لماذا لم تتمكن أمريكا من تحطيم الإرادة الصينية؟

لماذا لم تتمكن أمريكا من تحطيم الإرادة الصينية؟

 

حسام المغربي
قد لا يدرك كثيرون أن شاشات هواتفهم، ومحركات السيارات الكهربائية وبطارياتها، وحتى أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي في المستشفيات، تعتمد بشكل أساسي في عملها على عناصر غير مرئية تُستخرج من أعماق الأرض. هذه العناصر، المعروفة باسم “العناصر الأرضية النادرة REEs”، تشكل المفتاح السري للصناعات الحديثة، وتُعد كذلك ساحة خفية لصراع تكنولوجي وإستراتيجي عالمي يتصاعد يوما بعد آخر.
ندرة في القدرة وليست في الوجود
تُعد العناصر الأرضية النادرة أحد أهم مكونات العالم الصناعي الحديث، رغم أنها لا تحظى بالاهتمام الشعبي أو السياسي الذي تناله مصادر الطاقة التقليدية. وعلى عكس تسميتها، فإن هذه العناصر ليست نادرة من حيث التوزيع الجغرافي بقدر ما هي صعبة من حيث الاستخلاص والمعالجة الصناعية. وهنا تكمن المفارقة، فالعالم لا يعاني من نقص في المعادن، بل في القدرة على تكريرها واستخدامها صناعيا. وفي هذا المضمار، حسمت الصين المعركة منذ زمن، وتربعت على عرش لم تأتِه صدفة.
وتحولت “المعادن الحرجة” ـ بما تمتلكه من قدرة عالية على توصيل الحرارة والكهرباء، ومغناطيسية فائقة القوة رغم خفة الوزن، واستقرار حراري وإشعاعي في درجات حرارة مرتفعة، وتفاعل ضوئي يمكن توظيفه في تقنيات الليزر والإضاءة ـ تحولت من مجرد مواد خام صناعية إلى أدوات إستراتيجية في توازنات القوى الدولية، وذلك لارتباطها الوثيق بالأمن القومي، فلا يمكن تطوير أنظمة الدفاع الحديثة أو الذكاء الاصطناعي العسكري دون توفر هذه العناصر، التي قد يسبب استبداها فقدان الكفاءة وزيادة التكلفة. والأخطر، بحسب الولايات المتحدة، هو أن الصين تتصدر المشهد بوصفها الدولة الوحيدة التي تمتلك سلسلة إمداد مكتملة، من التنقيب إلى التكرير، ومن التصنيع إلى التصدير.
لماذا فشلت الولايات المتحدة في كسر الهيمنة الصينية
رغم أن الصين لا تحتكر كل الاحتياطات الجيولوجية للعناصر الأرضية النادرة (تُقدر نسبتها لديها بين 30% و40%)، فإنها تُنتج نحو 70%–90% من الإنتاج العالمي، وتُكرّر أكثر من 85% من الخام عالميا. وما يجعل هذا الأمر غير تقليدي هو أن كثيرا من الدول الأخرى مثل أستراليا والبرازيل وروسيا والولايات المتحدة تمتلك احتياطيات ضخمة، لكنها لا تملك بنية تحتية أو سياسات صناعية تدعم التكرير والتصنيع المحلي. وبالتالي، هيمنة الصين على هذا القطاع ليس بفضل توفر المعادن فقط، بل بفضل قدرتها التقنية والبشرية على معالجتها وتحويلها إلى مواد صناعية عالية القيمة.
وإذا تحدثنا عن الولايات المتحدة، فإن محاولاتها لإعادة بناء منظومتها الصناعية في هذا المجال تصطدم بتحديات عميقة على المستويات الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية وحتى الجيوسياسية. ففي مطلع الألفية، كانت شركة Molycorp تُمثل أمل الولايات المتحدة في استعادة استقلالها في مجال العناصر الأرضية النادرة. وقد امتلكت الشركة منجم مونتن باس (Mountain Pass) على الحدود بين نيفادا وكاليفورنيا. لكن في عام 2015، انهارت الشركة ماليا، بعد انخفاض حاد في الأسعار إلى مستويات دون تكلفة الإنتاج.
ورغم إعادة الحكومة الأميركية النظر في التعامل مع ملف المعادن الأرضية النادرة، من خلال إعادة تشغيل منجم مونتن باس بدعم مباشر من وزارة الدفاع الأميركية، ضمن إستراتيجية “تمويل الإنتاج المحلي للأغراض الدفاعية”، إلا أن التكرير ما يزال يتم في الصين، لعدم وجود بنية تحتية محلية مناسبة، سواء من ناحية التقنية أو الكوادر المتخصصة. ومن هنا يظهر “الاختناق الإستراتيجي”، فالولايات المتحدة تملك الخامات، لكنها لا تملك القدرة الصناعية لتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام التقني.
وأحد التحديات الجوهرية الأخرى التي تعوق النهوض بسلسلة إمداد أميركية متكاملة هو الجانب المالي. إذ تشير التقديرات إلى أن إنشاء منظومة تكرير ومعالجة محلية منافسة يتطلب استثمارا يتجاوز 200 مليار دولار، وقد يصل إلى تريليون دولار إذا أُخذت عوامل الدعم البيئي والتطوير التكنولوجي بعين الاعتبار. هذا بالإضافة إلى أن دورة الاستثمار تصل إلى 15 عاما. وتتفاقم هذه المعادلة بسبب أن هامش الربح في هذا القطاع يقل عن 5%، ما يجعله غير جاذب لرأس المال الخاص.
الرواية الصينية: “نحن لا نحتكر، أنتم من انسحب”
من منظور غربي، تُوصف الصين بأنها المُحتكر الأول للعناصر الأرضية النادرة، وهيمنة بكين على سلاسل التوريد توصف بأنها تهديد للاستقرار الصناعي العالمي. لكن هذه النظرة تغفل عن سردية موازية تبنيها الصين منذ أكثر من عقدين، تستند إلى مقولات مثل “الحق في التنمية” و”عدالة السوق العالمي”.
وتُروَّج في الإعلام الصيني، خاصة الناطق بالإنجليزية، رواية مفادها أن الصين لا تحتكر المعادن، وأن الدول الغربية هي التي تخلت عن تطوير مواردها، وأنها الآن تتطلع للعودة إلى السوق. فالصين تعتبر نفسها “راشدا مسؤولا” مقابل “مراهقة إستراتيجية” غربية. وتؤكد أن سياستها في تصدير المعادن ليست تهديدا، بل تذكير بأن العالم مترابط، وأن الهيمنة من طرف واحد غير ممكنة. وفي سياق آخر، ترى الصين أن المعادن الأرضية النادرة تشكل “ورقة ردع متوازنة” أمام السياسات الأميركية العدوانية في قطاع أشباه الموصلات، وأن تقليص صادراتها هو رسالة تذكير بعدم إمكانية الهيمنة المطلقة.
الدور العربي.. من الهامش إلى قلب الجغرافيا المعدنية
في ظل التنافس الدولي المتصاعد على العناصر الأرضية النادرة، يبرز سؤال محوري: هل يمكن للدول العربية أن تصبح فاعلا مؤثرا في هذه المعادلة الجيوصناعية؟ أم أن دورها سيبقى مقتصرا على استهلاك التقنيات دون التأثير في مدخلاتها الأساسية؟
ما يمنح هذا السؤال أهمية متزايدة هو أن العالم لم يعد يبحث فقط عن مصادر خام، بل عن مناطق مستقرة سياسيا وقادرة على استضافة البنية التحتية التكريرية. وهنا تحديدا، تبدو بعض الدول العربية، خصوصا الخليجية، أمام فرصة إستراتيجية غير مسبوقة.
فقد أطلقت المملكة العربية السعودية خطة وطنية للتعدين، تتضمن دراسات جيولوجية شاملة وإنشاء هيئة مستقلة للمعادن الإستراتيجية، بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع الاقتصاد. أما الإمارات، فهي من أكثر الدول العربية جاهزية لاستضافة منشآت تكرير نظيفة ومتقدمة، بفضل بنيتها التحتية الصناعية الحديثة، وقوانينها المرنة، ووجود مراكز بحثية متطورة مثل “مجمع التكنولوجيا في مصدر” و”جامعة خليفة”. فيما تمتلك مصر إمكانات جيولوجية هائلة، خاصة في الصحراء الشرقية وشبه جزيرة سيناء، حيث تشير الدراسات إلى وجود خامات تحتوي على عناصر مثل اللانثانوم والسيريوم.

خاتمة

في زمن ما بعد العولمة، لم تعد المعارك تُخاض عبر السفن أو الطائرات فقط، بل عبر المعادن والتقنيات الدقيقة. ويكشف الصراع على العناصر الأرضية النادرة عن هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، ويعيد تعريف مفهوم “القوة الجيولوجية”. فالصين لا تحتكر الأرض فقط، بل تحتكر الزمن والقرار والسوق. أما الولايات المتحدة، فهي تحاول تعويض ما فاتها، لكن ببطء وتردد. وفي ظل هذا التنافس المحتدم، تملك الدول العربية، إذا أحسنت التوقيت وبنت الشراكات الصحيحة، فرصة تاريخية لاقتحام “الجغرافيا الخفية” كمنافس ذكي، لا كمجرد تابع، في معركة المعادن الإستراتيجية التي ستحدد ملامح المستقبل التكنولوجي والجيوسياسي.

كاتب مغربي/ الصين