فاطمة عبدالله: الأبعاد السلبية للكتابة في عصر التكنولوجيا البصرية

فاطمة عبدالله: الأبعاد السلبية للكتابة في عصر التكنولوجيا البصرية

 

 

فاطمة عبدالله
 لطالما كان الأدب قبساً من النفس الإنسانية متوهجا بجمالياته التي تخاطب الأرواح وتنقل الأفكار كما لو كانت زخارف ملونة تتحرك في نسيج الحكاية والخيال. عبر العصور انتقل الأدب من الشفهي إلى الكتابي حاملاً معه خلاصة التجارب الإنسانية وقيمها العميقة. كان الأدب ولا يزال رحلةً تفيض بالمعاني التي تبهج القلوب وتغذي المشاعر كرسالة في خضم الفوضى وغنوة هائمة في ليل الحياة.

ثم جاء الأدب الإلكتروني إنه عالم جديد براق لكنه سريع الانطفاء يمتلئ بأصداء تتردد على حواف الشاشة وأصوات تتنازع على الهتاف والتصفيق. في هذا العالم الرقمي حيث الكلمات تلاحق ظلالها والأفكار تتسارع كأنما تُبنى وتنهار في نفس اللحظة تبدو الكتابات أحياناً وكأنها مجرد أوسمة على جدران رقمية أو تسويقاً لأسماء تلمع ببريق صناعي…

إنّ الأدب الرقمي لا يقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي أو المقالات العابرة بل يشمل أيضاً  أشكالاً تفاعلية جديدة من الشعر والروايات الإلكترونية التي تحمل في طياتها جمالية مختلفة وتتيح للقارئ الغوص في تجربة أدبية فريدة. ولكن مع توافر هذا التنوع تزداد أيضاً صعوبة العثور على الأدب الأصيل بين المحتوى العابر حتى يبدو أن الكلمة باتت تحمل من الزيف أكثر مما تحمل من المعنى…

في هذا العالم الافتراضي حيث الكلمات عائمة في بحر من المدح والصراعات إذ  يكفي تعليق بسيط ليُرفع المرء إلى مقام شاعر ينافس أصحاب المعلقات ويكفي خلاف طفيف ليصبح أثره كأنه لم يكن إن لم يرضِ أهواء الجماهير الافتراضية..

لكن، هل يفقد الأدب هنا أصالته؟ أليس هذا الفضاء الرقمي بكل زخم ضجيجه أشبه بزبد البحر سرعان ما يتبدد مع أول موجة؟ قد يجادل البعض بأن هذا التطور طبيعي ويمنح الكتابة فرصاً جديدة للتوسع وأنه يشجع المواهب الشابة لكن هل يمكن لهذا التوسع أن يستبدل العمق والتجربة الإنسانية التي تشكل جوهر الأدب الحقيقي؟

إنها قمة التناقض أن أكتب عما لا أؤمن به أو بما لا أفعله. أن أكتب عن الحب، النقاء، الصدق والوفاء، بينما لا أملك من هذه الخصال مقدار ذرة. أن أرسم بالكلمات صورة مثالية، خيالية وأدعي فيها الطهر والشفافية في حين أكتفي بالعيش على هامش هذه الفضائل بعيداً عن أعماقها…

أليس هذا ما يفعله كثيرون اليوم؟ أن نصوغ مشاعر منمقة وأفكاراً رقيقة، ونبني عالماً وهمياً بالكلمات وحدها حتى باتت الكلمة تثير من الزيف أكثر مما تثير من المعنى…

وفي النهاية هل يعني هذا أننا ندير ظهورنا ونبتعد آلاف الأميال الضوئية عن هذا العالم الرقمي المتقلب؟ أم نقف مثل مراقبين على ضفاف الحداثة نرقب ما تبقى من الأدب بين خيوط الضوء والظلال؟ هل ننجح في إيجاد توازن بين الأصالة ومتطلبات العصر أم سنكتفي بالتأمل تاركين الكلمة عرضةً للتحولات، وقد تصبح يوماً بغير معنى؟

في ضوء ما سبق،  فإن الكتابة في الفضاء الرقمي تقف بين نقيضين : إتاحة غير مسبوقة للتعبير، وتحديات عميقة تمس جوهر الأدب ذاته. فبين رواج اللحظة وابتذال التفاعل، يُطرح سؤال محوري: ما الذي يبقى من الكلمة حين تُجرد من معناها لصالح وقعها؟
في هذا السياق، لا يُعدّ الخطر في الوسيط الرقمي بحد ذاته، بل في فقدان المعايير الجمالية والفكرية التي تمنح الأدب شرعيته وقيمته. إن التحولات التقنية تفرض ضرورة إعادة التفكير في وظيفة الكتابة ومعايير تلقيها، لكنها لا تُعفي الكاتب من مسؤولية الصدق الإبداعي وعمق الرؤية.

فالأدب، في جوهره، ليس مجرد خطاب يُعرض بل تجربة تُعاش، وكلما ازداد ضجيج الواجهات، تعاظمت الحاجة إلى صوت يخرج من العمق، لا من صدى الجمهور.

  أستاذة جامعية في قسم اللغة الإنجليزية/ السويد , مدونة وأديبة وناقدة .