د. محمد كرواوي: من أتون غزة إلى جائزة نوبل: عندما يتحقق السلام على أنقاض الخرائط

د. محمد كرواوي: من أتون غزة إلى جائزة نوبل: عندما يتحقق السلام على أنقاض الخرائط

 

د. محمد كرواوي

في السياسة لحظات لا تقاس بميزان القوة وحده، بل تقاس بقدرتها على تعرية الزيف، وكشف ما يراد ستره خلف لافتات المجد الدبلوماسي. وما حدث في واشنطن مؤخرا، حين خرج بنيامين نتنياهو ليقدم ترشيحا رسميا لدونالد ترمب لنيل جائزة نوبل للسلام، لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل كان لحظة كاشفة، بل فاضحة، لكل ما آل إليه مفهوم السلام في عالم تختزل فيه القيم في أوراق اعتماد، وتدار فيه الجوائز كصفقات سياسية تبرم بعيدا عن ميدان الحقيقة، وعلى أنقاض الحقائق المحروقة. لقد تحول السلام من غاية إنسانية إلى وسيلة لشرعنة الغلبة، وصار الحديث عنه أداة ضغط رمزي أكثر مما هو تطلع تاريخي.

في ظاهر الأمر، بدا وكأن نتنياهو يمنح حليفه السابق اعترافا رمزيا بدور تاريخي في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. ولكن في العمق، كان المشهد يتجاوز مجرد ترشيح، ليدخل في سياق إعادة تعريف المفاهيم نفسها: من يحق له أن يدعى صانع سلام؟ وهل يمنح هذا اللقب لمن رسم خطوط الاتفاقات بمداد التهديد والهيمنة، لا بالحوار والاعتراف؟ إن الصورة التي حاول نتنياهو تصديرها لم تكن موجهة فقط إلى لجنة نوبل، بل كانت رسالة مشفرة إلى العالم: نحن من نعيد كتابة التاريخ، ولسنا في حاجة إلى أن تصادق عليه شعوب المنطقة، ولا أن يباركه المقهورون في غزة.

منذ أن وقعت اتفاقات أبراهام، لم يكن هناك أوهام كثيرة حول طبيعة التحالف بين ترمب ونتنياهو؛ فالرجلان التقيا على خريطة مصالح متقاطعة، لا على أرضية رؤى استراتيجية مشتركة. أحدهما كان يبحث عن شرعية في الداخل الأميركي وسط انقسام غير مسبوق، والآخر كان يسعى إلى تخفيف عزلة إسرائيل المتزايدة بعد سلسلة من الحروب المتكررة. لكن ترشيح نوبل، في هذا التوقيت بالذات، بدا وكأنه محاولة لإعادة تدوير تلك الشراكة في صورة رمزية، تعوض عن فقدان التأثير المباشر. هكذا تحول الفعل السياسي إلى مشهد استعراضي، وتحول المشهد إلى أداة لإعادة إنتاج سردية مشروطة: أن يكون السلام ما تقرره القوة، لا ما تفرضه العدالة.

الخطير في هذا الترشيح لا يكمن فقط في مغزاه السياسي، بل في رمزيته الأخلاقية. أن يطرح اسم لنيل جائزة نوبل، فيما صاحبه متورط في تمزيق خريطة الحقوق الفلسطينية وساهم في تشييد جدران التطبيع دون ثمن حقيقي، فهذا يعني أن الجائزة لم تعد شهادة تقدير، بل صك مصالحة مع المفاهيم المزيفة. لقد تحول مسرح نوبل إلى خشبة عرض لحالات سياسية مشبوهة، تقدم فيها الترشيحات لتبرير المشاريع، لا لمكافأة المواقف. وما يراد ترسيخه في الوعي الدولي هو أن السلام بات وظيفة للغلبة، لا مشروعا للكرامة، وأن من يحسن رسم الخرائط بالقوة، يحسن التتويج رمزيا، ولو كانت الخرائط مضرجة بالدماء.

في خلفية هذا المشهد، كانت غزة تحترق بصمت. ليس الصمت العابر الذي يواكب الأحداث، بل الصمت الثقيل الذي يغلف التواطؤ. فالترشيح جرى بينما الطائرات تقصف المدارس، وتنتشل الجثث من تحت الأنقاض، وتخلى المستشفيات تحت الحصار. وفي واشنطن، كانت الأضواء تسلط على أوراق الترشيح، لا على صور الأطفال الذين يموتون في الخيام. وكأن لسان حال النظام الدولي يقول: “نحن لا نرى من الخريطة إلا من يوقع عليها، ولا نعترف من التاريخ إلا بمن يرويه لنا”. وهنا يتبين أن المشهد لم يكن مجرد احتفال رمزي، بل كان إعلانا ناعما عن نهاية الأخلاق في مؤسسة كانت ترفع باسمها رايات الإنسانية.

ومن المفارقة المؤلمة أن يطرح اسم لنيل جائزة نوبل، التي نشأت لتكريم من يقف في وجه الحرب، بينما يطرحه من تتلطخ سياساته بحروب لم تهدأ، ومآس لم تتوقف. ترمب لم يكن وسيطا بين طرفين متكافئين، بل كان طرفا مباشرا حسم خياراته لصالح الاحتلال: من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلى دعم ضم الجولان، إلى شطب حق العودة من الخريطة. أما نتنياهو، فقد أراد من هذا الترشيح أن يبعث بثلاث رسائل: واحدة لإسرائيل تقول إن زمن العزلة انتهى، وأخرى للفلسطينيين تؤكد أن العالم بات يرى في معاناتهم تفصيلا ثانويا، وثالثة للعرب أن تتويج التطبيع صار مرصعا بأوسمة نوبل.

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في الجائزة ذاتها، بل في ما بعدها. فإذا مر هذا الترشيح دون صدمة أخلاقية، فإن العالم يكون قد اقترب خطوة جديدة من إعادة تعريف مفهوم السلام وفق مقاسات القوة، لا مقاسات العدل. سيكون الفلسطيني، مجددا، خارج الصورة، لا لأنه انسحب من المشهد، بل لأن المشهد صمم من البداية دون مقعد له. وهنا تحديدا يتجلى المنطق الاستعماري في ثوبه الجديد: لا تفاوض، لا اعتراف، لا حضور. فقط خريطة ترسم في غيابه، ويطلب منه لاحقا التصفيق لها بوصفها الفرصة الأخيرة.

وقد لا تلتفت لجنة نوبل أصلا إلى هذا الترشيح، وقد تتركه يسقط من تلقاء نفسه دون حتى أن يدرج في قائمتها الرسمية. فالمسألة، في ظاهرها، ما تزال خارج المسار المؤسسي للجائزة. لكن الرهان الأخطر هو على ما يترسخ في الذاكرة العامة: أن من يقصف يمكن أن يكرم، وأن من يشرعن الاحتلال يمكن أن يكلل بلقب صانع السلام. وهنا تبرز المهمة الأخلاقية لكل صاحب قلم وكل ضمير حي: أن لا يسمح بإعادة تعريف السلام كما أعيد من قبل تعريف الاحتلال واللاجئ. فالمعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على المعنى. وحين تسلب الكلمات من جذورها، يصبح التاريخ نفسه رهينة لمن يملك لغته. وجائزة نوبل، إن لم تستعد ميزانها الأخلاقي، فلن تكون إلا مرآة مشوهة تجمل وجه الجلاد… وتعلق على جدران العالم كشاهد زور.

* كاتب من المغرب
أستاذ زائر بالمدرسة العليا للتربية والتكوين جامعة ابن طفيل المغرب