عماد العيسى: تأثيرات الحرب الإيرانية الإسرائيلية وتغيرات في الساحة الدولية

عماد العيسى
تُعدّ الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران لحظة فارقة في تاريخ الشرق الأوسط، ليس فقط من حيث حجم الاشتباك المباشر والعلني بين قوتين إقليميتين، بل أيضًا من حيث انعكاساتها العميقة على بنية العلاقات الدولية وموازين القوى الكبرى. فهذه الحرب لم تنطلق كحدث منفصل، بل جاءت تتويجًا لمسار طويل من التوترات المتراكمة، وأسهمت في كشف التحولات التي بدأت تطرأ على المشهد الاستراتيجي الاقليمي والعالمي .
أولًا: التنسيق الأميركي الإسرائيلي: بين الاستعراض السياسي والواقع الاستراتيجي مع بدايات التصعيد العسكري، بدت التصريحات الإسرائيلية، وخاصة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكأنها تُنذر بتوجّه نحو الاستقلالية التامة عن واشنطن. إذ تم الترويج إعلاميًا لقدرة إسرائيل على توجيه ضربات للعمق الإيراني، لا سيما منشأة فوردو النووية، دون العودة إلى الولايات المتحدة. وقد فُسرت هذه التصريحات في حينها على أنها تحدٍّ مباشر لواشنطن، وخروج عن الإيقاع الاستراتيجي التقليدي الذي يُبقي إسرائيل ضمن إطار التنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية بكافة الاتجاهات .لكن سرعان ما كشفت الأحداث عن حقيقة مغايرة؛ فبمجرد أن قامت إيران بتصعيد مباشر ضد مصالح وقواعد أميركية في المنطقة، تحركت إدارة ترامب بسرعة وحسم، وضغطت على نتنياهو لوقف العمليات، وأُعلن وقف إطلاق النار، ما أكد أن القرار الاستراتيجي الأكبر لا يزال في يد واشنطن رغم كل ما ظهر عبر الاعلام من اشارات غير واضحة بل غير صحيحة .هذا التحول أظهر أن ما بدا كتحدٍّ لم يكن سوى استعراض سياسي للاستهلاك الداخلي والخارجي، ومحاولة لكسب نقاط تفاوضية لا أكثر. فالاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة ما يزال قائمًا بعمق، سواء في مجالات التسليح والدعم اللوجستي أو في الغطاء الدبلوماسي في المحافل الدولية بالاضافة الى المنظومة المالية ما بين واشنطن وتل ابيب .
ثانيًا: أفول الدفاع الجوي التقليدي وصعود الأنظمة متعددة الطبقات كشفت الحرب حجم التحدي الذي تمثله المسيّرات والصواريخ البالستية الدقيقة على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية إسرائيل، رغم امتلاكها نظام “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”، ” ومنظومة ثاد ” وغيرها . اضطرت إلى استنزاف قدراتها الدفاعية بشكل كبير، وبكلفة عالية. هذا ما أعاد طرح النقاش حول فعالية هذه الأنظمة في ظل هجمات مكثفة ومنخفضة التكلفة من الطرف المعادي لذلك فإن التحول الواضح هو أن مرحلة الدفاع الجوي الأحادي أو التقليدي قد ولّت، وبدأت مرحلة الأنظمة متعددة الطبقات: من الدفاع الليزري إلى الأنظمة الفضائية، إلى شبكة متكاملة من الاستشعار والاعتراض، مع اعتماد متزايد على الذكاء الاصطناعي. إذن فإن هذه الحرب كانت بمثابة مختبر مفتوح لهذه التحولات .
ثالثًا: إيران كلاعب مصدّر للسلاح رغم العقوبات ومن اللافت أن إيران، ورغم العقوبات الطويلة، نجحت في تصدير المسيّرات والصواريخ إلى حلفاء وشركاء مثل روسيا وبعض القوى الإقليمية. وقد أثبتت هذه الحرب أن طهران تملك صناعة عسكرية متقدمة نسبيًا في مجالات محددة، وخاصة في الحرب غير المتكافئة. ومع تزايد الحديث عن تخفيف العقوبات في إطار مفاوضات محتملة، فإن موقع إيران في سوق التسليح العالمي مرشح للتوسع، خاصة في الأسواق الرمادية التي تبحث عن حلول غير مكلفة .
رابعًا: الطيران الحربي ساحة تنافس بين واشنطن وبكين من خلال مراقبة نماذج الطائرات المأهولة – وغير المأهولة المستخدمة في المعركة، والتركيز على طبيعة الردود العسكرية الأميركية والإسرائيلية، يتضح أن الطيران الحربي دخل طورًا جديدًا من التنافس التكنولوجي. الصين من جهتها، تطور جيلًا جديدًا من المقاتلات، وتسعى إلى تقديم بدائل للأسواق التي تخضع لقيود أميركية. إذآ الصراع لم يعد فقط على الأرض، بل بات في السماء والفضاء، وتكنولوجيا الطيران أصبحت ركيزة اساسية ومركزية في هذا التنافس .
خامسًا: إسرائيل في مأزق استراتيجي داخلي رغم ما تدعيه من نجاحات عسكرية، إلا أن الكلفة السياسية والاقتصادية للحرب كانت باهظة ناهيك عن تمزق في نسيج الامن المجتمعي الاسرائيلي . الخسائر المباشرة في الاقتصاد، ونزوح السكان من مناطق الشمال، والضغوط على الحكومة الائتلافية، كلها مؤشرات على أن إسرائيل دخلت الحرب دون استراتيجية خروج واضحة. وتبدو الآن في موقع المدافع، تبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه دون أن يؤدي إلى انتصار استراتيجي لطهران .
سادسًا: حضور الشروط الإيرانية في المشهد التفاوضي فمن الواضح ان الضغوط الدولية لوقف الحرب، خاصة من روسيا والصين وأطراف أوروبية، وبطبيعة الحال عربية فتحت الباب أمام الحديث عن الشروط الإيرانية، ليس من موقع الضعف، بل من موقع الفرض. وهذا يعني أن إيران تمكنت من حجز موقعها في أي تسوية قادمة تتعلق بالمنطقة، سواء في اليمن أو العراق أو الملف النووي .
سابعًا: الدور الأميركي في إعادة ضبط التوازن داخل إسرائيل . الحرب كشفت هشاشة الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل، ما أتاح للإدارة الأميركية التدخل المباشر في إعادة ضبط المشهد. ومن هنا فإن الحديث المتزايد عن حكومة وحدة وطنية أو تغيير في التحالفات الحزبية يعكس عمق الأزمة. إدارة ترامب تستثمر هذا الوضع للضغط على نتنياهو، وربما لإعادة رسم توازن جديد داخل المؤسسة الإسرائيلية .
ثامنًا: من الحرب الساخنة إلى المواجهة النقدية: اليوان في مواجهة الدولارمع تراجع التصعيد العسكري، يبدو أن النظام الدولي يتجه نحو مرحلة من “الهدوء الحذر”، تتحول فيه بوصلة الصراع من الميدان إلى الاقتصاد. الصين تسعى لتقويض هيمنة الدولار، وتعزز من دور اليوان في التجارة العالمية، خاصة في ظل تململ بعض الدول من استخدام الدولار كسلاح في العقوبات. من هنا، فإن الحرب قد تكون محطة انتقال نحو مشهد دولي جديد قوامه الاقتصاد النقدي والصراعات المالية.خلاصةالحرب بين إسرائيل وإيران لم تكن مجرد معركة إقليمية، بل محطة كاشفة لتحولات بنيوية في النظام الدولي. لقد أسهمت في إعادة تشكيل خطوط التماس بين القوى الكبرى، وفرضت وقائع جديدة على الأرض، على المستوى الجيوسياسي والاقتصاد والتكنولوجيا. وما بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها، لا في تل أبيب، ولا في طهران، ولا في واشنطن أو بكين .
اعلامي وكاتب لبناني