حمد التميمي: فيتنام تبدأ عصر الذكاء الاصطناعي… والكونغرس يفعّل نبوءة مهملة.

حمد التميمي: فيتنام تبدأ عصر الذكاء الاصطناعي… والكونغرس يفعّل نبوءة مهملة.

 

حمد التميمي
لم يكن أحد يتخيل أن الجملة التي قيلت همسًا، داخل غرفة مغلقة في الكونغرس الأمريكي قبل أكثر من حقبه، ستتحول يومًا إلى تشريع معلن في دولة كانت خارج خارطة الابتكار.
“ومتى يكتب الذكاء الاصطناعي قوانينه بنفسه؟” قالها عضو بتوجس وسط عرض تقني خافت وأسئلة مترددة. لم يجب أحد، ولم تُسجل الجملة في محضر رسمي… لكنها بقيت، كفكرة مزعجة تُحاول أن تجد زمنها وتتسلل عبر السنين حتى وجدت من يجيبها بلغة القانون.
وفي يوليو 2025، أعلنت الحكومة الفيتنامية عن أول قانون شامل يعترف بالذكاء الاصطناعي كركيزة قانونية وفنية مستقلة. القانون ينظم استخدامه ضمن الأصول الرقمية ويمنحه صلاحية التفاعل مع قطاعات الصحة والتعليم والأمن والاقتصاد. هذه ليست مجرد خطوة تنظيمية، بل لحظة رمزية تقول إن دولة كانت على هامش الابتكار باتت تُشرع لعقل غير بشري، بينما ما زالت دول كثيرة تتجادل حول تعريف الذكاء ذاته.
اللافت أن القانون الفيتنامي لا يكتفي بالعموميات، بل يغوص في التفاصيل الأخلاقية والسلوكية. فهو يُلزم الشركات بإدراج ضوابط داخل الخوارزميات، ويحدد متى يُسمح للذكاء الاصطناعي باتخاذ قرار مستقل، ومتى يجب العودة للبشر. وأبرز بنوده “التمييز الأخلاقي”، الذي يفرض على المصممين إدخال تعليمات داخلية تمنع النظام من تجاوز حدود معينة، حتى لو كان ذلك على حساب الأداء. هنا، لا يُعامل الذكاء الاصطناعي كمجرد تقنية، بل كطرف قانوني يُحاسب ويُضبط.
هذه النقلة لم تنشأ من فراغ. فيتنام شهدت خلال السنوات الماضية طفرة رقمية مدفوعة بإرادة سياسية لفك الارتباط المعرفي مع البنية الغربية. المنصات المحلية تزداد، التعليم التقني يتوسع، والوعي الشعبي تجاوز المفاهيم النمطية، ليصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من حياة الطالب والمزارع والموظف. إطلاق القانون لم يكن مغامرة، بل نتيجة ثقافة بدأت ترى أن الذكاء لم يعد ترفًا… بل ضرورة وجودية.
ومع ذلك، لا يمكن قراءة الحدث بمعزل عن السياق العالمي. في عواصم كثيرة، الجدل لا يزال قائمًا: هل نُشرع الذكاء أم نراقبه؟ هل ننظّمه أم نحمي أنفسنا من نتائجه؟ وبين مخاوف الانحياز الخوارزمي واتخاذ القرار دون رقابة، تظهر خطوة فيتنام وكأنها تقول: من لا يُشرع اليوم سيُدار غدًا.
وما يجعل التحول أكثر دلالة أنه لم يصدر من واشنطن أو بروكسل أو طوكيو… بل من هانوي. مدينة كانت تُقرأ في تقارير الصناعة، صارت تُذكر في مداولات التشريع الخوارزمي. فهل هذا يعني أن النظام العالمي يُعاد تشكيله من الأطراف؟ وهل أصبحت الرقمنة وسيلة لإعادة تعريف الهيبة السياسية؟ أم أن الذكاء الاصطناعي تحول من حقل تقني إلى ساحة تنافس على الشرعية والسيادة؟
ما يحدث في فيتنام اليوم قد لا يكون إلا افتتاحية لعصر جديد تُعاد فيه صياغة العلاقة مع الذكاء ذاته. فإذا كانت الدول تُشرع له اليوم، فقد نشهد خلال عقد انتقالًا من التنظيم إلى مأسسة الذكاء: منصات خوارزمية تُمنح شخصيات اعتبارية، كيانات رقمية تُشارك في صياغة القرار، وربما أنظمة حكم هجينة يكون فيها العقل الاصطناعي طرفًا ثالثًا بين السلطة والشعب. ومع توسع هذه التشريعات، قد تظهر كيانات رقمية لا تحمل جنسية، بل خوارزمية مرخصة تُدار وفق قانون دولي خاص. وربما حين يُكتب القانون القادم، لن يكون السؤال: كيف ننظم الذكاء؟ بل: من يملك أصلاً حق كتابة قواعده؟ الإنسان؟ الدولة؟ أم الذكاء نفسه؟
ربما ما يحدث ليس مجرد لحظة تشريعية، بل بداية عصرٍ يُعاد فيه تعريف الإنسان لا التقنية. فنحن لا نكتب قوانين للذكاء الاصطناعي فقط، بل نضع بصمتنا على منطق جديد للوجود. فحين تمنح الدول عقلًا غير بشري صلاحية التنظيم، فإنها بشكل غير مباشر تعيد ترتيب موقع الإنسان في معادلة القرار.
لم تعد القضية: كيف نستخدم الذكاء؟
بل: كيف نظل موجودين بذكاء.
وفي سباق الأفكار، هناك من يكتب المستقبل… وهناك من لا يزال يقرأ الماضي.
وهل نملك الشجاعة لنشرع؟
أم أن الذكاء الاصطناعي سيكتب قواعده قبل أن نقرر من يملك القلم؟

 

كاتب قطري