زياد سلامة وثائر سلامة: مساهمة “بدر” خادم “عبد الرحمن الداخل” في المصادر التاريخية التقليدية

زياد سلامة وثائر سلامة: مساهمة “بدر” خادم “عبد الرحمن الداخل” في المصادر التاريخية التقليدية

 

 

زياد سلامة وثائر سلامة

بدر في روايات تأسيس إمارة الأندلس
تجمع المصادر التاريخية الكلاسيكية على أن بدراً – وهو مولى (خادم مُعْتَق) للأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية المعروف بعبد الرحمن الداخل (صقر قريش) – كان له حضور حقيقي ومهم في أحداث نشأة الدولة الأموية في الأندلس. تذكر هذه المصادر أن بدراً رافق عبد الرحمن في هروبه الشاق من الشام بعد سقوط الدولة الأموية عام 132هـ/750م، ونجا معه من مطاردة العباسيين حتى وصل إلى المغرب. بل إن المؤرخ ابن خلدون يروي أن عبد الرحمن بعد فراره وصل إلى قبيلة من زناتة في المغرب، ثم توجه إلى مليلة، ومن هناك أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس ليتصل بموالي بني أمية وأنصارهم ويمهد لقدومه وبالفعل نجح بدر في هذه المهمة؛ فقد اجتمع بأنصار الأمويين في الأندلس وبثَّ الدعوة سرًا لمولاه عبد الرحمن ونشر ذكره هناك، مستفيدًا من حالة الانقسام بين القبائل العربية (اليمنية والمضرية) في الأندلس آنذاك . وتؤكد الرواية أن بدراً عاد بالأخبار السارّة لعبد الرحمن، فعبر الأمير البحر إلى الأندلس سنة 138هـ بعدما ضمن دعم قطاع واسع من اليمنية والموالي، كذلك يذكر ابن الأثير في تاريخه تفاصيل مشابهة، فيقول إن عبد الرحمن لما دنا من ساحل الأندلس “وجَّه بدرًا مولاه إليهم” – أي إلى أنصار الأمويين في الأندلس – ليُعلمهم بأمر عبد الرحمن ويدعوهم لنصرته، فأجابوه وبايعوه سرًا . وقد أرسلوا إليه سفينةً تقلّ بعض زعمائهم (مثل ثمامة بن علقمة ووهب بن الأصفر) لنقله، فنزل عبد الرحمن بالفعل في المُنَكَّبِ بالأندلس في ربيع الأول سنة 138هـ . هذه الروايات تثبت أن بدراً كان رسول عبد الرحمن الداخل وممهّد الطريق لقدومه، وليس شخصية خيالية أو هامشية؛ إذ لعب دورًا محوريًا في الاتصالات السرية وتنظيم الدعم الذي مكّن عبد الرحمن من دخول الأندلس وتأسيس دولته، وهذا الأمر يشير إلى ثقة الداخل العظيمة في مولاه بدر، إذ يكلفه بمهمة بهذه الخطورة.
جدير بالذكر أن شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء يورد نفس القصة بأسلوبه، فيقول إن عبد الرحمن بعد فراره إلى إفريقية أرسل مولاه بدرًا لـ“يتجسس له” أخبار الأندلس. فاستطلع بدر آراء زعماء العرب هناك وسألهم: “لو وجدتم رجلاً من أهل بيت الخلافة أكنتم تبايعونه؟” فلما أبدوا استبعادهم وقوع ذلك، كشف لهم عن وجود عبد الرحمن بن معاوية، فبايعوه وناصروه. نتيجة ذلك تمكن عبد الرحمن من حكم الأندلس 33 سنة، وبقيت الإمارة في عقبه نحو ثلاثة قرون، يتضح من كل ما سبق أن المصادر المبكرة – كابن الأثير وابن خلدون والذهبي – تذكر بدرًا صراحةً وترسم صورته كمبعوث ذكي ومخلص لعبد الرحمن الداخل في مرحلة تأسيس الإمارة.
دوره كقائد عسكري وذي نفوذ في دولة الأندلس
بعد أن وطّد عبد الرحمن الداخل أركان حكمه في قرطبة، تشير المصادر إلى أن بدراً نال حظوةً كبيرة وأصبح من خاصته أصحاب النفوذ. تفيد بعض الروايات الأندلسية أن عبد الرحمن جعله “وزيرًا وأميرًا للجيش” جزاء إخلاصه وكفاءته،  وعلى الرغم من أن كتب التاريخ المشارقية المختصرة قد لا تستخدم لقب وزير صراحةً، إلا أنها توثّق قيادة بدر للجيوش ومعاونته في إدارة الدولة. فعلى سبيل المثال، يسجل ابن الأثير وقوع بدر في طليعة القادة الذين اعتمد عليهم الأمير في إخماد الاضطرابات الداخلية: عندما ثار سعيد اليحصبي المعروف بـ“المطري” في إشبيلية حوالي سنة 149هـ، وحاولت فصائل يمنية أخرى أن تمدّ يد العون له، أرسل عبد الرحمنُ مولاه بدرًا على رأس جيش لاعتراض الإمدادات قبل وصولها إلى المتمرّد،  وقد نجح بدر في مهمته، فمنع التحام القوات المتمردة ببعضها وأضعف ثورة المطري حتى أمكن للأمير القضاء عليها  . كذلك يذكر ابن الأثير أنه في السنة نفسها “أغزى عبد الرحمنُ صاحبُ الأندلس بدرًا مولاه إلى بلاد العدو” – والمقصود بلاد الممالك المسيحية في الشمال – فقاد بدر حملة عسكرية عبر بها الحدود وأخذ الجزية من تلك المناطق، هذه إشارة واضحة إلى أن بدراً لم يكن مجرد مرافق للأمير، بل تقلّد قيادة الجيوش في الغزو والدفاع عن الدولة الناشئة.
إضافة إلى ذلك، تصفه المصادر الأندلسية بصفات تدل على مكانته السياسية. يروي لسان الدين ابن الخطيب (ت.776هـ) في الإحاطة في أخبار غرناطة أن بدر – المُكنّى أبا النصر والرومي الأصل – كان “شجاعًا داهيةً حازمًا فاضلًا… عَلَمًا من أعلام الوفاء”، وأنه لازم مولاه عبد الرحمن في محنته وظل مختصًا به وحامياً له طوال رحلة هروبه في المغرب، حتى إنه هو الذي خطب له البيعة في الأندلس ونجح في ذلك.
    مثل هذا الثناء من مؤرخ أندلسي كبير يدل على تقدير الدور السياسي والإداري الذي اضطلع به بدر باعتباره الساعد الأيمن لعبد الرحمن الداخل. وكذلك ينقل المقري وغيره عن صاحب المقتبس (المؤرخ ابن حيان الأندلسي في القرن الرابع الهجري) وصفًا مفصلًا لكيفية قيام بدر بمهمة الاستطلاع: حيث تذكر الرواية أن عبد الرحمن لما بلغ ساحل الأندلس وعلم بوجود صراع بين القيسية واليمنية هناك، بعث مولاه بدرًا “يتحسس عن خبرهم” فاتصل بموالي بني أمية في الأندلس وعرض عليهم قدوم سيده، فأجمعوا على نصرته وطاعته، تلك الروايات تؤكد أن لبدر نفوذًا سياسيًا معتبرًا تمثل في كونه وسيطًا بين عبد الرحمن وأنصاره المحليين ومُنسّقًا للحركة الموالية للأمويين داخل الأندلس، فضلاً عن دوره العسكري في ترسيخ الحكم ومواجهة الأخطار.
مصير بدر بحسب المؤرخين الكلاسيكيين
على الرغم من البداية المشرقة لبدر ودوره الجوهري في تأسيس الدولة، إلا إن المصادر تُجمع تقريبًا على أن نهايته كانت مأساوية إلى حدٍ ما. يذكر المؤرخون أن بدر أساء استخدام قربه من الأمير وأفرط في الزهو بخدماته السابقة. فبعد استقرار الأمر لعبد الرحمن الداخل، صار بدر – على ما يبدو – يُكثر من تذكير الأمير بفضائله عليه، وبأنه صاحب الفضل في دخوله الأندلس. وتُنقَل في هذا السياق قصصٌ تدل على أن عبد الرحمن ضاق ذرعًا بتصرفات بدر مع مرور الوقت. يُروى أن عبد الرحمن كظم غيظه عن بدر مرارًا إكرامًا لماضيه، حتى تجاوز بدر حدَّه في جرأته. عندئذ قرر الأمير معاقبته بتنحية مناصبه عنه ومصادرة أملاكه ثم نفيه بعيدًا عن مركز السلطة . وتحدد بعض الروايات مكان النفي بـ”أقصى الثغر” أي الحدود الشمالية البعيدة للأندلس، مما يعني إبعاده تمامًا عن قرطبة وحاشية الحكم .
وتحفظ لنا الكتب نصوصًا ذات طابع أدبي تصور هذا الخلاف ونهاية بدر. من أشهرها رسالة كتبها بدر إلى عبد الرحمن الداخل بعد أن جُرّد من مناصبه، يشتكي فيها بمرارة مما لحقه ويعدّد خدماته السابقة. قال بدر في رسالته معاتبًا: “أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى، غير الهجر الذي أهانني…”  إلى آخر ما جاء في رسالته التي يبثّ فيها أحزانه ونقمته، ونلحظ فيها ملحظا مهما، وهو قوله: تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى، فهذا التذكير بهذا الدور الخطير يدل على أنه لم يكن مجرد ساعي بريد بين الداخل وأنصاره، بل له الفضل في التشتيت والبناء!
وقد كانت ردة فعل عبد الرحمن حاسمة وقاسية، إذ كتب على ظهر رقعة الرسالة ردًا شديد اللهجة وبلهجة العتاب السلطاني: “وقفتُ على رقعتك المُنبئة عن جهلك وسوء خطابك… والعجب أنك كلما هممتَ أن تبنيَ لنفسك مقامًا عندنا أتيتَ بما يهدم ذلك المقام بما تمنُّ به… وقد أمرنا باستئصال مالك وزدنا في هَجْرك وإبعادك… فنحن أولى بتأديبك… إذ إن شرك مكتوب في مثالبنا وخيرك معدود في مناقبنا”، ولم يستنكر عليه الداخل المقام الذي يذكر به (وهو تشتيت الممالك)، بل لامه بأنه هدم ذلك المقام بمقام التذكير والامتنان على سيده، على الرغم مما أولاه الداخل من حظوة وتقديم، ثم أعقبت ذلك أوامر الأمير بنفي بدر من قرطبة إلى أقصى الثغر، وكتب له في خاتمة الأمر: “لتعلم أنك لم تزل بَمقتكَ، حتى ثقلت على العين طَلعتك… وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر، فبالله إلا ما أقصرت”، يظهر من هذه الرسالة أن عبد الرحمن الداخل اعتبر استمرار بدر في تذكير الناس بفضله ضربًا من سوء الأدب والغرور الذي يستوجب التأديب، كما أنه يعتبره ناسياً للحظوة التي أولاه بها، والمكانة التي أقعده إياها ورفعه بها إلى سدة رئاسة الجيش. وبالفعل نُفّذ الأمر ونُفي بدر إلى الثغر بعيدًا عن البلاط، فمات في منفاه غريبًا كما تنقل بعض المصادر، “وصار خبره مثلاً وعِبرة للناس”.
    وهكذا انتهت مسيرة بدر السياسية بشكل مؤسف رغم بدايتها المجيدة، وهو ما سجله المؤرخون للتنبيه على تقلبات الزمن ومزالق الغرور، أو لنقل بصورة أدق على أنه ربما كان كما صوره لنا الدكتور وليد سيف، ناتجا عن ظلم أوقعه به الداخل حين خشي منه مكانته في قيادة الجيش، وقرر أن يسلبه مكانته تلك، فثقل ذلك على بدر، فلم يعد يتفهم ذلك، فأكثر من المن والتذكير فأستشاط الداخل غضبا على غضب فنفاه، وهذا أقرب للقبول من مجرد أن يكثر المن بلا سبب.
حضور بدر في الذاكرة التاريخية والتفريق بين الواقع والدراما
يتضح مما سبق أن شخصية بدر وُثّقت في عدد من المصادر التاريخية الكلاسيكية، من مؤرخين مشارقة ومغاربة على حد سواء. فقد ذكره ابن الأثير في الكامل ضمن أحداث سنة 138هـ وما تلاها، وذكرته روايات أهل الأندلس (ابن حيان، وابن عبد ربه، وابن الخطيب وغيرهم) باعتباره عنصرًا فاعلًا في قيام الدولة الجديدة. ومع ذلك، فإن حضور بدر في هذه المصادر يظل محدودًا بنطاق دوره الحقيقي: فهو يظهر في سياق رواية هروب عبد الرحمن الداخل وبناء الدولة ثم في بضعة أحداث مفصلية (كالبعثات العسكرية أو الفتن الداخلية)، وليس كشخصية مستقلة لها فصل طويل. أي إن المؤرخين اهتموا ببدر بوصفه معاونًا للأمير لا كقائد صاحب سلطان ذاتي؛ فلم ينفرد بصنع القرار بعيدًا عن ظل عبد الرحمن الداخل. وهذا أمر متوقع، لأن المؤلفات التاريخية ركزت على الأمراء والولاة كأبطال الرواية التاريخية، فيما جاءت أدوار المساعدين أمثال بدر في المرتبة الثانية من حيث التفصيل، فهي رواية ل”رجل الظل”، وغالبا ما لا تنصف الروايات من كانوا في الظل، مهما كانت منجزاتهم، فكان على بدر أن ينتظر قرونا حتى يدرس تاريخه أديب أريب كالدكتور سيف، وينصفه ويعيد له وزنه واعتباره.
    أما في الذاكرة التاريخية الإسلامية الأوسع، فيمكن القول إن بدر اً بقي شخصية معروفة ولكنها ليست من الشهرة بمكان كبار القادة. يعرفه المتخصصون بتاريخ الأندلس الإسلامي ودور الأمويين هناك، ويُذكر أحيانًا في الكتب والأبحاث الحديثة كـ“المولى الأمين الذي هيّأ دخول صقر قريش إلى الأندلس”. بل وتلمح بعض الروايات إلى أن بدرا قد يكون هو أول من أطلق لقب “الداخل” نفسه على عبد الرحمن بن معاوية لمَّا نجح في دخول الأندلس دون دعم من خلافة المشرق. ومع ذلك، لم يصبح بدر رمزًا تاريخيًا متداولًا على نطاق شعبي واسع في التراث الإسلامي كما هو حال عبد الرحمن الداخل أو غيره من كبار الحكام، ربما لأن نهايته كانت مبكرة ومؤسفة.
بقي أن نذكر أن اقتران شخصية عظيمة كشخصية بدر بشخصية عظيمة أخرى، كالداخل يجعل من الصعب على كُتَّاب الدراما والروايات التاريخية أن يوازنوا بين إبراز دور هذا ودور ذاك، فغالبا ما تضيع منجزات رجال الظل في حضور شموس الشخصيات العظيمة التي بنت مجدا مؤثلا دام لقرون، فأن تجد هذا التوازن في مسلسل “صقر قريش” فإن هذا مما يحسب لقدرات الدكتور سيف الفذة، لذلك وجدناه يصُوّر بدراً كشخصية بطولية ترافق البطل في كثير من الأحداث المفصلية، وتتخذ قرارات مصيرية. مثل هذه المعالجات الدرامية قرأَتْ ما بين السطور، ورأت في شخصية بدر شخصية فذة، ائتمنه الداخل على أخطر الأمور كالمراسلات بينه وبين أنصاره، وكدراسة الوضع السياسي في الأندلس قبل دخولها، وكوأد الفتن، وبالتالي فإن إنصافها إنصاف للداخل نفسه، وإبراز عظمتها إبراز لعظمة الداخل في حسن اختيار رجاله، لا لمجرد غرض الحبكة وإضفاء التشويق، لكن الوقائع التاريخية الموثقة تنسب لعبد الرحمن نفسه حنكة سياسية ودهاء كبيرًا في تأسيس الإمارة.
خلاصة القول: تجمع روايات ابن خلدون والمقري وابن الأثير وابن حيان وغيرهم على أن بدراً شخصية تاريخية حقيقية، كان له حضور فعلي مؤثر في بدايات الدولة الأموية بالأندلس بوصفه خادمًا مخلصًا تحول إلى قائد جيش ومسؤول مقرب. نسبوا إليه أعمالًا حاسمة مثل الاستطلاع وكسب الأنصار وقيادة المعارك. وفي الوقت نفسه، توثق تلك المصادر نهايته حين أبعده سيده جزاء تجاوز حدود موقعه.
المصادر: اعتمدت هذه الدراسة على نصوص من كتب التاريخ الأصلية، ومنها الكامل في التاريخ لابن الأثير ، وتاريخ ابن خلدون، وروايات مؤرخي الأندلس كابن حيان (المقتبس) وابن الخطيب ، بالإضافة إلى سرد الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وكلها تشير إلى بدر وتوضح دوره بشكل موثق بعيدًا عن التخييل. كما تم الاستشهاد برسائل مسجلة في المصادر تبين خلاف بدر مع عبد الرحمن الداخل ونهايته ، بغية تقديم صورة متكاملة تستند إلى وقائع التاريخ لا إلى التصورات الحديثة. بهذه الطريقة أمكن التمييز بين الحقائق التاريخية ودسائس الدراما المعاصرة في تصوير شخصية بدر مولى صقر قريش.
عمان وكندا