الإعلان الصيني عن مساعدة روسيا: عائق أمام استعادة نهج التهدئة المت冷ة

مسار عبد المحسن راضي
الدبلوماسية في القرن الحادي و العشرين بين الدول تشبهُ بيع القمصان المُشجَّرَة في فصل الشتاء. التاريخ الدبلوماسي ينقلُ لنا طُرفة عن الدبلوماسي النمساوي الشهير كليمنس فون مترنخ، تتعلَّق بنبأ سماعه موت سفير روسيا القيصرية، حيثُ علَّق على موته بما مفادُه “لماذا مات الآن؟ ما الذي كان يريدُ تحقيقه؟”. أمّا هنري كيسنجر المولع بـ مترنخ فقد رأى ان قادة الدول العِظام و بتصرُّفٍ مني “يفهمون هوامش القوَّة التي تتمتعُ بهم دولهم. هم يستغلونها إلى أقصى حد عندما يستطيعون لكنهم يسقطون إذا تجاوزوها”. و عليه يُمكنني القول بأنَّ الفرق بين الدول على مسرح السياسة العالمي عالِقٌ بتلك الهوامش.
الصينيون بدورهم يرون بأنَّ الأحداث التاريخية ليست تاريخاً حتّى يتوقفُ تأثيرها. لهذا عندما سؤل تشو انلاي رئيس وزراء الصين في سبعينيات القرن الماضي عن رأيه بالثورة الفرنسية عام 1789 أجاب “ما زال الوقت مُبكِّراً للحديث عنها”.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحاول اليوم قصقصة “هوامش القوَّة” الصينية باستخدام مقص تحسين العلاقات مع موسكو. تقريباً أو تماماً مثلما فعل كيسنجر و ريتشارد نيكسون الرئيس السابع و الثلاثين للولايات المتحدة في سياسة “الانفراج مع الصين” في سبعينيات القرن العشرين، لحرمان الاتحاد السوفييتي من أكبر ذقنٍ شيوعي لها في القارة الآسيوية. ترامب يظن أن دعم الكرملين في أوكرانيا سيحرمُ قصر تشونغنانهاي الصيني من الذقن الأوراسي على المسرح الجيواستراتيجي و هو مُحق.
قمة الناتو الأخيرة في يونيو الماضي، تقرَّر فيها أوروبياً أن يكون دعم كييف رقماً ثابتاً في ميزانيتها الدفاعية للأعوام القادمة. على الأقل لحين مراجعتها في عام 2029. الجميع بعد القمة فسَّر صمت بكين كدليلٍ على أنها المستفيد الأكبر من الحرب الأوكرانية. الكرملين بدوره لمَّح بأنَّ الصمت الصيني يدعمُ رواية حلفاء عبر الأطلنطي.
وانغ يي وزير الخارجية الصيني نسف هذه الرواية بالقول “الصين لا تريد أن ترى روسيا تخسر الحرب في أوكرانيا”. التفسير السريع لموقف بكين هو خشيتُها من مُضي البيت الأبيض قُدُماً في سياسة التوجه شرقاً بعد خسارة الكرملين، كما أن دخول إيران في مرحلة اللايقين الاستراتيجي بعد الحرب الإسرائيلية ضِدَّها، اضيف كدليلٍ آخر.
الصين عموماً تحرِصُ على استخدام مصطلح “الحفاظ على المصالح الأساسية”. هذا المصطلح يشرحُ لنا لماذا هي ليست قادِرة على التضحية بمصالحها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة. لكن ماذا نعني بالمصالح الاقتصادية هنا؟
بكين لا ترغب بتآكل سياسة الاقتصاديات الأوروبية من نموذج دولة الرفاه إلى اقتصاد العسكرة الذي يصِفهُ الأوربيون بلطفٍ أطلسي كـ “صناعات دفاعية”. عسكرة الاقتصاد تعني تأسيس مُجمَّع صناعي عسكري شبيه بالطبعة الأمريكية، و بالتالي وجود الصين كشِعارٍ أساسي للخطر في اللائحة السياسية لليمين الأوروبي الذي يوصف قادته في أدبيات الإعلام الأمريكي بجماعة الـ “Anti – Woke”.
علاقة تشونغنانهاي و الكرملين تبدو بارزة للعيان في ملف الطاقة التي يحتاجها الأول في تغذية اقتصاد بلاده الواسع و ضمان سلاسل وارداته إلى دول العالم. لكن موسكو تعني توازناً أكبر لبكين مع واشنطن في جنوب آسيا و شرقها بالإضافة إلى المحيط الهادي، و حضوراً اقتصادياً أكثر أمناً في أفريقيا بسبب دخولها في صناعة الأمن حيثُ مجموعة “فاغنر” نموذجُها الأشهر إعلاميّاً. كما أنَّ حضور بكين الاقتصادي في الشرق الأوسط وفَّر لموسكو حظوظاً اقتصادية فدول المنطقة تؤمن و لو باسم ضرورات المرحلة، بأنَّ موسكو تبعدُ عنها بمسافةٍ آمنة مصنوعة في الصين. مؤتمرُ بطرسبورغ الذي انعقد في نفس فترة انعقاد قمة الناتو الأخيرة يؤكِّدُ ذلك.
نستطيع القول بأن فُرص احتفاظ موسكو بـ “هوامش القوَّة” في القرن الحالي ترتبط بعلاقتها مع بكين، لتنتقل من السلوك الوقائي ضد واشنطن و بروكسل إلى مستوى الإدراك الفعلي بأنها لاعب بوزن واشنطن. أمّا خوفها المشروع من هذا الإدراك فهو يأتي من فهمها بأنها ستُصبِحُ بذلك قوَّة عُظمى أقلُّ حضوراً عالميَّاً مثلما هو حال باريس و لندن مع واشنطن. تخشى موسكو بسبب افتقادها لموارد إدامة “هوامش القوَّة الكبيرة” لديها، من انخفاض درجة حضورها في مسرح سياسات العالم كقوَّة عُظمى إلى لاعبٍ إقليمي كبير. بالتالي ما لم تنجح به واشنطن و بروكسل ستنجح به بكين والذي سيحملً شعاراً شبيهاً بشعار الثورة الفرنسية لكن بطبعة صينية “حرية إخاء لكن لا مساواة”.
نجاح واشنطن مع موسكو يحتاجُ بدوره إلى نُسخة روسية من سياستها الاقتصادية مع الصين في بداية ثمانينيات القرن الماضي “الدولة الأكثر رعاية للصادرات الصينية”، و هذا أمرٌ مستبعد تحقيقهُ الآن و إن حدث فلن يُحدِث فرقاً حتّى لو نظرنا إلى عام 2050. الكرملين يحتاجُ قبل كُل شيء إلى انفجارٍ في أعداد الروس. ربّما لذلك بدأت موسكو ولو بطريقةٍ حذرة بالسعي إلى تحقيق زيادة معقولة في أعداد الساكنين في روسيا كمرحلة تجريبية.
بكين سوف تحضر في القضية الأوكرانية في القادم بشكلٍ مُكثَّف، لتحقيق انفراجٍ دبلوماسي بين بروكسل و موسكو، و إقناع واشنطن بأنهما يجب أن تجدا حلاً واقعياً للملفات العالقة بينهما. تلك التي تبدأ من الاقتصاد إلى تايوان ثم تعود إلى الاقتصاد و زعامة العالم. تشونغنانهاي يشعر بأنَّ ما يحدث بين واشنطن، موسكو، و بروكسل في أوكرانيا وفِّر فُرصة للجميع، تشبهُ ما قاله تشو انلاي كجواب على سؤال محمد حسنين هيكل عن تحسين نوعية الطعام في الصين و كان مفادُه “الجميع يُفكِّر بأن إضافة دجاجة واحدة لن يؤثِّر على اقتصادنا لكننا نفكِّر بأن ذلك يعني توفير 800 مليون دجاجة”. أتمنى أن لا تكون أوكرانيا تلك الدجاجة بل أن تكون الإوزة التي ستبيض ذهباً يُنقذ العالم.
كاتب و صحافي و باحث عراقي