هشام الفاخر: بعد 3000 عام… جامعة بغداد تُعيد إحياء النشيد القومي لبابل من جديد.

هشام الفاخر: بعد 3000 عام… جامعة بغداد تُعيد إحياء النشيد القومي لبابل من جديد.

 

 

هشام الفاخر
في منعطف جديد من مفاجآت التراث الرافديني، أعيد إلى الضوء نص ادبي بابلي نادر يعرف بـ”نشيد بابل”، بعد ان تمكن فريق علمي مشترك من جامعة بغداد وجامعة لودفيغ ماكسيميليان الالمانية من اعادة تركيبه باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. عشرات الالواح الطينية التي تناثرت عبر الزمن جمعت لتشكل قصيدة شعرية تعود الى ما يقارب العام 1000 قبل الميلاد، كتبت في مدينة سيبار – الواقعة شمال بابل – والتي كانت تعرف في اللغة الكلدانية بـ”مدينة الطيور”.
الانشودة، المكونة من نحو 250 سطرا، تمثل نموذجا لما كان يدرس في المدارس والمعابد البابلية، حيث تعلم الأجيال عبرها مفاهيم دينية وثقافية وتربوية، وتشكل جزءا من الوعي الجمعي البابلي. تظهر المقاطع المستعادة مستوى أدبيا رفيعا في البناء، ينتقل بين وصف روحاني لمدينة بابل، ومديح لنهر الفرات ومروج المدينة، واشارات دقيقة الى الطقوس الدينية، مع حضور لافت لقيم الإنصاف واحترام الضعفاء والأجانب.
عثر على الترنيمة في مكتبة “ستار”، إحدى اهم المكتبات البابلية، داخل معبد الاله شمش – موقع تل أبو حبة بالقرب من اليوسفية في العاصمة بغداد-، الموقع الذي كان يوما سيبار القديمة. تشير الوثائق والالواح الطينية التي جرى تحليلها رقميا الى ان النشيد ظل ينسخ ويدرس لأكثر من ألف عام، من المدة ما بين 1500 الى 100 قبل الميلاد، ما يكشف عن عراقته التربوية ومكانته المركزية في الثقافة البابلية.
ومن بين الأجزاء اللافتة في النص، إشارات الى الملكين الاسطوريين “الولو” و”الالجار”، جنبا الى جنب مع تأكيد شعري على دور الحاكم في صون كرامة الشعب البابلي. كما يقدم النشيد صورا شعرية للنساء في مواقع كهنوتية وروحية، ويشير إلى دورهن في الطهارة والتعليم والقيادة داخل المجتمع.
يعد الباحثون ان أهمية هذا الاكتشاف تقارب ما تحمله ملحمة جلجامش من مكانة، وان اختلفت خلفية تأليف النصين. إذ توضح الدراسات ان ترنيمة بابل كتبت من قبل مؤلف واحد، بخلاف جلجامش التي تطورت عبر تراكمات نصية، ما يمنح “نشيد بابل” تفرده الفني والتاريخي.
وقد اظهرت عمليات التنقيب في “سيبار” مئات الالواح الطينية التي استخدمت كأدوات تعليمية، بعضها يتضمن نسخا من الترنيمة ذاتها بخطوط تلاميذ المدارس. ويرجح ان هذه النصوص بقيت تتداول حتى الايام الاخيرة من الحضارة البابلية، لتعود اليوم عبر الخوارزميات كوثيقة حية عن مجتمع رأى في الشعر وسيلة لبناء الإنسان.
يمثل هذا العمل نموذجا حيا لكيفية مساهمة الادوات الرقمية، لا سيما الذكاء الاصطناعي، في فتح أبواب المعرفة المغلقة، لتعيد وصلنا بتاريخ لم يكتب فحسب، وإنما نقش سطرا بسطر على طين الرافدين.
وعلى الرغم من ان ثلث النص ما زال غائبا او متضررا، ترسم الاجزاء المستعادة ملامح حية لمدينة بابل، كموقع جغرافي استراتيجي، وكائن ينمو ويشع بالقيم والروح. في قلب هذه الترنيمة، تتدفق مياه الفرات كرمز للوفرة والقداسة، وتشع المدينة بمعمارها ومروجها وناسها، حيث تتداخل الحياة اليومية مع الطقوس، وتصبح الحكمة جزءا من نسيجها اليومي.
تعكس الترنيمة مجتمعا يوازن بين القوة والرحمة، فتظهر الكهنة والكاهنات، النهر والحقول، الحاكم والشعب في سياق متماسك يعكس نظاما فكريا متقدما. تحضر المرأة في النص بوصفها صاحبة دور شعائري وروحي، الامر الذي يمنح القصيدة بعدا انسانيا واخلاقيا يتجاوز المعايير السائدة في ذلك العصر.
يتجلى في “نشيد بابل” تأصيل لهوية المدينة وارواح سكانها، عبر لغة شعرية تنسج بين الاسطورة والواقع، وهذا بعض من عبقها:
تسمى اريدو (ولكن) بابل هو اسمها
مدينة الحماية الابدية، تحت رعاية اينزاك.
مثل الحديقة المثمرة التي تزدهر بوفرتها،
ألولو هو ملكها – اب كل ذرية البشر
الفرات هو نهرها، صنيعة سيد الحكمة الإله نوديمود
يروي الضفاف، ويسقي السهول،
تزدهر حقوله بالزهر والعشب،
مع المدينة خلقت ذرية الاجار
مواطنو بابل الأحرار سكان ايساجيل
مطهرون بطقوس الطهارة المخصصة للإله مردوخ
ملك بعد ملك سيرسخ لهم حريتهم
الاغراب بينهم لا يُذلون
يحمون المتواضع ويساعدون ضعيفهم
يعملون على مساعدة اليتيم ويمدونه بالعون
ناشرون أجواء المحبة والبهجة
حذرات ومتيقظات متأهبات لعمل الخير
مواظبات على زيارة معابد الالهة المقدسة باحثات عن الحياة
ونشر هذا الاكتشاف في المجلة الأكاديمية “Iraq” ضمن دراسة حملت عنوان: Literary Texts From the Sippar Library V: A Hymn in Praise of Babylon and the Babylonians، بإشراف الباحثين رئيس قسم الاثار في كلية الاداب بجامعة بغداد، الدكتور أنمار فاضل والدكتور إنريكي خيمينيز من جامعة لودفيج ماكسيميليان “LMU” الالمانية. وتعد هذه المبادرة واحدة من أوائل المشاريع التي توظف الذكاء الاصطناعي في إعادة بناء نصوص أدبية من حضارات ما بين النهرين.