الدكتور طارق ليساوي: كيف يتمكن “سحرة العقول” من تحويل الخروف إلى كلب؟!

الدكتور طارق ليساوي: كيف يتمكن “سحرة العقول” من تحويل الخروف إلى كلب؟!

الدكتور طارق ليساوي
أشرت في مقال “عندما تصبح الرداءة سياسة عمومية..” إلى أننا نعيش في قلب سنوات عجاف أهم مخرجاتها تنامي متلازمة الهزال و تفشي التفاهة، بل الوضاعة و “التسلكيط” ، نسبة إلى الفنان الذي إختار أن يكتب على قميصه “سلكوط” و يوجهه لجمهور موازين بقلب العاصمة الرباط ، و ظاهرة “طوطو” ليست حالة فردية نجاز ، و لكن تعبير عن نمط أصبح يتسع و ينتشر في أوساط شبابنا ، فقد  حضر لحفلته الماجنة حوالي نصف مليون ، غير أن هذا النجاح الظاهري يثير في العمق أسئلة جوهرية تتجاوز “البوز” نحو مساءلة علاقتنا كشعب ومؤسسات بشبابنا، وبالثقافة نفسها ..

مخطط مشبوه

و ما كنت لأثير هذا الموضوع أو التطرق لهذا “الرابور ” المثير للجدل لولا أني أرى أنه تعبير عن مخطط مشبوه ، بل إنه ينشر ثماره و نموذجه الفاسد بدعم من جهات بعينها ، فلن ننسى ليلة الهروب الكبير في الفنيدق ، أن شبيبة  حزب أخنوش يرقصون ويرددون أغنية ” مهبول أنا” ، و هذا المهبول أصبح وزيرا في حكومة أخنوش !!  أي فنان هذا الذي يجاهر بتعاطيه المخدرات و يشيد بمختلف  السلوكيات المنحرفة، خصوصا وأن غالب جمهوره من اليافعين، بل أنه من منسوب الوقاحة و “قلة الحياء” والفجور، فكتب على صدر قميصه عبارة “SALGOT سلگوط” ، في رد على بنكيران الذي وصفه في أحد مدخلاته ب”السلكوط”. فهل السماح لمثل هذه النماذج السيئة الذكر بالصعود لمنصات عمومية خطوة في اتجاه  ل”سلگطة المجتمع”؟! فإذا كان لهذا الشخص جمهور يتابعه، فكان بالإمكان تنظيم حفلة في قاعة مغلقة، حتى نحمي الأطفال واليافعين من خطر كلامه السوقي والنابي، بدل منحه أكبر ساحة في الرباط، وهي ساحة السويسي..

إلهاء الجمهور

فالغرض من دعم مثل هؤلاء ” التافهين” تغدية النقاشات الهامشية و إلهاء الجمهور عن القضايا الأساسية و المصيرية ، و نقل إهتمام الناس من القضايا المصيرية قضايا العيش الكريم الحرية السياسية و المدنية ، العدالة الاجتماعية و عدالة التوزيع ، الفساد و الاستبداد السياسي، نهب الثروات الوطنية، هدر المال العام بدون محاسبة او مراقبة…هذا بالإضافة إلى  محاولة التغطية عن موقف المغرب الرسمي من قضية الانتهاكات الجسيمة التي تتم في غزة و الاقصى و عموم فلسطين، و موقف وسائل الإعلام العمومية التي أصبحت تساوي الجلاد بالضحية في تغطيتها للأحداث..
لابد أن نركز على ما يريدوننا تجاهله و عدم متابعته ، فالنقاشات الهامشية لا تصنع التغيير ..فبنظري السياسي و عالم الدين و المثقف و الفنان و أهل الصحافة و الإعلام و المؤثرين.. ،  الذين لا يتكلمون عن الظلم و نهب الثروات الوطنية و الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان .و تدمير الانسان و انتهاك كرامته ، أكثر ضررا من هذا “السلكوط” أو ذاك “المهبول” !! فعلى الأقل نعلم جميعا انهم “سلاكيط” و “مهابيل” وفق توصيفهم ، فهم يعترفون بأنهم تربوا في  مدرسة الشارع، و لم يحصلوا على التربية و التعليم ، و كانوا عرضة للإدمان و الإنحراف ، فهؤلاء ضحايا سياسات عمومية تربوية و تعليمية  فاسدة ، فهم من حيث لا يعلمون ينتقدون و يتمردون على واقع فاسد أضر بهم …

استراتيجية الإلهاء

تناولت هذا الموضوع  للتحذير من استراتيجية الإلهاء التي وجدت ضالتها في جدل هامشي لن يغير من واقع غالبية المغاربة في شيء، لكن تم تضخيمه و النفخ فيه لتحويل الأنظار عن سياسات حكومة  أخنوش و قرارتها التي تنذر بالمزيد من الأزمات و الكوارث الاقتصادية و الاجتماعية… “فليس كل ما يُقال في الإعلام تصدقه، ولا يمكن النظر إليه على أنه يمثل الحقيقة الكاملة، فكثير من الحكام وأصحاب السلطة يُخفون أجنداتهم وخططتهم الحقيقية باستخدام الإعلام والدعاية، اللذين لهما الدور الأبرز في تشكيل الرأي العام وتكوينه، فبفضلهما تنشأ حركات اجتماعية أو تندثر، وتبسط وتخفف بعض الأزمات الاقتصادية، وتٌبرر الحروب، ويتم تأجيج وإشعال الخلافات بين الأيدولوجيات المختلفة…

نعوم تشومسكي

هكذا تحدث عالم اللسانيات والمفكر “نعوم تشومسكي”، الذي يجيب على سؤال مفاده، كيف يؤثر الإعلام علينا نفسيا بهذا الشكل؟ من خلال بلورة 10 استراتيجيات يسلكها الإعلام الموجه لإحداث تلك التأثيرات النفسية، وبالرغم من أن بعض هذه الأدوات واضح إلى أنه لايزال على قدر كبير من الفاعلية والتأثير على الناس، ومن وجهة نظر البعض فإن هذه الأدوات مهينة وتعزز الغباء، وقد استند تشومسكي في كشفه لتلك الاستراتيجيات إلى “وثيقة سريّة للغاية” يعود تاريخها إلى مايو 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986، و تحمل عنوان: “الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة “، وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر السيطرة على المجتمعات…و تم اختزال هذه الأسلحة في 10 استراتيجيات :
 – استراتيجية الإلهاء
–  اخلق المشكلة ووفر الحل
–  التدرج
– التأجيل
– خاطب العامة كأنهم «أطفال»
– ستخدم الجانب العاطفي بدلا من الجانب التأملي
– إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء
– تشجيع العامة على الرضا بجهلهم
– تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب
– معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم
و على رأس هذه الأسلحة الصامتة ” استراتيجية الإلهاء ” ويقول “تشومسكي” أن عنصرًا أساسيًا في التحكم الاجتماعي هو إلهاء انتباه العامة للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كم كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وتتضمن تلك الاستراتيجية أيضا منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية…

سيكولوجية الجماهير

و يكفي العودة لكتاب “سيكولوجية الجماهير” لمؤلفه “غوستاف لوبون ” و الذي حاول من خلال كتابه وضع لبنات علم النفس الاجتماعي، و الكتاب يعد بحق  مرجعًا مهمًا لفهم نفسيات الجماهير، وطريقة تفكيرها، والطرق التي تتأثر بها وتتحرك بناءً عليها. ولا نبالغ حين نقول إن الكتاب يُعَدّ دليلًا مرجعيّا، استخدمه الحكّام وقادة الحركات الجماهيرية لفهم نفسيات الجماهير وتوجيهها نحو الهدف الذي يريده الزعيم..
وقد أشار غوستاف لوبون في كتابه إلى الخصائص النفسية للجماهير و من ذلك :
1-تلاشي الشخصية الواعية، 2-هَيْمَنة الشخصية اللاواعية، 3-تَوَجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار،4 -الـمَيل لتحويل الأفكار المـُحرَض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.. وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح إنسانًا آليًّا ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.
و بنظره فإن الجمهور هو أدنى مرتبة من الإنسان المُفْرَد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية، ولكن يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل، وهذا يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه بها، صحيح أنها بطولات لا واعية إلى حد ما، ولكن التاريخ لا يُصنع إلا من قِبَل بطولات كهذه…”إن الجماهير تشبه الأوراق التي يلعب بها الإعصار ويُبَعْثرها في كل اتجاه، وهذه الصفة تجعل من الصعب حُكمها، ولولا ضرورات الحياة اليومية والتي تُشكّل نوعًا من الميزان الناظم غير المرئي للأحداث لما استطاعت الأنظمة الديمقراطية أن تستمر، وفي كل الخصائص النفسية للجماهير يتدخل (العِرْق )؛ فهناك فارق بين الجمهور اللاتيني والجمهور الأنجلوساكسوني؛ فالجماهير أُنثوية في كل مكان، ولكن أكثرها أُنثوية هي الجماهير اللاتينية.
إن الجمهور غير قادر على الاحتكام للعقل ومحروم من كل روح نَقْديّة؛ ولذلك فإنَّه يُبدِي سرعة تصديق منقطعة النظير، وكذلك قدرة هائلة على التضخيم والتشويه، وينتج عن ذلك أنه ينبغي أن نعتبر كُتُب التاريخ بمثابة كُتُب الخيال الصِّرْف؛ فهي عبارة عن حكايات وهْميَّة عن وقائع لُوحِظت بشكل رديء، كما أنها مصحوبة بتأويلات شُكِّلت فيما بعد.
إن الجماهير لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف المتطرّفة والشعارات العنيفة، وكذلك التكرار دون إثبات أي شيء عن طريق المُحاجّة العقلانية، والجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة؛ فالاستبداد والتعصب يشكِّلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها، وبما أن الجماهير مستعدة دائمًا للتمرد على السلطة الضعيفة فإنها لا تحني رأسها بخضوع إلا للسلطة القوية، وإن كانت هيبة السلطة متقطّعة فإنها تعود إلى طباعها المتطرّفة، وتنتقل من الفوضى إلى العبودية، ومن العبودية إلى الفوضى…
أيها السادة أدرك أني أثقلت عليكم قليلا و دخلت بكم إلى حواري ودروب ملتوية في الظاهر لكن في الواقع أنها متشابكة، و غايتي من استحضار نعوم تشومسكي و كتاب سيكولوجية الجماهير، توضيح أن ما نتحدث عنه هو علم له قواعده و أليات إشتغال..
 وبالعودة  إلى سياسة الإلهاء و كنموذج للدراسة حديث “السلكوط ” فهذه السياسات الإلهائية نسجلها و نلاحظها باستمرار عندما تقع الحكومة في أزمة داخلية يصعب عليها حلها، و تجعلها تشعر بخطر يهدد كيانها و ديمومتها، و لذلك تلجأ إلى عملية الإدارة بالأزمة، بمعنى خلق أزمة معينة سواء داخلية أو خارجية، لتوجيه الرأي العام الداخلي ..

تحويل الخروف لكلب

و لتقريب الصورة أو بالأحرى توضيح منهجية غسل الأدمغة سأروي عليكم هذه القصة :
يروى أنه كان لأحد الأشخاص خروفا أراد بيعه فأخذه إلى السوق
فشاهده أربعة لصوص فاتفقوا أن يسرقوا منه الخروف بأسلوب ذكي، فتقاسموا الجلوس على جانب الطريق المؤدية للسوق التي سيمر منها صاحب الخروف، فجلس الأول في بداية الطريق المؤدي للسوق، وجلس الثاني في ربع الطريق الأول، وجلس الثالث بعد منتصف الطريق، وجلس الرابع قبل نهاية الطريق بقليل..
فمر صاحب الخروف من جانب اللص الأول وألقى عليه السلام فرد اللص السلام وبادره بالسؤال : “لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك ؟!”
فالتفت صاحب الخروف إلى اللص وقال له : “هذا ليس كلبا إنه خروف سأذهب لبيعه في السوق ثم تركه وانصرف..”
وبعد مسافة التقى باللص الثاني وإذا به يسأله :”لماذا تربط هذا الكلب وتقوده خلفك ؟!”
فنظر إلى اللص وقال له :” هذا خروف وأنا ذاهب لأبيعه في السوق..”
وتركه وانصرف.
لكن الشك بدأ يتسرب إلى قلبه فأخذ يتحسس الخروف ليتأكد هل هو كلب فعلا كما سمع من الرجلين ام انه خروف كما يعتقد هو ؟!! وبعد مسافة التقى باللص الثالث وإذا به يسأله نفس الأسئلة السابقة :
“لماذا تربط الكلب خلفك ؟”..
فاندهش صاحب الخروف وزادت حيرته ونظر إلى اللص ثم انصرف ولم يجبه على سؤاله لأنه بدأ يتأكد أنه يقود كلبا وليس خروفا ، وبعد مسافة ، التقى باللص الرابع فسلم عليه وبادره اللص قائلا :”ماذا بك يا رجل ، تربط الكلب وتقوده خلفك ؟!!” ..
هنا تأكد صاحب الخروف أنه يقود كلبا وليس خروفا فليس من المعقول أن يكون الأربعة كاذبون، ثم التفت إلى اللص وقال له :” لقد كنت في عجلة من أمري فاعتقدت أن هذا الكلب خروفا فربطته لأذهب به إلى السوق وأبيعه، ولم يتبين لي أنه كلب إلا الأن..”
 ثم فكّ وثاق الخروف وأطلق سراحه وعاد مستعجلا إلى بيته يبحث عن خروفه .فأخذ اللصوص الخروف وانصرفوا وهم يتهامسون بسرور وغبطة .!
هكذا تتم صناعة الرأي العام والتضليل من قبل المحترفين عبر وسائل الإعلام المختلفة و المتنوعة ، فجهودهم تصب في اتجاه  تزييف وقلب الحقائق وصناعة المشاهد التمثيلية للخداع واللعب بالعقول ، علينا أن نثق في ما كان في يد صاحب الخروف ” خروف” وليس ” كلب ” كما أوهموه ، و أن ما ذهب به اللصوص خروف ، فالحقيقة تنكشف و لو بعد حين ، لكن لحظة إكتشافها سيكون لصوص المستقبل سرقوا منك مستقبلك ، لذلك يجب ألا نترك قناعتنا وثقافتنا ومعرفتنا تحت تصرفات اللصوص وبالأخص لصوص العقول.. و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب وأستاذ جامعي