بلغراد، بغداد، طهران، بيونغ يانغ، إسلام أباد

علي الزعتري
التاريخ مدرسةٌ للواعي. بين مارس ويونيو ١٩٩٩ قام حلف شمال الأطلسي بقيادةٍ أمريكية من الجنرال ويسلي كلارك، بحملةِ قصفٍ جويةٍ ضد يوغوسلاڤيا لثني الصرب عن مجازرهم بحق الأقلية البوسنية المسلمة. قِيلَ الكثير عن تلك الحملة و عن التوجه الأطلسي لكن بشاعة ما فعله اليمين الصربي بمسلمي البوسنة والهرسك طغى على ماهيةِ التوجه الذي كان في الحقيقةِ يضع المسامير في نعوش بواقي المعسكر الأوروبي الشرقي الموالي لغير الغرب، ولم تكن روسيا قادرةً وقتها على منع الحملة ولا استطاعت الصين التي قُصِفت سفارتها ببلغراد من فعلِ شيئٍ غير الاحتجاج وقبول اعتذار الرئيس بيل كلينتون أن القصف كان خطأً. كان عقد التسعينات حافلاً بالأحداث العظام بدءً من غزو العراق للكويت و هزيمة العراق وبدء حصاره وتقسيمه، و سقوط الاتحاد السوڤييتي وتناثر جمهورياته و ها هو ينتهي بقصف يوغوسلاڤيا توطئةً لخلق جمهورياتٍ بتلك البلاد لا تحمل سياسة الاشتراكية بل مُثُلَ الديموقراطية والرأسمالية الغربية.
ولم تكن طرابلس الغرب بمعزلٍ عن الطلعات الجوية الأمريكية “التدريبية” الإنتقامية فمنذ ١٩٨٥ دخلت وليبيا في صراعٍ حول خليج سرت انتهى بمعركةٍ خسرتها ليبيا و عام ١٩٨٦ قصفت أمريكا قاعدة العزيزية في قلب العاصمة الليبية انتقاماً لتفجير ملهىً ليليٍّ قالت أنه من تدبير ليبيا. أبقى العقيد الراحل معمر القذافي مبنى سكنهِ بها الذي دمره القصف مزاراً وتذكاراً. لم تحدث لوكربي إلا بعدها بعامين ووُضِعت ليبيا المتهمة بها تحت الحصار الجوي الذي استمر نحو عقدٍ من الزمان انتهى باتفاقٍ للتعويض المالي وتسليم من تم اتهامهم من الليبيين و لاحقاً تفكيك السلاح الكيميائي وبذور النووي الليبي. في ذلك العام، ١٩٨٦، كانت القوات الأمريكية تستعد بإحدى الولايات الأمريكية المشابهة لغزوِّ بلدٍ عربي صحراوي. كانت غزوتها فوق ليبيا اختباراً عملياً لطياريها الذين راوغوا وحدات الدفاع الصاروخية والطائرات الليبية الروسية. وسرعان ما حدث غزو الكويت وحرب الخليج الأولى فكانت التمرين العملي الثاني. وكان قصفَ بلغراد التمرين العملي الثالث. كانت بلغراد النموذج الأساس لتحييد القوة العراقية بأصنافها وهذا ما حدث في عام ٢٠٠٣. كانت الأحجار العدوة للغرب تبدأ في التساقط التدريجي ببلادنا. تتوجت لوحة الدومينو بالسقوط المتوالي في “الربيع العربي” واستمرار الفوضى في المشرق والمغرب و الأوسط والجنوب العربي. كلها مناطق مشتعلة ومناطق تنتظر الاشتعال.
كان معبر بلغراد – بغداد درساً استوعبته كوريا الشمالية التي طَوَّرت سلاحها وعززته بالنووي. حذت إيران حذوها مُعْلِنةً برنامجها السلمي للطاقة النووية و مُتعاونةً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومًتفاوِضةً مع الغرب الذي أعلمها أن التحول للسلاح النووي ممنوع وأن الطاقة النووية السلمية ممكنةٌ تحت الرقابة الغربية بالغطاء الدولي للوكالة. كان الغرب والصهيونية متفقان على منع السلاح النووي لأي أحدٍ بعد نجاح الباكستان وكوريا الشمالية في الإفلات و ترسيخ الأمر الواقع أنهما انضمتا للنادي النووي. وكانت إيران النووية سلماً وعسكرياً تهديداً لا يمكن تجاهله، فإيران التي انتزعت الشاه من عرشهِ الطاووسي ومنحت سفارة الصهيونية لفلسطين والتي احتجزت الرهائن الغربيين وسارت تصاعدياً في فردِ نفوذها وفي عداءها “للشيطان الأكبر” و “إسرائيل” تشكل تحدياً نفسياً وحقيقياً للغرب الذي يرى فيها كذلك صعود الدين كعاملٍ أساسي في بناء النفوذ وهو عاملٌ يتجاوز حدود (نفاق) التسامح العلماني الغربي مهما حاول. لذا كان قرار التخريب والاغتيالات والحرب وتغيير النظام الذي استمر طوال ربع القرن الأول من الألفية الثانية، وهو قرارٌ لن يتوقف باتفاق وقف إطلاق النار مع إيران الإسلامية وقد يتوقف فقط إن عادت إيران للشاهنشاهية والاستسلام للغرب أو تشرذمت دولاً متناحرةً يجد فيها الغرب والشرق مناطق نفوذٍ.
ولا بد لكوريا الشمالية أن تستقي من الحرب الإيرانية – الصهيونية – الأمريكية الأخيرة دروساً عديدةً . وربما كذلك الباكستان. الدولتان وقفتا علناً مع إيران وربما زودتاها أو تنويان تزويدها والتعاون معها بالتقنية المتقدمة والسلاح. وهو ما لن يقبله الغرب. الغرب سيعمد لشيءٍ ما يوقف ما يراه التهديد الباكستاني النووي الإسلامي والتهديد النووي الكوري الشمالي الشيوعي والتهديد المتماثل بالتحدي الإيراني المتواصل فحتى إن تخلت إيران عن النووي فسيطاردون صواريخها العابرة. والأيام ستكشف. الغرب جشعٌ وفي مخيلتهِ المتأصلة أنه يحكم العالم. والصهيونية ذراعهُ الأثير ليفعل ذلك بمنطقتنا و ربما عبر كل البحار و القارات.
الأردن