وسائل النفوذ الإيراني من دون استخدام أسلحة الدمار الشامل

وسائل النفوذ الإيراني من دون استخدام أسلحة الدمار الشامل

 

د. محمد علي صنوبري

في عالم تتبدل فيه القيم وفقاً للمصالح، وتُخرق فيه القوانين الدولية أمام أعين الجميع دون مساءلة، تبرز إيران كلاعب إقليمي ودولي يتعاطى مع الساحة السياسية والعسكرية بمنطق مغاير. هذا المنطق لا ينبني فقط على الحسابات الجيوسياسية والبراغماتية، بل يتقاطع معها بعمق مع معيار ثابت، وهو الالتزام بالأخلاق كعنصر مكوّن في صناعة القرار، لا كمجرد خطاب إعلامي يُسَوَّق عند الحاجة.
لقد شكلت حرب الإثني عشر يوماً الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني نموذجاً صارخاً لهذا الفارق الجذري في التعاطي مع الحروب ومعاييرها. ففي حين عمد الكيان إلى استهداف المستشفيات والمدارس والمراكز السكانية المكتظة، سعياً إلى إحداث أكبر قدر من الخسائر البشرية بين المدنيين، اختارت إيران رغم ما تعرضت له من عدوان أن تحصر ردّها في القواعد العسكرية والمواقع الجوية. حتى أن الهجوم الإيراني لم يتوسع ليشمل البنى الاقتصادية للكيان المحتل بشكل كبير، رغم أن هذه الأهداف كانت متاحة وموجعة في ذات الوقت إلا أن طهران استهدفتها كردة فعل فقط.
هذه الإستراتيجية الإيرانية لم تكن نتيجة ضعف في الإمكانات أو قيد عسكري ميداني، بل كانت تعبيراً عن منهج أخلاقي طويل الأمد تبنّته الجمهورية الإسلامية منذ انتصار ثورتها في عام 1979. فإيران، ومنذ لحظة ولادتها الثورية، رفضت أن تتعامل مع فكرة “الغاية تبرر الوسيلة” التي أصبحت أساساً في مقاربة السياسات الغربية والعديد من الأنظمة الإقليمية. فبالنسبة لصناع القرار في طهران، لا تُخاض المعارك بهدف الانتصار بأي ثمن، بل لتحقيق الأهداف المشروعة ضمن ضوابط أخلاقية صارمة، مستمدة من تعاليم الإسلام وتوصيات المرجعيات الدينية العليا.
ولعل من أبرز ما يدل على هذا المنهج، هو التزام إيران الصارم بفتوى قائد الثورة الإسلامية، الإمام السيد علي خامنئي، التي تحرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها السلاح النووي. هذه الفتوى، التي صدرت في وقت كانت فيه كل الظروف الإقليمية والدولية تدفع نحو عسكرة الملف النووي الإيراني، تُعد بمثابة إعلان مبدئي واستراتيجي عن موقع الأخلاق في القرارات المصيرية. فبالرغم من امتلاك إيران البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة لإنتاج قنبلة نووية، وبالرغم من تكرار الاعتداءات الإسرائيلية والأميركية على منشآتها النووية، فإن طهران لم تستثمر هذه الهجمات كذريعة للذهاب إلى السلاح النووي. لقد اختارت، وهي القادرة، أن ترد بالحجة والأخلاق والتمسك بالمبادئ.
هذا الموقف لم يكن بلا كلفة. ففي عالم تتصاعد فيه لغة الردع بالدمار والتهديد الشامل، تعرضت إيران لحصار طويل، وعقوبات اقتصادية معقدة، وهجمات سيبرانية وميدانية طالت مواقع حساسة في بنيتها التحتية. ومع ذلك، لم تغيّر من رؤيتها، بل استثمرت في تطوير قدراتها التقليدية وتحصين جبهتها الداخلية ورفع منسوب قوتها الاستراتيجية، مع الإصرار على أن لا تجعل من القيم مادة تفاوض أو عنصراً ظرفياً.
ولأن هذه المبادئ ليست شعارات بل خيارات استراتيجية مدروسة، نجد أن حتى الخطاب الرسمي الإيراني في ذروة الاشتباك لا يتسم بلغة التشفي أو الإبادة، بل يعبر عن هدف واضح هو تحرير القدس لا تدمير الكيان فحسب. وهنا يبرز الفارق النوعي في فلسفة الصراع، فبينما تبني إسرائيل مشروعها على الإلغاء والإبادة وتدمير الآخر، تبني إيران مشروعها على استنهاض الشعوب وتحرير الأرض وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية دون أن تفرّط بمبادئها.
اللافت أن هذه السياسة لم تمر مرور الكرام، حتى في نظر الخصوم. فالهجوم الأميركي-الإسرائيلي على منشآت إيران، والذي جاء في ذروة مفاوضات نووية كانت طهران قد دخلتها بنيّة حسنة، كشف للرأي العام العالمي حجم التناقض بين من يلتزم بالمعايير ومن يخرقها دون رادع. هذه الحادثة، كما أشار إليها العميد محمد رضا نقدي القيادي الكبير في الحرس الثوري الإيراني، ليست مجرد تطور ميداني، بل لحظة سياسية كشفت عن انهيار سردية الغرب تجاه إيران، والتي طالما صُورت كطرف غير عقلاني أو متطرف. على العكس، أظهرت الوقائع أن من يرفض القيم الإنسانية والأخلاقية هو من يعادي إيران، لا إيران نفسها.
وما قاله نقدي بوضوح شديد بأن الانتصار لا يُقاس بمقدار الدماء التي تُراق، بل بمقدار التمسك بالمبادئ وسط الحرب، هو جوهر المعادلة الإيرانية. فالنصر الذي تسعى إليه إيران ليس مجرد تسجيل نقاط على الجبهة العسكرية، بل هو نصر شامل يحقق التقدم الميداني دون أن يهدر الأخلاق أو يخرق مبادئ الإسلام.
إن الالتزام الإيراني بالقيم الأخلاقية والدينية ليس مجرد خيار داخلي، بل هو محدد جوهري في تشكيل علاقاتها الإقليمية والدولية، سواء مع الأعداء أو حتى مع الحلفاء والأصدقاء. فإيران لا تتعامل مع الصداقة والتحالف من باب المصلحة المجردة فقط، بل وفق معيار الثبات على الموقف، والنصح في العلاقة، وعدم الخداع أو الاستغلال، وهي أبعاد تبدو نادرة في نظام دولي قائم على موازين القوة وتقلب الولاءات.
في علاقاتها مع الدول الصديقة، تلتزم إيران بمبدأ الشراكة العادلة، لا التبعية. فهي لم تسعَ لفرض وصايتها على حلفائها، ولم تُرغمهم على تبني أجندتها كما تفعل بعض القوى الكبرى، بل احترمت سيادة شركائها في محور المقاومة، ودعمتهم وفق ما يطلبونه لا وفق ما تمليه هي. وهذا يعكس فهماً أخلاقياً لمسؤولية الدعم؛ فالمساندة ليست وسيلة للهيمنة، بل امتداد طبيعي للرؤية المشتركة. لذلك نجد أن حلفاء إيران، من لبنان إلى اليمن والعراق، يحتفظون باستقلاليتهم السياسية والعقائدية، رغم شدة التعاون مع طهران.
وحتى في ظل تباين بعض المواقف، لا تتعامل إيران مع الخلاف كذريعة للقطيعة أو الابتزاز. هذه السمة الأخلاقية في إدارة العلاقة مع الأصدقاء، جعلت تحالفاتها أكثر صلابة، لأن أساسها ليس المصلحة العابرة بل المبادئ المشتركة. وهذا ما يفسر تماسك محور المقاومة رغم الأزمات الهائلة التي واجهتها المنطقة.
أما على الجبهة المعادية، فإن السلوك الإيراني ينبني على موازنة دقيقة بين الحزم والانضباط. فبينما لا تتردد إيران في الرد على الاعتداءات، وتحتفظ لنفسها بحق الرد الاستراتيجي، فإنها في ذات الوقت تلتزم بقواعد الاشتباك التي تضع الإنسان في قلب المعادلة. في الواقع، أحد أعقد التحديات التي واجهت إيران خلال العقود الماضية تمثل في هذا التناقض الأخلاقي الصارخ بينها وبين أعدائها؛ فأميركا وإسرائيل، وغيرهما من القوى المعادية، يضربون دون تمييز، ويستهدفون المدنيين بلا رادع، ويستخدمون سلاح الحصار لتجويع الشعوب، بينما تختار إيران الرد وفق قيود أخلاقية صارمة، رغم الأثمان الباهظة لهذا الخيار.
هذا التباين لم يمر دون أن يطرح تساؤلات حتى داخل المجتمع الإيراني نفسه: إلى أي مدى يمكن مواصلة هذا الالتزام في وجه عدو لا يعرف قيداً؟ الجواب الإيراني، كما يظهر من الأداء السياسي والعسكري، ليس إنكاراً لهذه الصعوبة، بل التأكيد على أن الحفاظ على المبادئ هو شكل من أشكال المقاومة في ذاته. فالمعادلة الإيرانية لا تعتبر الرد بالمثل ضرورة حتمية، بل تضع “الحق” في قلب الفعل السياسي، حتى وإن بدا ذلك مكلفاً على المدى القصير.
إن فلسفة إيران في هذا السياق لا تستمد جذورها فقط من المرجعيات الدينية، بل تمتد إلى تصور حضاري أعمق يرى أن بناء المستقبل لا يكون عبر تخريب الحاضر. فالدولة التي تسعى لتحرير القدس، لا يمكن أن تمهد لهذا التحرير عبر المجازر أو القتل. وبهذا المعنى، فإن إيران لا تخوض معركتها فقط في ساحات القتال، بل تخوضها أيضاً في تشكيل وعي عالمي جديد حول كيفية إدارة الصراع بكرامة.
هذا البعد الأخلاقي في السياسة الإيرانية بدأ يترك أثره في الرأي العام العالمي، خاصة مع تزايد النفور من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الأميركي. فالمشاهد القادمة من الحرب الأخيرة، والتي أظهرت دقة الضربات الإيرانية وتجنبها الواضح للأهداف المدنية، كشفت عن نمط مغاير من الحروب، لا يعتمد على الترويع بل على الرسالة الواضحة، نحن قادرون، لكننا نرفض أن نكون مثل أعدائنا.
وفي هذا السياق، فإن انتصار إيران لا يُقاس فقط بالنتائج المادية للحرب أو بالضربات التي تنفذها، بل يُقاس بقدرتها على البقاء متمسكة بمنظومتها القيمية، حتى في أحلك الظروف. وهذا النمط من الصمود ليس أقل شأناً من الانتصار العسكري، بل هو الشرط الأساسي له؛ إذ أن من يفقد بوصلته الأخلاقية يفقد شرعية انتصاره، مهما بلغت قوته.
لقد سعت قوى الاستكبار العالمي، منذ انتصار الثورة الإسلامية، إلى تصوير إيران كطرف غير عقلاني، يهدد استقرار المنطقة، ويشكل خطراً على الأمن العالمي. لكن مع كل محطة من محطات الصراع، تكشف إيران عن نقيض هذا الاتهام، وتثبت أنها أكثر توازناً من خصومها، وأكثر اتساقاً مع القانون الدولي، حتى عندما يُخالفه خصومها جهاراً.
إن التجربة الإيرانية تقدم في هذا السياق نموذجاً فريداً لدولة استطاعت أن توفّق بين القوة والمبدأ، بين البراغماتية والسيادة الأخلاقية. وهي بهذا لا تدّعي الكمال، لكنها تضع معياراً عالياً للمحاسبة الذاتية، وترفض أن تُختزل في ردود الأفعال العنيفة أو الحملات الشعاراتية.
وفي زمن الانهيارات الكبرى، وتفكك المعايير، تظل الجمهورية الإسلامية واحدة من التجارب القليلة التي ما زالت ترى في الأخلاق السياسية ضرورة استراتيجية، لا ترفاً خطابياً.
ختاماً، يمكن القول إن المعادلة الأخلاقية التي تمسك بها إيران قد تكون مؤلمة في لحظات، مكلفة أحياناً، لكنها على المدى البعيد تصنع مشروعاً تاريخياً قابلاً للاستمرار، لأنها تقوم على قاعدة لا تزول بزوال السلاح أو تبدل الظروف، بل تمتد بامتداد الروح الحضارية للأمة الإسلامية، التي تأبى أن تنتصر بانتهاك مبادئها.
مدير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية