا في الدم.
 او أن تعلن وقوفك إلى جانب السويداء، او ان تقف في لائحة المتواطئين، بالصمت، بالخوف، أو بالمصالح.
الجبل قال كلمته، وأسقط القناع عن التسويات الفارغة.
الكرة الآن خرجت من ملعب السويداء، واصبحت في وجهنا جميعا.
 ألا هل بَلّغت؟
يا أيها السوري فإشهد.
باحثة و اكاديمية – باريس