عمر الهند: عندما يصبح المؤامرة خيالاً مريحاً: تحليل لاستراتيجيات السيطرة العالمية

عمر الهند: عندما يصبح المؤامرة خيالاً مريحاً: تحليل لاستراتيجيات السيطرة العالمية

 

هند عمر
في كل مرحلة من المراحل الحرجة التي تمر بها الإنسانية تعود إلى السطح مفاهيم مشبعة بالغموض والإثارة مثل الماسونية والمليار الذهبي فتُستحضر بوصفها تفسيرات جاهزة ومريحة لكل ما يجري من اختلالات سياسية واقتصادية واجتماعية ويجد فيها كثيرون تبريرًا مقنعًا لحالة الظلم العالمي المتصاعد وكأن ثمة نخبة خفية تدير العالم بأزرار غير مرئية وتحرك خيوط المصير من وراء الستار.
الماسونية بوصفها تنظيماً أخوياً نشأ في أوروبا في القرن الثامن عشر لها وجود تاريخي حقيقي وموثق وقد مثّلت لحقبة معينة شبكة تواصل للنخب الفكرية والسياسية الغربية التي تبنّت شعارات العقلانية والحرية والنهضة لكنها عبر الزمن تحوّلت في المخيال العام إلى رمز للهيمنة والسيطرة واستُخدمت في عشرات السرديات الغامضة التي تربطها بكل ما هو شرير وغامض بدءاً من التحكم في مصائر الشعوب وانتهاءً بإشعال الحروب وإسقاط الأنظمة وبينما لا يمكن إنكار أن بعض الشخصيات النافذة في الغرب كانت جزءًا من هذه المنظومة إلا أن تصويرها كقوة مطلقة تُمسك بمفاتيح القرار العالمي يتجاهل الديناميكيات الحقيقية للسلطة التي لم تعد حكراً على كيانات سرية بل تمارس نفوذها علنًا من خلال مؤسسات اقتصادية دولية وشركات متعددة الجنسيات وأذرع إعلامية وثقافية ضخمة.
أما مصطلح المليار الذهبي فهو لا يستند إلى خلفية تنظيمية بل هو توصيف نقدي لحالة الرفاه القصوى التي يعيشها سكان الدول الصناعية الغنية مقابل التهميش الممنهج والحرمان المزمن الذي يعاني منه بقية سكان الكوكب خاصة في دول الجنوب العالمي وتقوم فلسفة هذا المصطلح على الإشارة إلى أن هناك مليار إنسان يتمتعون بنصيب الأسد من الثروات والموارد بينما يُترك ما تبقى من سكان الأرض يتصارعون على الفتات والوظائف المؤقتة والفرص المحدودة وقد صار هذا الانقسام أكثر وضوحًا في ظل العولمة التي وسّعت الفجوة بدل أن تردمها ورسّخت أشكالاً جديدة من التبعية والاستغلال المغلّف.
تكمن المشكلة الحقيقية في أن اللجوء إلى الأساطير الكبرى لتفسير الظواهر المعقدة غالبًا ما يُضعف القدرة على التحليل الواقعي ويُنتج وعياً سطحيًا بالعالم فالخلل العالمي القائم اليوم لا يعود فقط إلى وجود نخبة تتحكم بل إلى نظام كامل يقوم على إخضاع الضعفاء وتدوير الثروة باتجاه القوي ويُعاد إنتاجه يوميًا من خلال منظومات التعليم والإعلام والثقافة والسياسة دون الحاجة إلى غرف سرية أو رموز غامضة فالعالم يُدار على المكشوف ولكن بلغة لا يفهمها من تعوّد على انتظار المؤامرة في الظل بدل أن يرى الهيمنة وهي تمشي أمامه في وضح النهار.
إن الماسونية لم تعد خطرًا بحد ذاتها كما يروّج كثيرون بل أصبحت غطاءً نفسيًا نُسقط عليه فشلنا في فهم منظومة الاستعمار الحديث التي استبدلت البندقية بعقود القروض واستبدلت الاحتلال المباشر بإعادة إنتاج الهويات والقيم وأنماط العيش والاستهلاك بما يضمن استمرار السيطرة على مقدّرات الأمم دون تكلفة تُذكر أما المليار الذهبي فهو ليس كيانا خفيا بل وصف لحقيقة صارخة تتجسد يوميًا في تفاوت العمر المتوقع وفرص التعليم ومستويات الصحة وحقوق الإنسان بين الشمال والجنوب.
إن اختزال هذه المنظومة في رموز أو مصطلحات غامضة يُريح الضمير لكنه لا يُنتج حلولًا ولا يُحرّك وعيًا فالمعركة الحقيقية ليست مع الماسونية ولا مع الغرب وحده بل مع أنظمة التبعية والفساد والتخلف التي تسمح لهذه القوى أن تبقى متفوقة والمواجهة لن تكون فعالة إلا إذا بدأنا بإعادة صياغة خطابنا ووعينا وشروط نهوضنا بمعزل عن الروايات الجاهزة والشعارات المفرغة من الفعل.
في نهاية المطاف العالم لا يُقاد بالسحر بل بالمصالح والقرارات والأنظمة التي نشارك نحن في استنساخها طوعًا أو كرهًا وما لم نُعد النظر في منظومة التفكير ذاتها التي تبحث دائمًا عن المتهم في الخارج فسنبقى ندور في حلقة مفرغة نلوم فيها الأشباح بينما تسرق الأضواء حاضرنا ومستقبلنا.
اخصائية نفسية وتربويه/ الاردن