د. جمال الهاشمي: المخاوف من الهيمنة الأمريكية في سياق التكامل الأوروبي: الشرق الأوسط ما بين التبعية والتعاون.

د. جمال الهاشمي
يعد التاريخ وفق منهجيتنا الأساس النفسي والعقدي والفكري والعقدي للذاكرة ولكنها تنقسم وفق هذه الرؤية المنهجية إلى ذاكرة ممكنة ومقيدة ومنكفئة وكل ذاكرة لها أصولها المنهجية التي تنظم النظرية في الواقع على ثلاث مستويات؛ السلوك الفردي و السلوك السياسي والسلوك المجتمعي حيث يعمل السلوك الأول ضمن إرهاصات تكون شبه معدومة ولكنها ليست مستحيلة ويعتمد على مدى قوة الفرد ومكانته وبقياس هذه القوة يمكن تحديد الابتعاث بفترة زمنية بينما السياسي أكثر تأثيرا ويليه المجتمع فإذا حدث تكامل بينهما اختصرت المسافات الزمنية بل قد تتلاشى في إطار التكامل حيث يتماهى الواقع في المستقبل وهذا المقياس التجريبي هو الذي حددنا به حالات التحول في دول شرق آسيا .
وهنا وبحسب العنوان أعلاه نقف على الذاكرة الأصولية لأمريكا باعتبار أصوليتها متماهية في التشكيل الاستيطاني للولايات المتحدة وهذه هي الأصل أما أصوليتها التحولية فترتبط بالأصولية الأوروبية وإذا اعتبرنا جنسيتهم من أولئك المهاجرين سنشير حينها إلى الذكرة التاريخية للولايات المتحدة، وهذه الذاكرة التاريخية ستبقى مرجعية مثالية وليست حقيقية لأن من شروط الذاكرة تحديد ميلاد الفكرة بجغرافيتها بدون هذا الميلاد يكون التفكير الاستراتيجي مضطربا ومتمحورا حول الذات وهذه هي السمة الرئيسة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، إذ كان تأسست أصوليته على أساس نفسية المهاجر الذي يبحث عن وطن يقيم عليه العدالة أو يتعايش مع الآخر بناء على احتياجاته ولذلك عمدت أمريكا على استئصال السكان الأصليين حتى لا تعيد الذاكرة تأسيس وجودهم وابتعاث المقاومة للتحرر من المهاجرين وهي فكرة استباقية كان الغاية منها تملك الأرض وبناء مرجعية سكانية جديدة ولهذا يعد التطرف الوطني من أهم سمات تكوين الشخصية ومن ثم فإن المسار الأمريكي الذي بدأ بتحالفات مع الهنود الحمر واتفاقيات مصالحة انتهت بحروب استئصالية ممنهجة فككت الهنود وأعادت تدوير أصولية الجغرافيا لتكون أمريكا أول أصولية استيطانية في العالم الحديث .
وبنفس النسق لن تقبل إسرائيل بوجود من ينافسها أصولية التاريخ الجغرافي في بلاد الشام وليس في فلسطين فحسب.
فالإشكالية معقدة لا يمكن حلها من خلال أدوات الدبلوماسية الناعمة ولا الدينية ولا المدنية، ولا قيمة لأدوات الفكر الإنساني في حل إشكالية في أصولها متطرفة مبنية على الفكر العقدي والتاريخي وليس الإنساني أو العدلي، لأنه الصراع على الأرض قائم على أساس البقاء في مقابل الاستئصال أو التهجير، ولكن متى قد تكون الدبلوماسية الناعمة مهمة؟
هنا نقول أن أهميتها تكون إذا تساوت المخاطر مع أن العقيدة اليهودية تؤمن بالتضحية بنصف الشعب ليعيش الشعب الآخر فهي بهذه الرؤية عقيدة انتحارية وهذه العقيدة جاءت كردة فعل لمعاناة اليهودي في العالم الأوروبي وهي عقيدة هذا العرق دون بقية الأجناس اليهودية حيث تعد إسرائيل أخلاط عرقية كالولايات المتحدة تماما.
وقد تكون الدبلوماسية ذات أهمية في حالات العجز وغياب القدرة ، ولهذا لن تقبل إسرائيل بأي قوة دينية إسلامية في المنطقة تنافسها في السيطرة على المسجد الأقصى باعتباره شرعية مقدسة تستمد كل من إسرائيل والعرب منها القيم المقدسة وهو ما لا يمكن حله في اتفاقيات الديانات الإبراهيمية مهما بدت مثالية أو أنها رؤية حضارية وإنسانية و أخوية لأنه وبالعودة إلى الذاكرة الحضارية ليست أكثر من قناة للعبور وفلسفة للتبرير.
أما التحدي الثاني للوجود الإسرائيلي فهو وجود العرق العربي من الفينيقيين والأنباط والكنعانيين والأشوريين والبابليين وكلهم من عرقيات عربية أسسوا اقدم الحضارات في التاريخ ولا يعني أن بني إسرائيل ليس لهم وجودا في الأرض بل كان لهم وجودا باعتبارهم من أحفاد إبراهيم وهو الأصل الموحد لكل منهما على امتداد الشام والجزيرة العربية ومن ثم لم يكن الاختلاف بين الإسرائيليين والعرب اختلافا عرقيا وإنما بدأ الاختلاف مع التكوين العقائدي اليهودي والتي ونظرا لاختلاط بني إسرائيل ثقافيا بالأمم والحضارات الأسيوية والعربية والأوروبية تشكلت طوائف عقدية هجينة منها العقيدة اليهودية وعقيدة الكبالاة وعقيدة الألفية وجميعها درست التوراة وكتبته من مداخل عقلية ونفسية وحضارية وليس بناء على أصولية اللغة التوراتية وهو ما أدى إلى خيانة الترجمة.
ويعد اصل بني إسرائيل هو اللون الآدمي والأسمر وليس اللون الأبيض حيث يعد قبائل بني النضير وقريظة وقينقاع من بني إسرائيل عرقا ومن القبائل الإثنى عشر كما يعد نصارى بين المقدس من هذا العرق فقط وهم بذلك قلة وهو ما يشير إليه التوراة مقارنة ببني إشماعيل. أما غالبية نصارى الشام فهم الغساسنة والفينيقيين أي أنهم عرب ولا علاقة لهم ببني إسرائيل لأنه حدث تحولات ربانية على بني إسرائيل وأن الله إذا لم يبتر من الظالمين أضعفهم، وقياسا على ذلك أهل قبائل عاد وثمود وأبقى منهم بقية إلى زمن ثم انقطع واستبقى جرهم الأصغر من جرهم الأكبر لأداء وظيفة تاريخية منهجية .
هنا نجد أن هناك تقارب عرقي بين المستوطنين اليهود من غير العرب وبني إسرائيل في فلسطين وبين المستوطنين المهاجرين من أوروبا إلى أمريكا ومقاربة في التفكير والتاريخ والتأصيل الجغرافي، حيث يعود معظم يهود الدولة الإسرائيلية إلى العرق التركي والهندو أوروبي وهي نفس التشكيلة التي كون أمريكا المعاصرة.
وبالعودة إلى الذكرة الأساسية للولايات المتحدة والتي تشكلت منذ انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية إذ استطاعت واشنطن فرض نظام دولي أحادي القطب بفضل قوتها العسكرية ومظلتها النووية وهيمنتها على المنظومة المالية العالمية. غير أن العقود الأخيرة شهدت تحولات جيواستراتيجية عميقة مع عودة أطراف دولية كروسيا وصعود قوى اقتصادية كالصين والأهم بالنسبة لواشنطن: المحاولات الأوروبية المستمرة لبناء اتحاد متماسك قادر على منافستها استراتيجيا في مناطق النفوذ الحيوي.
ويعد الشرق الأوسط أحد أبرز هذه المناطق والذي يشكل منطقة ارتطام تاريخية وصراع عرقي عقدي جيني معقد بين الحضارات قديما و بين القوى الكبرى في عالمنا المعاصر لا سيما وأن القرب الجغرافي لأوروبا وتشابك المصالح الاقتصادية والديموغرافية والتاريخية يعزز من هذا التداخل ويجعل من هذا الإقليم مساحة حرجة للتجاذب بين المشروع الأمريكي ومشروع الاندماج الأوروبي وهنا يمكننا الوقوف باقتضاب إلى العوامل التي تدفع بهذه المنطقة لتشكيل المحاور الدولية بين أمريكا كقطب يشهد نهاية وجوده لأسباب منها تراجع قوته الدبلوماسية الناعمة وتأثيره الديمقراطي وتسيسه لحقوق الإنسان وتراجع القوة الثقافية وانقسامها على المستوى الوطني، بالإضافة إلى قلقه الاقتصادي الذي أزاح عنه هذه العامل المؤثر وكذلك ضعف قدراته السوقية مقابل صعود الصين وانشغاله بالقوة العسكرية لإعادة فرض وجوده وقيادته الإقليمية والعالمية من خلالها، وهذا التوجه لا شك أنه سيجد مقاومة استنزافية لقدراته وممانعة دولية مما يؤثر على قدراه ليس عالميا فحسب وإنما أيضا على المستوى الإقليمي لا سيما ونحن نشاهد ممانعة من قبل دول الجوار الإقليمي؛ كندا والبرازيل وفنزويلا وغيرها وهنا نضع تصورا ضمن هذه المحاور لندرس التوجه الأمريكي ومكانة الشرق الأوسط.
أولا: القراءة الأمريكية لأوروبا كخطر جيواستراتيجي:
من خلال مراجعة ما ورد في كتاب الخليج العربي بين إشكاليات التحولات الحضارية وصناعة العمق الاستراتيجي تتضح إحدى أهم المخاوف الجيوبوليتيكية الأمريكية وهو أن تتحول أوروبا الموحدة إلى قطب قادر على منافسة واشنطن لا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تعدها أمريكا امتدادا طبيعيا لأمنها القومي الموسع.
وهذه المخاوف لا تنبع فقط من الإمكانات الاقتصادية الأوروبية وإنما من أمرين أساسيين:
القرب الجغرافي لأوروبا من الشرق الأوسط ما يمنحها مرونة لوجستية في النفاذ إلى المنطقة.
الروابط التاريخية والاستعمارية والثقافية التي تمنح أوروبا قدرة على ممارسة نفوذ ناعم يصعب على أمريكا موازنته.
وقد أشار هنري كيسنجر إلى هذا التهديد في تحليلاته إذ يؤكد أن أي كيان أوروبي موحد سيشكل خطرا أكبر من الاتحاد السوفييتي سابقا لأنه لا يهدد أمريكا عسكريا بل ينافسها في إدارة النظام الدولي وهو الأقرب تداخلا وتكاملا مع منطقة الشرق الأوسط.
ثانيا: الصين كفاعل جيواستراتيجي موازن ومحاصر.
تمثل الصين في المشهد الجيوبوليتيكي المعقد التهديد البنوي الأكبر للهيمنة الأمريكية؛ اقتصاديا وتكنولوجيا واستراتيجيا وهذا ما يدفع واشنطن إلى استخدام الشرق الأوسط كساحة احتواء مزدوجة بهدف:
منع التمدد الصيني في الشرق الأوسط:
تتعمد واشنطن عرقلة مبادرات بكين خاصة مبادرة الحزام والطريق وتضغط على حلفائها لمنع منح الصين امتيازات لوجستية واستثمارية في موانئ ومشاريع الطاقة حيث نجد أكثر ما يخيف الولايات المتحدة أن تتحول موارد إيران إلى قوة صينية في ظل بقاء النظام والتحالف القائم ، وتعبر الضربات الأمريكية الإسرائيلية على إيران عن حجم هذه المخاوف حيث تعد مصدر تهديد لإسرائيل وهذه مصلحة إسرائيلية بينما هي تهدد أمريكا بوجود الصين وتأسيس قاعدة قد تؤثر ليس على مصالح أمريكا في ايران وإنما أيضا مصالحها في منطقة الشرق الأوسط لا سيما وان الصين اليوم تحتل القاعدة الأمريكية في أفغانستان وهو ما يعطي للصين ميزة جيوسياسية في الوصول إلى موارد بحر قزوين ودول شرق أوروبا ولكن تبقى منطقة الشرق الأوسط الأكثر أهمية في هذا العصر فمن يهمين عليها يهمين على العالم .
تدفع إسرائيل لتقييد انخراط الصين في البنية التحتية الإسرائيلية الحساسة.
لا شك أن إسرائيل له علاقة مع الصين التي تلتزم الحياد ومن ثم فإن توجه أمريكا في عهد بايدن في التضييق على إسرائيل بالسلاح قد دفع الأخيرة نحو التوجه إلى الصين، ولكن مع ترامب عادت إسرائيل مجددا ولكن بعقيدة الألفية الانجيلكانية والتي تعد من أهم مقومات التفكير السياسي لكلا البلدين مع اختلاف بينهما في المقاصد إلا ان الوسائل موحدة لضمان تحقيق النتائج الحتمية.
استنزاف الصين عبر الحلفاء:
تسعى أمريكا لإغراق الصين بجبهات متزامنة: تايوان و بحر الصين الجنوبي و جنوب شرق آسيا لضمان إخراجها عن منطقة الشرق الأوسط الذي يعزو له تشكيل النظام الدولي بما يمتلكه من موقع حيوي وموارد طبيعية.
الضغط على أوروبا لإنهاء الشراكات الصناعية والتكنولوجية مع الصين.
تدرك أمريكا أن خروج أوروبا إلى الصين سيزرع من إنهاء هيمنتها العالمية وقطبيتها الأحادية وتعد الرسوم أحد أدوات الضغط على أوروبا ومن ثم يجتمع لأمريكا الخوف من استقلالية أوروبا وهو ما يدفعها نحو تفكيكها ابتداء بإخراج بريطانيا عن الاتحاد ثم دعمها لليمين القومي المتطرف كأحد الأدوات التي يمكنها أن يجدد الشعارات القومية من إفشال الاتحاد الأوروبي والثاني هو أن التكامل مع الصين قد يؤدي عمليا إلى تراجع النفوذ الأمريكي .
تعطيل محور بكين–موسكو:
تلعب إسرائيل دورا استخباريا ولوجستيا لصالح أمريكا لمنع التمركز الصيني–الروسي في الشرق الأوسط خصوصا في إيران وسوريا وهو ما يؤكد على أهمية التحالف الاستراتيجي على مستويين؛ عقدي وعسكري.
ثالثا: الشرق الأوسط كمنطقة ارتطام استراتيجية:
بحسب المدرسة الجيوبوليتيكية التي يمثلها مارشال فإن الشرق الأوسط ليس ساحة على الهامش وإنما هي بؤرة تصادم عضوي؛ فأوروبا تنظر إليه كمجال حيوي طبيعي فيما تسعى أمريكا لتحييده كساحة تبعية وتستثمر إسرائيل في تفتيته لضمان تفوقها النوعي وضمان تحويل الموارد العربية إليها إلا أن هذه الموارد تحتاج إلى جغرافيا لضمان بناء دولة إسرائيلية حضارية وبهذه الجغرافيا الصغيرة ستبقى قاعدة عسكرية متقدمة لأمريكا أو للغرب وتؤدي دور وظيفي على غرار دولة الخزر مع بيزنطة، وهو ما لا تريده لا سيما بعد انهيار دولتها الأولى.
إن اعتمادها على القوة المفرطة يؤكد استمرارها في استثمار أمريكا بعقيدة الألفية للسيطرة على كل فلسطين وسينا وسوريا ولبنان وجزء من العراق وجزء من السعودية ومن ثم استبدال القواعد الأمريكية في المنطقة بقواعد إسرائيلية ولا يمكن أن تجد الدعم ما لم تهيمن عقيدة الألفية الانجيلكانية على الدول الأوروبية وأمريكا حيث تعد هذه بالنسبة لها فرصة تاريخية.
رابعا: دور إسرائيل كقوة وظيفية واستنزافية:
تلعب إسرائيل دورا ثلاثي الأبعاد:
استنزاف القوى الإقليمية (تركيا، إيران، مصر، السعودية) عبر الحروب بالوكالة.
إضعاف دول الجوار الكبرى (مصر، إيران، تركيا، السعودية) عبر دعم الانقسامات الطائفية والعرقية.
إبقاء العالم العربي في حالة كنتونات سياسية متناحرة لضمان تفوقها التقني والاستخباراتي والنووي.
استثمار المعتقدات الألفية المسيحية داخل النخب الأمريكية والأوروبية، لتجعل من نفسها رأس المشروع الديني–السياسي الغربي.
ومن هنا ندرك أن نموذج ترامب امتداد استراتيجي لعقيدة ترى في إسرائيل أداة دينية وسياسية للهيمنة.
إضعاف التنظيمات المناوئة من خلال خلق كيانات موازية وشيطنة المقاومة وتفريغ بيئاتها الاجتماعية وتحريفها عن أصولها من الصراع مع إسرائيل إلى الصراع مع الأنظمة العربية وخصوصا الدول المتحالفة مع إسرائيل، لا سيما وأنها تدرك أنها لن تستطيع أن تقضي على معتقدات المقاومة ولكن مع استمرار الضغط قد يدفع بالمعتقدات المقاومة وكذلك الأيدولوجيات القومية العربية لخوض معارك جديدة مع النظم السياسية القائمة مما يساهم في تفكيك وحدة الدولة القطرية بحسب نظرية برنارد لويس وقد يؤدي إلى صراع بين الدول القطرية مما يؤدي إلى إضعافها وتفكيكها.
توظيف الانقسامات الغربية عبر اللوبيات الصهيونية داخل أمريكا وأوروبا لاستدامة التفوق الإسرائيلي النوعي في الإقليم.
وتسعى إسرائيل مع انشغال أمريكا المحتمل بأزماتها الداخلية؛ الاستقطاب السياسي، النزعات الانفصالية، التفكك الفيدرالي) لإثبات وجودها كفاعل إقليمي-دولي مستقل يعيد دورها كربيبة استعمارية لأوروبا خاصة في ظل ضبابية الالتزام الأمريكي طويل الأمد.
خامسا: مدى نجاح أمريكا في السيطرة على أوروبا:
النجاحات:
فرض التبعية الدفاعية عبر الناتو.
التحكم في تدفقات الطاقة بعد أزمة أوكرانيا.
عسكرة القرار الأوروبي وشيطنه أي تقارب مع روسيا أو الصين.
الإخفاقات:
عدم القدرة على كبح مساعي فرنسا وألمانيا لإقامة سياسات دفاعية واستراتيجية مستقلة.
تنامي النزعة القومية داخل أوروبا نفسها الرافضة للتبعية المطلقة.
سادسا: موقع الاتحاد الأوروبي:
رغم محاولات باريس وبرلين لاستعادة دور مستقل إلا أن الولايات المتحدة تحاصر أوروبا عبر الناتو والتصنيع الحربي على حدود روسيا و تجهض محاولات اندماج الطاقة الأوروبية بالشرق الأوسط عبر تفجير خطوط التوريد-نورد ستريم على سبيل المثال و تفرض عليها أدوار خلفية لا تسمح لها باتخاذ قرار مستقل في مجلس الأمن أو ملفات الشرق الأوسط وبهذه الآلية تعاد أوروبا إلى موقعها بعد الحرب العالمية الثانية عبارة عن ساحة نفوذ أمريكي بصيغة ناعمة دون امتلاك القدرة على لعب دور قطب ثالث.
كما تظهر الوقائع على الرغم من محاولات الاتحاد الأوروبي بلورة استراتيجية مستقلة هشاشة في الصياغة والتنفيذ حيث تواجهه عدة تحديات منها:
مشروع السيادة الرقمية.
الاعتماد على الذات في الطاقة والغاز.
إحياء العلاقة مع جنوب المتوسط (تونس، الجزائر، مصر)
وتواجه هذا الاتحاد عدة تحديات منها:
الانقسام الداخلي (شرق أوروبا ضد غربها)
ضعف الإرادة الموحدة في القضايا الجيوبوليتيكية.
غياب ذراع عسكري مستقل عن الناتو.
سابعا: مستقبل الشرق الأوسط بين الهيمنة والشراكة:
يشهد الشرق الأوسط مع الوقت انكفاء قطري وطغيان المصالح القطرية على أية مصالح إقليمية عامة أو قومية وهو يساهم في تمكين النفوذ الإسرائيلي والأمريكي إلا أن وجود الصين وروسيا وانقسام دول العالم العربي يشكل تحديا مناويا لهذا الوجود ومع هذا فإن قدرة روسيا والصين على تشكيل قاعدة عسكرية ونفوذ على إيران سيعطي لهما نفوذا إقليميا متقدما.
أما إذا اندمجت مصر في مشروع الشرق الأوسط فقد يؤدي إلى إعادة نظام القطبية ومن ثم استمرار الصراع بين الأقطاب بالوكالة مما قد يضعف وجود أمريكا في المنطقة وتحولا في السياسة الإسرائيلية بحسب مصالحها القومية وضمان وجودها .
ومع انهيار نظام بشار الأسد فتحت نافذة استراتيجية نادرة لإعادة هيكلة النفوذ في المشرق العربي ذلك أنه لم يكن هذا السقوط عسكريا فحسب بقدر ما كان سقوطا رمزيا لنظام تمحورت حوله توازنات الحرب الباردة الإقليمية لعقدين من الزمن ومن هنا يبدأ الفرز الجيواستراتيجي بين ثلاث قوى رئيسة:
أمريكا التي تسعى لفرض هيمنتها عبر إسرائيل ووكلائها.
أوروبا التي تحاول استعادة دورها التاريخي في المشرق العربي.
فشل المحاور العربية التي بدأت في التشكل خلال ثورات الربيع العربي وبعده.
ومن هنا لم تتمكن منطقة الشرق الأوسط لتكون منطقة تغيير في العالم بل ظلت كنقطة ارتطام مركزي بين القوى الكبرى منذ نشأت الاستعمار الغربي إلا أنها مع 2024 تغير شكل هذا الارتطام من خلال التشكيلات التالية:
التشكيلة الأولى:
الفاعل الدولي؛ الولايات المتحدة
أدوات التدخل: إسرائيل + العقيدة الألفية + التفكيك الممنهج للدول.
الهدف: الإبقاء على الشرق الأوسط كساحة غير قابلة للتوحد.
التشكيلة الثانية:
الفاعل الدولي: الاتحاد الأوروبي
أدوات التدخل: المساعدات + البعثات التنموية + الرهان على السعودية ومصر
الهدف: محاولة خلق شراكة مرنة لكن دون مشروع عسكري مستقل.
التشكيلة الثالثة:
الفاعل الدولي؛ الصين وروسيا
أدوات التدخل: عقود طاقة + سلاح + استثمارات بنى تحتية
الهدف: توسيع النفوذ عبر الفجوات التي تتركها أمريكا ولكن بحذر
ومهما اختلفت التشكيلات فإن الشرق الأوسط يظل ساحة استنزاف للقوى لا منطقة حسم و نفوذ.
وهذا المحور مهما وضروريا لأسباب منها لا يمكن النجاة بغيره من أي تحديات وهي فرصة ما تزال قائمة لصناع القرار وشعوب المنطقة وسنبرز أهم نقاط القوة لا يمكن أن تتحقق إلا بتغيير العقلية القائمة بعقلية أكثر مسؤولية أو من خلال الشعوب بآلية أخرى.
وهنا يظهر لنا أن تركيا تتميز بنقاط قوة من خلال جيش قوي و مشروع أيديولوجي متماسك و علاقات قوية مع آسيا وفي المقابل فإن حدود التأثير ضعيفة بسبب محاصرة الناتو علاقاتها الايدلوجية المتوترة مع الأنظمة العربية والإسلامية .
بينما تتميز السعودية بنقاط أخرى ممثلة بسيولة مالية و موقع ديني و حاضنة دولية
إلا أن حدود التأثير غائبة بسبب غياب المشروع السياسي المستقل و تبعيتها الأمنية بالإضافة إلى غياب مفهوم الإقليمي الجيواستراتيجي المتكون من السعودية واليمن ومجلس التعاون الخليجي.
وبالنسبة لمصر فإنها تتميز بثقل سكاني وموقع محوري وتاريخي دبلوماسي إلا أن حدود تأثيرها ضعيفا بسبب اقتصاد مأزوم وضعف القرار السيادي وتحديات أمنية.
أما إيران فتتميز بنفوذ أيديولوجي إقليمي تحول من عنصر قوة إلى عنصر ضعف مما جعل حدود تأثيرها سلبيا ترتب عليه عزلة دولية وفقدان العمق العربي وضعف الاقتصاد الوطني .
وإذا وسعنا الدائرة إلى اندونيسيا وماليزيا حيث يتميزان بإمكانات اقتصادية وديموغرافية إلا أن تأثيرها مغيبا بسبب البعد الجغرافي عن قضايا الأمة وابتعادهما عن المنظومة العربية والإسلامية .
وبالنسبة لباكستان فإن من مقوماتها امتلاك القوة النووية وجيش قوي وموقع استراتيجي وحدودها ضيقا بسبب الصراع مع الهند وأزمات بسبب تراكمات الحرب الأفغانية الروسية واقتصاد ضعيف وغياب رؤية استراتيجية وانفصالها عن عمقها العربي.
النتيجة: لا دولة واحدة تملك مجمل عناصر القياد و لكن تحالف سعودي–تركي–مصري قادر نظريا على تمثيل العالم الإسلامي إن وجد المشروع الجامع.
حيث تتطلب المرحلة اتخاذ القرار لا سيما وأن المشرق العربي اليوم أمام مفترق طرق جيوبوليتيكية فإما قطبية داخلية تبني شراكة مع القوى الدولية دون أن تخضع لها أو استمراره كمنطقة استنزاف تعزز مشاريع إسرائيل وأمريكا في التمزيق والتوظيف.
ولن يتحقق هذه التحالف مع لم يعاد تعريف مفهوم القيادة الإسلامية بما يتجاوز الصراعات المذهبية والعرقية من خلال.
1- صياغة مشروع نهضوي واقعي يوازن بين الاستقلال والبراغماتية.
2- استثمار لحظة ما بعد سقوط الأسد كفرصة نادرة لإعادة بناء المجال العربي الجنوبي–الشامي.
ومع أن العالم يشهد تحولات جيواستراتيجية فهل يستطيع العالم العربي الدخول برؤية استراتيجية ضمن هذا التحول بتعاون بين ثلاث دول حيث تشير المعطيات إلى تحقيق ذلك ضمن سياقات الوعي الكلي والشفافية ومواجهة الواقع بإمكانيات تحفظ الواقع أو تعيد تشكيله ووفقا للمكاسب والمصالح المشتركة.
وهنا نشير بمنهجية واقعية إلى إمكانية تأسيس محور إقليمي بين السعودية وتركيا ومصر من خلال المعطيات التالية.
1- السعودية تملأ فراغ دمشق وتعيد بناء مؤسسات الدولة عبر تمويل دولي.
2- تركيا تفعل نفوذها التاريخي في شمال سوريا مع توافق أمني جديد مع الرياض.
مصر تبدأ في التموضع كطرف ضامن للتوازن العربي و لكن دون طموح هيمنة.
إنه بداية تشكل قطبية داخلية غير معلنة قد تقود إلى:
1- تفكيك تدريجي للمحور الإيراني ومن ثم إعادة منظومة جديدة تماهي بين العروبي والإسلامي يعيد دمج إيران ضمن المشروع الإسلامي كمنظومة سياسية دون هيمنة طائفية أو عقدية أو تدخل في شؤون الدول.
إعادة صياغة العلاقة مع أوروبا والصين على أساس الشراكة لا التبعية.
احتواء النفوذ الإسرائيلي دون مواجهته المباشرة.
وفي حال تم إضعاف وتدمير القوى الإقليمية الكبرى من داخلها ستكون السيادة لإسرائيل باعتبارها ليس قطبا أحاديا في المنطقة بل وفاعلا دوليا ضمن أقطاب متعددة وهذا يتوقف على عامل الجغرافيا وقدرتها في السيطرة على منطقة الشام بحسب الخارطة التوراتية وهذا سيشكل تهديدا ليس على منطقة الشرق الأوسط فقط وإنما على المصالح الأوربية والأمريكية.
السيناريوهات:
التبعية الأمريكية المستمرة والتبعية لإسرائيل كقوة محلية وكيلة.
شراكة أوروبية ناشئة مرهونة بقدرة أوروبا على تحقيق الاستقلال الاستراتيجي.
نفوذ آسيوي صاعد مشروط بعدم نجاح أمريكا في محاصرة الصين وروسيا.
تشكل محور أولي يؤسس لانخراط العالم الإسلامي في إطار شراكة وحدوية جامعة على غرار الاتحاد الأوروبي.
تشير معادلة القوى المعاصرة إلى أن من لا يبني قطبه يصبح تابعا لقطب آخر وعلى الهامش منه لا في مكان الاعتراف .
خاتمة استراتيجية:
إن الصراع العالمي يعاد رسمه من جديد لتتحول منطقة الشرق الأوسط من ساحة صراع فقط إلى منصة استراتيجية لصياغة ملامح النظام العالمي القادم إذ يسعى كل فاعل لاستخدام الإقليم إما كدرع أو كمنصة انطلاق:
أمريكا تريد تحويله إلى قاعدة خلفية لضمان هيمنتها على أوروبا.
أوروبا تريده مجالا للشراكة والنفوذ الناعم.
الصين تراه حلقة محورية في مشروعها الأوراسي.
روسيا تعتبره خاصرتها الجنوبية ومجالها الحيوي.
إسرائيل تسعى لتكون الرابح الأكبر عبر تفتيت الجميع.
فهل يستطيع الإقليم أن يتحول من ساحة للاعبين الدوليين إلى لاعب استراتيجي؟ وهنا نؤكد أن ذلك يكون بإعادة هندسة الذات العربية والإسلامية بعيدا عن الوكالة والانقسام والمصالح القطرية في إطار وعي كلي جماعي يعيد قراءة التاريخ ليس للثقافة والسجالات الدبلوماسية والخطابات السياسية وإنما ليكون في إطار مشروع حضاري ورؤية استراتيجية تتقاسم فيها الدول أدوارها وتتصدر مكانتها بالتوازي بحسب قدراتها وإمكانياتها .
المعهد الفرنسي للدراسات والبحوث وشؤون الأوسط