محمد توفيق: ليبيا: من الإهمال إلى المشاركة الفعّالة في قضايا المتوسط

محمد توفيق
على مدى أكثر من عقد، نُظر إلى شرق ليبيا في الغرب كحاجز مسلّح في الجغرافيا السياسية لا يمكن إصلاحه عبر الدبلوماسية. بدا وكأنه نهاية للحوار وبداية للصدام. لكن الزمن غيّر هذا التصور. في يونيو 2025، وقع التحوّل بهدوء. بدأ ممثلو الشرق الليبي يظهرون، لا على هامش منتديات الأمن في البحر الأبيض المتوسط، بل في صلبها. لم يسعوا إلى الأضواء، بل حملوا ثمار عمل صامت.
إنه يُمثّل فصلًا جديدًا من الدبلوماسية الليبية: براغماتية تركز على الأمن، وتتناغم مع مخاطر المتوسط المتحوّلة. ما كان يُعدّ مصدر تهديد، صار الآن موضع دعوة. ومن خلال مسارٍ ثبّته استقراره، بات شرق ليبيا يتحدث بلغة يفهمها الأوروبيون: النظام، التعاون، والانضباط.
في صباح هادئ من يونيو هذا العام، وعلى متن حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديغول”، حصلت ليبيا على مقعدٍ في قمة المتوسط، لا كملف أمني يستدعي الإدارة، بل كطرف سيادي يُصغى إليه. وفد الشرق الليبي وقف بين قادة بحريين، وزراء أوروبيين، ومسؤولي استخبارات. ولأول مرة منذ سنوات، جلس ممثلو الأمن الليبي في هذه المنتديات كطرفٍ ندّي، لا تحت الضغوط.
الرسالة لم تكن صاخبة، لكنها لم تكن خفية. فرنسا، التي استضافت القمة فوق المياه، منحت اعترافًا هادئًا لأولئك الذين حافظوا على أكثر حدود ليبيا أمنًا. حضور الوفد الليبي لم يكن استعراضيًا، بل استحقاقًا بُني على التماسك، وتثبيت النقاط، والتنسيق المستمر مع الجوار.
المراقبون لاحظوا الغياب: لا شعارات، لا خطب، ولا عناوين. فقط أحاديث مقتضبة عن أمن البحر، شبكات التهريب، والتهديدات العابرة للحدود. نمط جديد يتشكل: دور ليبيا في المتوسط لم يعد مجرد نظرية، بل واقع تنفيذي يزداد احترامًا.
في نهاية الشهر ذاته، وصل وفد من الشرق الليبي إلى روما. الاجتماعات كانت مغلقة مع وزارتي الدفاع والداخلية الإيطاليتين، وقيادة البحرية، ووحدات مكافحة التهريب. لم تُعقد مؤتمرات صحفية، ولم تُطلق تصريحات. ما صدر عنها كان نتائج ملموسة.
من بين المخرجات: إطار تعاون جديد للمراقبة البحرية، بروتوكولات لتبادل المعلومات حول شبكات الاتجار بالبشر، واتفاق على تدريب الضباط الليبيين في السواحل تحت إشراف البحرية الإيطالية. الهدف لم يكن الدعم، بل بناء قدرة مستدامة.
بالنسبة لإيطاليا، لم تكن الزيارة مجاملة دبلوماسية، بل ضرورة تشغيلية. الممر الشرقي من ليبيا لا يزال أحد النقاط القليلة التي يمكن فيها مراقبة حركة المهاجرين، وضبط الحدود، وضمان تنفيذ الاتفاقات.
المسؤولون الأوروبيون لم يعودوا يسألون: من يُسيطر على الشرق الليبي؟ الجواب بات معروفًا. ما يبحثون عنه الآن هو: تعاون، انتظام، وضبط. زيارة روما قدّمت الثلاثة، وأشارت إلى أن مشاركة ليبيا لم تعد سياسية فحسب، بل أصبحت فنية، قابلة للقياس والتنفيذ.
إن الإعمار لا يبدأ من فراغ، بل يحتاج إلى استقرار، ليس فقط لبناء المشاريع، بل أيضًا لحمايتها واستمرارها. وفي الشرق الليبي، لم يعد ذلك مجرد نظرية. ما انطلق من مواقع بناء مؤمّنة بدأ ينعكس على المجتمع الأوسع، وخصوصًا في واحدة من أبرز التحديات: الهجرة.
وفقًا لبيانات مركز الهجرة المختلطة، وصل أكثر من 9,100 مهاجر إلى إيطاليا عبر ليبيا في الربع الأول من عام 2025، انخفاض بنسبة 25٪ مقارنة بالربع السابق، وغالبية هؤلاء أبحروا من سواحل الشرق الليبي. هذه ليست مجرد أرقام؛ بل مؤشر على تحوّل فعلي: تحوّل الشرق من نقطة عبور، إلى نقطة ضبط أكثر فاعلية.
لماذا يهمّ هذا؟ لأن الشركاء الخارجيين مثل إيطاليا، واليونان، والاتحاد الأوروبي لم يعودوا يراقبون الساحل فقط؛ بل أصبحوا يعتمدون عليه. الطرق الآمنة والتسلسل القيادي الموحد، والتنسيق المنتظم مع خفر السواحل، كلها أصبحت جزءًا من الإيقاع اليومي. ما يجري ليس خططًا عسكرية، بل ممارسات مدنية، بُنيت على الأمن والانضباط.
البنية التحتية باتت تحمل في طياتها استقرارًا ضمنيًا. بلدات كانت تخشى الفوضى باتت ترى تراجعًا في عدد الزوارق المغادرة لشواطئها. شباب محليّون، تدربوا على بناء الجسور والطرقات، أصبح لهم دور في مراقبة السواحل ومتابعة التحولات المجتمعية. حيث كانت الشرعية تُنهك بالارتباك، هناك الآن شكل من السيادة الوظيفية، تُبنى مشروعًا تلو الآخر، بهدوء وثبات.
لسنوات، بُنيت سياسة التعامل مع الشرق الليبي على الحذر. في أوروبا وبعض عواصم الخليج، نُظر إلى قيادته كجهة جامدة، أكثر عسكرية منها سياسية، أسيرة لماضٍ من الصدام. تلك النظرة بدأت تتغير.
فرنسا وإيطاليا لم تعودا ترَيان في الشرق عبئًا، بل شريكًا في مواجهة التهديدات، من التهريب والهجرة غير النظامية، إلى التمردات العابرة للحدود. أما دول الخليج، التي كانت يومًا ممولًا مباشرًا للدعم المسلح، فقد بدأت تتعامل عبر قنوات أخرى: لوجستية واقتصادية، وخدمات الطيران.
مسؤولو الشرق يتحركون اليوم بشكل مختلف. يلتقون القادة الأتراك لمناقشة الطائرات المسيّرة، ويجلسون مع مستشارين خليجيين لرسم خرائط الممرات اللوجستية، ويقدّمون تقارير لحرس السواحل الأوروبيين بشأن الأحوال الجوية، لا بشأن الاشتباكات. من بينهم صدام حفتر، المعروف أكثر بدوره في تنسيق اللوجستيات من ظهوره الإعلامي، جزء من هذا النمط الجديد: هادئ ومركز، وفعّال.
اللهجة تغيّرت. لم تعد صاخبة، بل دقيقة. وفي هذا السياق، لا تحتاج الدبلوماسية إلى رؤى كبرى بقدر ما تحتاج إلى انضباط. والشرق الليبي، الذي كان يُحسب فوضويًا، بات اليوم يُحسب له مصدرًا لاستقرار هادئ لكنه موثوق.
قد لا يكون مستقبل ليبيا مصوغًا في غرف التفاوض أو بيانات القمم، بل ربما يبدأ في لحظات الصمت بين الاشتباكات، في تدريبات خفر السواحل، وفي همسات التنسيق بين شركاء لم يكونوا يومًا متوقعين.
ما يحدث اليوم في الشرق ليس خطابًا، بل ممارسة. حيث تردّد الآخرون في الحُكم، تقدّم الفاعلون الأمنيون، لا كحكام، بل كمنظّمين للنظام وللحركة، وللحوار.
هذه ليست أيديولوجيا جديدة، بل إيقاع جديد. ولأوروبا، وللخليج، ولبقية ليبيا، هذا الإيقاع يحمل عنصرًا نادرًا: بنية تصمد تحت الضغط.
بل أصبح السؤال التالي مطروحًا:
في منطقة عُرفت بعدم الاستقرار، هل يمكن لرجال الأمن أن يصبحوا مهندسي الثقة؟