إبراهيم أقنسوس: الباشادور أو المخزن كما لم تُروَ من قبل

ابراهيم أقنسوس
يختار سارد هذا النص (الباشادور) (1) ، أن يخبر القارئ ، منذ البداية ، أن هذا الذي سيحكيه كتابة ، على لسان (أبي القاسم الزياني ) ، ليس سيرة ذاتية ، (وإن كان يستوحي حياته ، وليست هذه السيرة تأريخا ، وإن كان تستقي من التاريخ مادته .. ) (ص5) ، وإنما هو رواية ، وبهاته الصفة يقرأ ويتلقى ؛ كما يختار سارد هذا النص أيضا ، أن يفتتحه بنصين دالين ، واحد لابن المقفع ، والثاني للمعري (ص7) ، ويخبرنا أن عملية الإفضاء بهذا الحكي (الرواية) ، وعلى صورته هاته ، اقتضى بالضرورة ضربا من العزلة ، يقول : (أما بعد ، فقد قر العزم أن أفضي بما في نفسي وقد اعتزلت في هذا الرياض الذي أقيم به … أخلص في هذا المكان لنفسي مذ قطعت العهد على إملاء هذا الحديث من سنة 1246 من الهجرة الموافق لمارس 1831 من تقويم النصارى …أعتكف هاهنا كي أخلص لنفسي وأحدثها بلا زخرف . ومن يدري؛ فلعل لهذا الحديث أن ينتقل في مستقبل الأجيال ، ويبلغ عما اعترى حياتي من نوائب …وما تعرض له المغرب الأقصى في فترة من تاريخه من تقلبات جسيمة … ) (ص12) ، وأشار إلى أننا في بلاد الإسلام : (لسنا نحسن ، في بلاد الإسلام ، قراءة التاريخ ، ونحسبه قصصا تتلى وحديث خرافة وليس عبرا كما علمنا شيخنا ابن خلدون .) (ص13) ، ولم يتردد السارد في تقديم راويه ، بما هو الآخر ، وفي لحظات معينة ، كان يحجب الحقيقة ، ولم يسلم من الزلل ، وهذا ما عليه تصحيحه الآن ، وفي هذا النص بالذات ، يقول الزياني : ( .. ولم أبرأ من لوثة معارف بائدة إلا بآخرة .. تقلبت في البلاد ، وخدمت السلاطين … عرفت بالباشادور، وقد حملت سفارة سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله إلى سلطان الدولة العلية …) (ص14) ؛ فالأمر إذن ، يتعلق بشهادة ، وهو يريد لشهادته أن تكون الحقيقة : ( لست أريد لهذا البوح أن يكون على شاكلة ما تواتر من كتابات فقهائنا وأعلامنا حديثا مرسلا ، أو وقوفا منمقا يحجب الحقيقة …أريده صدى لنفسي … أريده صورة للحقيقة . ) (ص15) ؛ ويعرض الراوي (أبا القاسم الزياني) نفسه ، بما هومؤرخ تقلب في البلاد ، وزاول السياسة ، وخبر تقلباتها ، وحان الوقت للإدلاء بشهادته كتابة (ص16) ، وأن زمن حكيه هذا ، سيمتد لقرن ونيف ، قبل لحظة الكتابة هاته (ص18) ، فهو يتذكر بالكثير من التفصيل ، محكيات والده الفقيه (سيدي ابراهيم ) ، حول ما فعلته عساكر (عليليش ) بقبائل (آيت أومالو ) ، مما كان يقشعر له جسده ، كما يقول (ص19) ، كما يتذكر ما كانت تمثله مكناسة زمن المولى إسماعيل في صورتها الأخرى ، الصورة الخفية والمتوارية ، التي كان يجسدها ويجليها (حبس قارة) (ص24) ، كما يجسدها صراع الأبناء على السلطة ، وما صاحب ذلك من أحداث ، بعد وفاة السلطان المولى إسماعيل ، وإبان تولية (المولى عبد الله ) (ص29_30) ، ما يعني أن الراوي بدا منشغلا ، بإعادة كتابة تاريخ غير متداول ، أو أريد له أن يظل طي النسيان ، أو على الأقل ، طي الكنانيش والمخطوطات والأوراق ، وربما كانت مهمة الكشف هاته ، من المهام الرئيسة ، التي يضطلع بها الأدب ، وأدب الحكي والرواية بخاصة ، حيث سيتوقف السارد طويلا ، عند حقبة المولى عبد الله ، حين تولى الراوي (أبا القاسم الزياني) العمل في خطة الكتابة ، بدار المخزن بفاس (ص44) ، استجابة لرغبته ، ورغبة أمه ، وضدا على رغبة والده ، الذي حذره من العمل مع المخزن ، (ص40) ؛ وسيظل الراوي يتساءل على امتداد هذا الحكي ، إن كان حريا به ، اتباع نصيحة والده ، فيسلم ، أونصيحة أمه ، فيتعرف شؤون السياسة وما يعرض لها ، في مرحلة حساسة من تاريخ بلده (ص41_ص53…) ، زمن (المولى عبد الله ) و (المولى سليمان ) وما يعنيه هذا الزمن ويدل عليه . لقد بدا الراوي مهتما بتسجيل أحداث بعينها ، بدت بالغة القساوة : (صراخ شباب من شدة بطش السلطان ، حين طمرهم وراء سور، بلا سبب تقريبا (ص33) ؛ فرار عائلة الراوي من بطش المولى عبد الله ، وتنكيله ببربر (إدراسن) (ص36) ؛ صور للبطش الذي تعرضت له القبائل التي لم تكن على وفاق مع السلطان (45_46) ؛ قتل (فنيش) صاحب سلا ، بتلك الطريقة الأكثر من عنيفة ، كما وصفت ، وبتلك التهمة ، التي لم تثبت (ص51_52_53) ؛ الغارة على قبائل اشراقة بأحواز فاس ، ونهبهم وتشريدهم (ص161) ؛ ما فعله ابنه مولاي اليزيد بأهل مراكش ( إذ قتل ونهب وسمل الأعين بالنار ، واستل الألسن …) (ص191) ؛ تكالب المخزن ، زمن المولى سليمان ، على قبائل بربرية ، (ص354_355) ، وما استتبع ذلك من إشاعة الفتنة ، يقول الزياني :(شهد الله أني لم أك قط من أصحاب عبيات الجاهلية … ولكن ما تعرض له البربر من تحامل ، جعلني أنتصر لهم ، لا عن عصبية ولكن ميلا للحق . مذ عاد السلطان مولاي سليمان من حركة زيان ، أمر في حضور كبراء البربر إلى مكناسة …فلما دخل عليه سبعمائة فارس من صناديد البربر ، أمر بالقبض عليهم …)(ص356) ؛ يتساءل الراوي حول مغزى هذا التأريخ لزيغ الحكام ، وبهذا التفصيل ، ثم يجيب : (وهل يستطيع قبيل أن يبرأ من زيغ الحكام إن لم يعرف تاريخه ولم يقف على جذور الزيغ ، وصوره وأشكاله ؟ ) (ص35) ؛ وبالطبع ، وكما هو واضح ، لقد اقتضى هذا الحكي ، إلماما مفصلا بمجريات الأحداث التي عناها السارد بالرواية ، في هذا المتن . وما دام الراوي (أبا القاسم الزياني) ، هو صاحب خطة الكتابة ، بدار المخزن ، فهو الذي سيتحمل موضوعيا مهمة تدوين ما يقدم عليه هذا المخزن من أفعال ، دون امتلاك القدرة على انتقادها أو التساؤل بصددها ، فقد وجد نفسه مدعوا ، بصيغة الأمر، إلى تدوين أحداث قتل صاحب سلا (فنيش) ، وإرسالها إلى الحاجب : ( الزياني ، تكتب بأمر من سيدي ، في صحيفة ، مجريات ما حدث ، وترسل بها إلى الحاجب ) (ص52) ، كما وجد نفسه مطالبا موضوعيا ، بكتابة رسالة شكر إلى السلطان ، ينوه فيها بفعله وتطبيقه للشريعة في القاتل ، ولم يتبقى له في النهاية ، غير البكاء وحيدا ، في غرفته بالفندق ، ندما على شهادة كاذبة ، سيحصل بموجبها لاحقا ، على منصب وال على العرائش (ص55) ، ليصطلي بعدها بنيران دسائس المخزن ، في صور أخرى ؛ ما يعني أن التقدم في دواليب العمل مع المخزن ، له أسراره وتكاليفه الخاصة ، حيث سيتهمه الحاجب بتأليب (بربر فزاز) (ص59) ، ليظهر لا حقا أن الأمر يتعلق بوشاية كاذبة ، من القائد الزموري ، الذي فشل في مواجهة (قبائل آيت اومالو) (ص60) ؛ وتعرض الرواية ، في تنويع آخر، لدسائس المخزن ، صورة بدت دالة ، لنقمة (مولاي اليزيد ) ، ابن السلطان (مولاي عبد الله ) ، على الراوي ، حين عاكس أطماعه في الحكم ، ولو خدمة للمخزن (ص66 إلى ص68) ؛ إذ مباشرة بعد وفاة السلطان ومبايعة اليزيد ، ستشتغل آلة الإنتقام بمفرداتها التي بدت معهودة ، والتي يتولى الراوي الكشف عن بعضها هنا ، حيث سيتم عزل (أبا القاسم الزياني) ، واستصفاء أمواله ، من طرف مولاي اليزيد ، ( من حق السلطان أن يعزلني ، ولكن أمن حقه أن يستصفي أموالي ) سؤال طرحه (الزياني ) (ص177) ، وبدا بلا جواب ، وبعد العزل يأتي الضرب والسجن : (…أدخلت على السلطان فور بلوغي . تقدمت إليه كي أسلم عليه…صفعني إلى أن انحلت عمامتي … وما زال يركلني إلى أن أعياه الركل ، ثم أخذ يصرخ : انهض ياكلب ..) (ص180) ، ( ألم أقل لك يا وغد إن الدنيا متقلبة ؟ أنت من غير والدي عني..) (ص181) ؛ سيتذكر الراوي هنا ، كيف كان ينادى عليه ب (الباشادور) ، كما سيتذكر مرة أخرى ، نصيحة والده الأولى ، حين كان يثنيه عن خدمة المخزن (ص184) ، وسيتوقف ليسائل هذا المنطق ، الذي يحكم عملية الصعود والنزول ، في عرف هذا المخزن : ( هل من منطق الأشياء أن ينتقل المرء من الأوج إلى الحضيض ، ومن الحضيض إلى الأوج ، جراء نزوة ، أونزوات ؟ أليس هذا ما يسميه النصارى بالإستبداد الشرقي ؟ ) (ص200) ؛ سيموت (اليزيد) لاحقا ، ويخلفه (المولى سليمان) ليعين الراوي عاملا على وجدة ، (ص204) ، ثم مكلفا بمهمة جمع أموال المراسي ، خلفا ل(مولاي الطيب) ، أخ السلطان ، (ص315_316) ، الذي اتهم بتبديد الأموال ، بتحريض من حاشيته ومحيطه (ص318) ؛ وجريا على نفس المنطق دائما ، فإن انفتاح باب المناصب ، سيعني من ضمن ما يعنيه ، بالنسبة للمشتغل مع المخزن ، تكاثر الحساد ، وتكالب محيط السلطان ، على الراوي (الزياني) ، وتدبير تهم جديدة ، ستكون هذه المرة من طبيعة فكرية وعقدية ، حيث سيروج أن الراوي (الزياني) ينتقد الدعوة (الوهابية) (ص319) ، (فأفشوا لدى السلطان أنني من أصحاب الشرك ، وأن تلك جبلة راسخة فينا نحن البربر، وأنني أأتمر بما يذهب له آل عثمان ..) (ص320) ، وما يعنيه ذلك من صد وإبعاد للراوي ، من قبل السلطان وحاشيته ؛ وسيتم لاحقا تفنيد ما جاء في رسالة الوهابية ، من طرف قاضي تونس ، بما يوافق ماذهب إليه (الزياني) ، ويجعله يتأسف لكون الرد لم يأت من علمائنا ، بدل قاضي تونس (ص339) . وما دام للمخزن ولابد ، ارتباطاته وتعالقاته الخارجية ، والتي يكتمل بها المعنى ، كان لابد للراوي وسارده من تتبع بعضا من تجلياتها ، سلبا وإيجابا ، حيث تعرض الرواية صورة للمخزن ، وهو يدبرعلاقاته ، وفق إبدالات ، تحكمها طبيعة الدول والأمكنة ، التي يرتبط بها ، صعودا ونزولا ، وتضعنا الرواية ضمن رحلة في الأزمنة والأمكنة متعددة ، أشير منها إلى مايلي :
_ مدينة (إسطمبول) التركية بحمولتها الرمزية ، السياسية والحضارية ، وما تعنيه من مشاهد وأحداث ( ص57_ ص96 إلى ص102) ، ومآسي أيضا ؛ في إسطمبول كانت ترعاه خادم من القرم ، اسمها خديجة جنكر (ص108) ، وهي ممن ( نزحوا إلى الإسطمبول فرارا من تحرش الروس (ص109) ، سيقترن بها الراوي لاحقا ، ليفهم ويقول : ( كنت أرى في خديجة وأمها صفية وابنها عزت ؛ مأساة شعب . لم أقترن بامرأة ، بل بقضية ؛ قضية أحملها ولا أريدها أن تطوى لشعب فتن في دينه وطرد من أرضه ، كما مأساة مسلمي الأندلس . )(ص136) ، (كانت مأساة تدمي القلب ، وكان ذلك السمت الذي وقفت عليه في سيرة خديجة ؛ هو الترجمان لفؤاد جريح وشعب مكلوم .) (ص138) ، ويبدو الراوي منشغلا بالتدليل على محكياته بمعارف تاريخية ، معنية بتاريخ سياسة الملوك (تاريخ الأمم) للبلاذري ، (تاريخ ابن مرزوق) ، واسطة الملوك لأبي حمو موسى الزياني (ص219) .
_ مصر ، بحمولتها التاريخية ، ونهضتها المجهضة : ( توثقت العلاقة بيني وبين الحاج عبد السلام …حدث عني كبير مصر محمد باي الألفي ، وأخذني إليه في قصره ، واستقبلني الباي استقبالا حسنا . ومن حينها انفتحت الأبواب ، وانزاحت الصعاب …) (ص273) ؛ وبدا أن استدعاء (مصر) اقتضى الحديث عن ثورة نابليون وآثارها ، القريبة والبعيدة ، لا سيما في عهد (محمد علي) (ص340إلى342) .
_الجزائر (ص222إلى224 ) _ تونس (ص234إلى 236) .
نستطيع أن نخلص ، بعد الإنتهاء من قراءة هذا المتن الأدبي ، الذي لا يريد أن يكون غير رواية ، أن الحاكي (أبا القاسم الزياني ) ، بدا شديد الرغبة في البوح ، كتابة ورسما ، لإيمانه الذي بدا عميقا ، بقيمة التأريخ ، (ارتأيت أن أملي هذا الحديث للأجيال القادمة..) (ص366) ، كما بدا بالموازاة ، حريصا على تسجيل اقتناعاته وانطباعاته حول محكياته ، في تساوق بدا دالا ، بينه وبين سارده .
________________________________________
_ الباشادور _ رواية_ حسن أوريد _ الطبعة 2 _ 2024 _ المركز الثقافي للكتاب _ الدار البيضاء _ المغرب .