الدكتور طارق ليساوي: المواطن “فلسطين” والانتقال إلى حافة الفوضى.

الدكتور طارق ليساوي
تناولت في مقال “قاطرة التنمية في المغرب بين مطالب مسيرة “أيت بوكماز” و إنجازات حكومة أخنوش ..” مسيرة الأقدام ب “أيت بوكماز” و مطالبها العادلة و المشروعة ، و من المفارقات أن المسيرة جاءت يومين بعد تقديم السيد عزيز أخنوش رئيس الحكومة لتقرير حول وضعية الصحة الوطنية بالمغرب، و حديثه عن الدولة الاجتماعية و عن الإنجازات التي حققتها حكومته ، فالرجل يتحدث عن مغرب أخر ، ربما مغرب الرباط و المدن “المونديالية “، مع العلم أن هذه المدن بدورها تعاني مشاكل بنيوية خطيرة ، و عجز تنموي واضح و إختيارات تنموية تركز على الهامشي و تهمل الضروري ..
النفق المسدود
و تحليلنا هذا غايته توضيح أن السياسات المتبعة تدفع البلاد بالتدريج نحو النفق المسدود…فمن غير المعقول و المقبول أن تنفق أموال دافعي الضرائب المغاربة بسخاء في قطاعات و مجالات هامشية و ثانوية جدا، في مقابل بُخل و تقشف شديد في الإنفاق على سلع عمومية ذات أهمية بالغة في توسيع خيارات الناس و الرفع من مستواهم المعيشي كالتعليم و الصحة ..إن المشهد السياسي العام في مغرب 2025 لا يحفز على التفاؤل، فبلغة المؤشرات يمكن القول أن البلاد لا تراوح مكانها ، فالخدمات العمومية من صحة و تعليم تتدهور يوما بعد الأخر ، و الوضع المعيشي أصبح لا يطاق، بفعل التضخم الشديد الذي غطى أغلب السلع الأساسية التي يستهلكها غالبية المغاربة و بخاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة ..
التهوين و التخدير
فتوسع الاحتجاجات أفقيا و عموديا ، و كميا و نوعيا يدعو إلى التنبه، و التعامل معها بجدية و مسؤولية، بعيدا عن منطق التهوين و التخدير ، فالأزمة خانقة و الوضع العام جد مختنق و قابل للانفجار في أي وقت ..و لم تكد مسيرة الأقدام الوصول إلى وجهتها ، حتى إنتشر مقطع فيديو على وسائط التواصل الاجتماعي، يظهر فيه مواطن يحتج من فوق خزان مائي، و رجل إطفاء يحاول الصعود عنده ، و عندما صعد بدأ يتعارك معه ..
المواطن “فلسطين”
و خلف هذا المقطع قصة درامية كان بالإمكان تجنبها بأيسر السبل ، فمنذ عشرة أيام، دخل شاب أربعيني يُدعى بوعبيد، والمعروف بلقب “فلسطين”-و لك أيها القارئ أن تتخيل و تتفكر في دلالة هذا اللقب !! ، في اعتصام مفتوح فوق خزان مائي في جماعة أولاد يوسف التابعة لإقليم بني ملال.. صعد “بوعبيد” إلى قمة الخزان صباح 08-07-2025 معلنًا دخوله في اعتصام صامت، متحديًا حرارة الشمس المرتفعة والظروف المناخية الصعبة. و رفض النزول من فوق الخزان إلى حين فتح تحقيق نزيه وشفاف في وفاة والده، الذي وافته المنية في ظروف يصفها بـ ”الغامضة” عقب إحالته على التقاعد من عمله..وعلى الرغم من محاولات السلطات المحلية وبعض المسؤولين في المنطقة لثنيه عن موقفه، يصر بوعبيد على التمسك بمكانه، مكرسًا وقوفه فوق الخزان بدون طعام أو ماء، مما يعكس إصراره العميق على تحقيق مطلبه. هذا السلوك الاحتجاجي يعكس حالة من الألم والإحباط التي يعاني منها عدد من المواطنين في مواجهة قضايا اجتماعية وقانونية غير محلولة.
الصعود إلى الهاوية
قصة بوعبيد نموذج حي لعدم فعالية المؤسسات المحلية، و عجزها عن إدارة الأزمات، فهذه الأزمة الشخصية ولدت متتالية من الأزمات منها تهديد حياة السيد “بوعبيد” أولا عبر سلك أسلوب تدخل غير مهني ، و تعريض رجال الوقاية المدنية للخطر ، فمن هي الجهة التي أمرت بصعود عنصر واحد فقط من الوقاية المدنية إلى الخزان في غياب وسائل السلامة، وتعريض حياته للخطر؟ و بالفعل فقد تعرض أحدهم لإصابات نتيجة سقوطه من أعلى الخزان ، و الحمد لله لازال على قيد الحياة و نتمنى له الشفاء العاجل ..
رأس الخيط
ألا ينبغي فتح تحقيق لتحديد الجهات المسؤولية عن هذه المأساة الإنسانية ، و رأس الخيط في الأزمة من المسؤول عن تجاهل مطالب اجتماعية و حقوقية لمواطن مكلوم ، فقد أقدم السيد بوعبيد على رمي نفسه من أعلى الخزان، واضعا حبلا حول عنقه، ليتم نقله في حالة حرجة إلى المستشفى الجهوي ببني ملال، حيث لا يزال يرقد بقسم العناية المركزة..نتمنى ان يتم إنقاذ حياته و إنصافه ..
خلاصات محورية
اهم خلاصة من هذا الحادثة و ما سبقه، تنامي شعور لدى المواطنات والمواطنين بعدم الثقة في المؤسسات المحلية، نتيجة غياب الوساطة الجادة واستمرار منطق الإقصاء والتهميش، كما كشف عن تطور وسائل و أدوات الإحتجاج عبر صعود منشأت حيوية مثل الخزانات المائية والمراكز الكهربائية التي تفتقر لأبسط وسائل الحماية، مما تفاديًا يحولها إلى نقاط احتجاج أو مواقع تهدد السلامة العامة…كما أن أدوات التدخل تفتقد للمهنية و تفتقر للتجهيزات الكافية والحديثة التي تمكن عناصر الوقاية المدنية من التدخل الأمن الذي يحمي المواطن و سلامته و يضمن سلامة المتدخلين، وتحصينهم بوسائل حماية أثناء تدخلاتهم الميدانية..
النموذج المغربي
فهذه الحادثة ليست حدثًا عرضيًا، بل نتاج طبيعي لسياسات التهميش وضعف الحكامة، وسيطرة المقاربة الأمنية الضيقة بدل تغليب المنطق الحقوقي و التنموي الشامل..ومن غرائب الأمور، أن الدولة التي تهمل ملايين المواطنين و تضيق عليهم في معاشهم بل تدفع بهم إلى تبني إختيارات صعبة ، هي نفسها تعلن حالة الاستنفار لإنجاح تظاهرات فنية أو رياضية تكلف ملايير الدراهم من المال العمومي ..
العنصر الغائب في النموذج المغربي تفشي دائرة الظلم بمختلف أشكاله و غياب مفرط في العدل، فقضية العدل ليست قضية اختيارية أو من فضائل الأعمال، إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلا به، ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره، وبه يكتمل صلاح العباد والبلاد، واندثاره ينذر بخراب العمران قال تعالى:{وتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف الآية 59)، وأهلك الحرث والنسل، وخالف فطرة الله التي فطر عليها الناس ، وأغضب الله عز وجل الذي قال فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”، ولذلك قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء الآية 47). والبشرية طيلة مسيرتها لم تعرف شيئا أبعث للسعادة والازدهار منه، كما لم يعرفوا شيئا أبعث للشقاء والدمار من الظلم، لذلك فوجود العدل هو الشهادة الحقة على سلامة المجتمع أو فساده، وهو الضمانة لتآلف القلوب وتقارب الأمم، وتعايش الأجناس، وتواصل الشعوب لأنه يزيل الأحقاد، والعدل اسم من أسماء الله تعالى، وصفة من صفاته، وميزانه في كونه قال تعالى : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمان الآية 7)
أم المقاصد
لكل ذلك ركز الإسلام على العدل وجعله قضية مركزية، فلا يوجد ركن في الإسلام إلا والعدل فيه مطلب، سواء ارتبط بالفرد أو الجماعة أو الأمة، أو ارتبط بالعقيدة أو المعاملة أو العبادة.. بل إن الإسلام جعله أم المقاصد التي يقصد إليها الشرع، و هذا ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، إذ قال : ” إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها” (ج. 3، ص. 5).
الذل و الإهانة
الواقع أن المغرب و المغاربة يعيشون ضحية نموذج تنموي أوليغارشي ذو نزعة داروينية ، فالقضية ليست نذرة الموارد و إنما شعور متراكم بالإهانة و الذل و التفقير الممنهج لشرائح إجتماعية و اسعة، و إحساس متنامي بغياب أدنى مقومات دولة الحق و القانون .. فالمغرب يشهد جريمة مكتملة الأركان في حق البلاد و مستقبلها و أمنها الاجتماعي و الاقتصادي، فهناك نهب ممنهج لخيرات البلاد لفائدة قلة قليلة من المحظوظين الذين استفادوا من الحكم أو القرب منه، وتطبيق لسياسات اقتصادية واجتماعية غير شعبية و لا تخدم إلا النخبة المحظوظة.
مفتاح الخلاص
و الخطير في الوضع المغربي أن لا أحد من الهيئات السياسية الرسمية و غير الرسمية، تمتلك امتدادا جماهيريا يمكنها من السيطرة على حركة الرأي العام وإقناع الأغلبية الصامتة وتأطير شريحة واسعة من الشباب المثقف و الواعي الرافض لقواعد اللعبة السياسية القائمة. فسياسة صم الأذان والخطابات الرنانة لم تعد تجدي فالاختلالات البنيوية في المغرب تقتضي قيادة رشيدة وقرارات حاسمة تصب بداية في إقرار العدالة الاجتماعية و وقف نزيف الأموال التي تنهب من خيرات الشعب. و ترشيد الإدارة العمومية وضبط سلوك أجهزة الأمن و الإدارة الترابية و إلزامها باحترام كرامة و حقوق المواطن ، هذا إلى جاني إصلاح سياسي حقيقي مبني على فصل واضح للسلط و فصل صارم بين ممارسة السلطان و التجارة، و إقرار مبدأ المساءلة، مع جعل جميع مناصب المسؤولية في الدولة خاضعة للانتخاب الحر و النزيه لا لتعيين.
فاللامبالاة و الفرعونية السياسية و الاستهتار بمصير الفقراء و الطبقات التي طحنتها السياسات الاقتصادية والاجتماعية العشوائية ، يدفع بإتجاه انتفاضات شعبية يصعب التحكم في مخرجاتها ، و للذكرى فاستشهاد المواطن التونسي البوعزيزي سنة 2011 فجر ثورات عربية أطاحت بنظم حكم ما كانت تعتقد يوما أنها ستكون خارج دائرة الحكم… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
كاتب و أكاديمي مغربي.