رغيد النحاس: مهد يتلهب نارًا

رغيد النحّاس
موطني يحترق—
لا في غابات اللاذقيّة،
ولا في سفوح جبل قاسيون وحدها،
بل في العقول التي طلّقت الكلمة
وارتمت في أحضان الماضي
كأنّها تنتقم من المستقبل.
تُرتّلُ الذاكرةُ صدى الغزوات
وتعودُ الأسئلةُ عقيمةً
من بطون المدارس
كأنَّ ابن رشد لم يَمُرّ
وكأنَّ الحلاج لم يُصلَب لأجلنا
كأنّ أنطون سعادة لم يقل كلمته
وكأنّ فيروز ما غنّت لنا
وأدونيس ليس بيننا.
أرضُنا التي رام فيها جلجامش الحياة الأبديّة
وخطا فوقها إبراهيم
وبكى عندها يعقوب
وسار فيها المسيحُ حافيًا
وانحنى فيها محمدٌ بقلبٍ خاشع—
هذه الأرضُ تتقلّب الآن
على جمرِ صفقاتٍ دوليّة
وخرائطَ لا تميّز القلبَ من الحجر.
قالوا: “الريحُ أشعلت النيران”،
لكنّي رأيتُ اليد التي
تحملُ شعلةً من الكتب المحرَّفة
وتنقشُ على الخرائط
خُرافةَ “شعبٍ مُختار”،
كأنَّ الآخرين تسرّبوا من أصابع الخَلْقِ غلطًا.
ليست هذه أمّة تموت،
بل ذاكرة الكون تنطفئ …
فإن احترقت القدسُ
وانهارت بابلُ
وغرقَ شطّ الفرات في البكاء
فكيف تتوازن الأرض؟
لا أخشى على دمشق
ولا على بغداد
ولا على بيروت وحدها
بل على كلّ المدن التي ظنّت
أنّ النيران تحتاج إلى إذن دخول
وأنَّ الكبرياءَ عنها يحول.
الدخانُ المتصاعدُ من أشجارِ اللاذقيّة
ومن مخيّم جنين
ومن بيوتِ اللاجئين
سيصلُ إلى كلّ قلبٍ
ظنّ أنّ التاريخَ لا يعيدُ نفسه.
وإن تحوّل هذا المهد
إلى تابوتٍ لحضاراتِ الشرق،
فسينتهي النشيد
وسيُطفأ الضوءُ
في المتاحفِ
في الحناجر
وفي أحلامِ الأطفالِ الذين
لم يتعلّموا سوى لغةِ الرماد.
فخذوا رمادي …
انثروه في أرض نينوى
وفي أروقةِ الأقصى
وفي مقاماتِ النجف وكربلاء.
قولوا لهم:
كان هنا من آمن أنَّ الأرضَ
لا تُنقذها إلا العدالة،
ولا يُنقذُ الإنسانَ إلا الحقيقة.
• الدكتور رغيد النحاس باحث علميّ وموظّف متقاعد. كاتب بالعربيّة والإنكليزيّة وناشر ومحرّر ومترجم.
www.raghidnahhas.com