سعاد خليل: اعترافات بشأن المعنى

سعاد خليل
لا يمكن ان نبدأ هذا الحديث قبل ان نحدد بعض المنطلقات الأساسية ، فليس حديث المعني في الشعر مجرد جديت في الحرفة ، وليس الموقف منه مجرد اجتهاد بريء ، ان مسالة المعني تتصل مباشرة بمسالة الوظيفة والجذوي ، فهل نعتبر الشعر طريقا للاكتشاف والمعرفة ، ام نكتفي باتخاذه وسيلة لمتعة لا تستطيع وصفها ؟
لقد كان الفلاسفة هم اول من تكلم ن المعني ، ثم تلاهم النقاد ، فكل كلام عن المعني يفي الشعر لابد ان يكون له رغم خصوصيته ، اصل في الفلسفة ، واذا كان المعني هو الصورة العقلية و النفسية لما نفكر فيه او نحسه ، فهو عند الكلاسيكيين والمثاليين قطرة مصدرها العقل و الروح ، أي انه اصل سابق علي كل تعبير ، اما الفلسفة الحديثة فقد انتقدت هذا المفهوم وعارضته بعكسه ، فقال بل ان الخبرة والتجربة هما طريقنا الي المعني ن فيما من صورة عقلية الا ولها اصل فيما يحيط بنا من أشياء ، وما يربط بين هذه الأشياء من علاقات ،والحقيقة ان هذا المفهوم الحديث اقرب الي عقولنا ، اذا اخذ كمبدأ يفسر اصل المعرف دو مبالغة و تبسيط.
في دراسة طويلة كتبها احمد عبد المعطي حجازي في هذا الخصوص ونظرا لطولها سنجزئها الي جزئين فهي دراسة عميقة ومهمة جدا.
يقول في ال بداية :
لقد انتج الانسان كل معارفه بسعيه وكده، لكنه حفظها في نفسه ، وانتج الاشكال التي تحفظها ذخيرة للأجيال من بعده. ونحن في أي مجتمع نتحرك ونفكر في اطار منظومات من المعارف والتصورات والقوانين والتقاليد ، والقيم الموروثة ، نتمسك بها او نثور عليها ، لكننا في كل الأحوال نبدأ منها ، ومن هذا المنطلق اتحدث عن المعني في الشعر .
المعني في الشعر ليس فطرة او غريزة ، بل هو ثمرة الكتابة وغايتها ، وليست هناك غاية بلا قصد ،هذا القصد له في الشعر طابع عاطفي انفعالي ن بالإضافة الي انه متعلق بموضوع له اصوله وتداعياته وعلاقاته المتشابكة التي تستدعي لكتابة كما تستدعيها لكتابة أيضا فاللغة هي ذاكرتنا الجماعية .
من هنا يكون المعني في الشعر حركة عاقلة متداخلة نامية، تبدا في اللحظة التي نمسك فيها بالقلم . وقد تبدأ قبل ذلك ثم ملا تنتهي الا مع انتهاء القاري ء من قراءة القصيدة التي كتبناها . ومن هنا أيضا توسعي في استعمال الكلمة، فالمعني عندي يشمل الموضوع، وصور الحس والخيال، وعمل الذاكرة واللاوعي، والخبرات والمهارات الثقافية واللغوية وبعبارة مختصرة : يقول احمد عبد المعطي حجازي :
المعني هو كل ما يشارك في خلق المعني من نشاط عقلي وجداني يسعي لا يكون مدركا لذاته ، قابلا لان يدركه الاخرون ، وفي هذه الاعترافات نقف دون تحفظ في صف المعني ضد التيارات الشكلية والعدمية التي تنكر وجوده في لشعر كم تنكر لحاجة اليه ن ومع ذلك فربما بدت شهادتي مرتبكة بعض الشيء وذلك ان مع الفكرة النقدية التي تقول ان المعني لا وجود له قبل القصيدة ، لكن لابد ان للقصيدة ان يسبقها خطر ، او انفعال ، او توتر مشحون بالإيقاع ، وفكرة تراودنا ، صورة ما من صور المعني ،ربما كانت بسيطة او غامضة ، لكنها عرضة قادرة علي التفتح والنمو او واعدة بذلك .
والذين ينكرون وجود المعني السابق علي الكتابة ن ويقولون ان القصيدة تنج معناها انتاجا ولا تترجمه ، يريدون الا يجعلوا المعني المفترض الذي ربما كان يريده الشاعر قبل الكتابة حجة علي القصيدة، فما دمنا غير واثقين من صدق إجابة الشار الذي لا بد ان يعجز هو نفسه عن ان ينقل الينا حقيقة ما كان يصده في لحظة الكتابة خيرا مما نفعل القصيدة التي كتبها بالفعل ، أقول ما دام الامر كذلك فالقصيدة هي الشاهد الاصدق علي معناها ، بل هي الشاهد الوحيد
المعني اذن بالنسبة للقاري لا يوجد بالفعل الا بعد كتابة القصيدة، لكنه بالنسبة للشاعر موجود بالقوة قبل الكتابة ، هذا ما يفسر اندفاع الشاعر للكتابة ، كما يفسر الكتابة ذاتها من حيث هي عمل وحرقة ان الشاعر ، أيا كانت طريقته ، ينشي ، جملا علي نحو معين ، ويتبع ايقاعا ، بشطب عبارة ويضع اخري محلها ، يوزن بين الغناء والسرد ، وبين التظليل والانارة ، يخلق شكلا حيا ، أي نظاما متماسكا في العلاقات يجتهد في صقله ليخلصه من اثار الصنعة حتي يبدو وكأنما انبثق وحده كاملا في تجل مفاجئ
هناك اذن وعي ، وعي مركب معقد يمارس جملة من المهارات في اللحظة ذاتها ، يستحضر مادته الخام من مظانها المختلفة ، ويستدرجها الي مجال الذوق والخبرة يضع الجزء في مكانه الفريد من اللك الذي لم يكتمل الا كمشروع غامض في مخيلة لا تمي بالضرورة حدود طاقاتها ، هذا الوعي لاشك نه يثبت هو الاخر القصد الي كتابة القصيدة ، أي الي تجسيد خاطر او فكرة
صحيح ان بعض التيارات الشعرية الحديثة كافحت ولا تزال تكافح المعني السابق علي الكتابة ، وتدعو الي شعر تلقائي او لا ارادي ، يتدفق وحده كما يحدث في حلم اليقظة او التنويم المغناطيسي بعيدا عن أي قصد او حس أخلاقي و جمالي ، لكن هذه الدعوة نفسها دليل قاطع علي ان الشعراء ظلوا من اول التاريخ الي بدايات هذا القرن ينظمون الشعر استجابة لهذه الدوافق التي تسبق الكتابة ، والتي جاء الرمزيون والسورياليون ليكافحوها ، مع ان هؤلاء لم يكونوا يكافحون كل أنواع المعاني ،بل كان هدفهم تحرير الشعر من القيم الاخلاقية والجمالية السائدة ، وفتح ابوابه علي معطيات لعصر وحقائقه ، وما يختزنه اللاوعي من نوازع وعواطف وأفكار مقموعة مكبوتة ..
ولنفرض ان الشاعر لا يقصد دائما التعبير عن معني، بل اني اقرر ان القصيدة قد تكون في بعض الأحيان استغراقا في الذات او ضلالا خلاقا يبحث فيه الشاعر عن معني لا يجده ،او يكتفي بنشوته لهدية بعيدا عن أي هف اخر لنفرض ان الامر كذلك او لنصدق انه كذلك ، فلن يغير مما قلناه شيئا .
ان عدم وعي الشاعر لقصده ليس دليلا علي انتفاء القصد ن فقد يكون خفيا ملتويا حتي ليخيل للشاعر نفسه انه غير موجود، كما ان انتفاء القصد ليس دليلا علي انتفاء المعني . الشاعر قد يقصد وقد لا يقصد، لكنه في الحالتين يكتب، يخلق قصيدة تحمل بنفسها معناها، اليست تصنع من مادة وظيفتها الاولي هي التعبير والابلاغ. وبعيدا عن المحتو اللغوي ووظيفته المباشرة ن الا تدل الاختيارات الفنية ذاتها على موقف جمالي وفكري له معناه؟ بل ن هناك دلالات وبصمات مباشرة تحملها القصيدة او تضطر الي حملها مما هو خارج عنها وعن إرادة لشاعر الذي نظمها، كالقاري الذي يتلقاها والظروف التي قيلت فيها، والتي تقرأ فيها كذلك.
ان القصيدة بصرف النظر عن قصد الشاعر تقع بمجرد كتابتها في شبكة من المعاني والدلالات لابد لها من التورط فيها والتواطؤ معها، فلماذا تنكر علي الشاعر وهو خالق القصيدة ان يكون متورطا من الأصل؟
نستطيع علي الأقل ان نتفق علي وجود دافع للكتابة، أوحاله عاطفية حبلي يمعني ممكن، يسعي لان يدرك نفسه ويظهر فما هي علاقة هذا المعني الممكن بالمعني المتحقق بالفعل؟
هل تكون القصيدة مجرد ترجمة امينة لمعني مقصود، ام ان الكتابة لابد ان تعيد خلق هذا المعني، وقد تبتعد عنه قليلا او كثيرا؟
لقد سلمنا ان للشاعر قصده الظاهر او الخفي، ينبغي ان نسلم كذلك بان للغة قصد ها ، وبين هذين الطرفين اللذين يسميهما بعض النقاد المعاصرين وعي الذات ، وتقاليد الكتابة ، ينشا الجدل الخلاق.
ان الشاعر يجتهد في ان يكتب قصيدة تنتمي له هو وحده، لكنه يكتبها بلغة تنتمي لكل المتكلمين بها ، لغة لها أصولها وتاريخها وتقاليدها التي صنعتها أجيال الامة جيلا بعد جيل ، والتي لا بد ان تفرض نفسها فرضا علي كل من يستعملها، مهما يكن حظه من قوة الخلق او القدرة علي الخروج والانسلاخ ، وتلك هي الحقيقة التي أدت ببعض الشعراء والنقاد الي التهوين من اثر الفكرة التي دفع الشاعر للكتابة ، فالشعر كما يقول مالارميه في رسالة كتبها الي أصدقائه ، لا يصنع من الأفكار بل من الكلمات .
ليس هناك من ينكر ان الكلمات هي مادة الشعر، سوي ان الكلمات ليست هيا كل صورتيه فارغة، وانما هي مشحونة بالمعني كما يقول ازراباوند ، لكنه معني كامن او طاقة تحتاج الي مفجر ، هذا المفجر هو لنظم او الكتابة ، ولا يمكن ان تتخيل كتابة دون فكرة موجهة هي فكرة الشاعر او قصده الذي لا ينبغي ان نتصوره مستقبلا تماما عن قصد اللغة .
اننا نفكر بالألفاظ او بما يمكن ان يحل محلها ، ليس فقط حين تقصد القول او الكتابة ،ولكن دون قصد لأي تعبير او تحرير ، ان حركة الفكر والخيال لا يمكن ان تتحقق الا بلغة ، هذه اللغة قد تكون مقمرة ، تستخدم فيها نوعا من الايماءات والرموز التي لا تدخل في لغتنا الاصطلاحية ، وذلك حين نسترسل في حلم من الاحم اليقظة او تحاور انفسنا صامتين غير قاصدين ابلاغا او توصيلا هذه اللغة المقمرة قد لا تنتبه لعملها ، لأنه استجابة تلقائية تتم ضمن الية معقدة ، لا نستطيع متابعتها كما لا نستطيع متبعة حلامنا او دورتنا الدموية ، وانما تبدا في اخضاعها لسيطرة الوعي حين نبدأ الكتابة ، و حي ننقصد المخاطبة والابلاغ ، وفي هذه لحالة نكون مضطرين لاستخدام اللغة المتعارف عليها.
نحن اذن نفكر بواسطة الالفاظ، وما دامت الالفاظ مشحونة بالمعاني ، فالفصل بين اللفظ والمعني و بين قصد الشاعر وقصد اللغة يكاد يكون مستحيلا ، الا اذا كان تحليلا هدفه التمييز بين مراحل الانشاء المختلفة ، ومن ذلك حديثي عن القصد والدافع.
أقول نعم ان هناك قصدا يسبق الكتابة ولكنه لا يسبق ا للغة ن سبق الكتابة لانه لم يستقر بعد علي لغة متحققة ، وهو لهذا السبب يسبق المعني : لان القصد اما بعيد جدا فهو غامض او قريب جدا فهو بسيط اما المعني فهو دائما مركب ، ولأنه متحقق في لغة فبالمكان دائما فهمه ، والشاعر يبدا غالبا من القصد ، ثم لا يلبث ان نسحبه تداعياته الي المعني او المعاني ، التي طالما حبسها في قمقمه الخاص الذي هو لا وعيه ، فان هو قارب اللغة التي هي فضاء الجماعة المشترك انطلقت معانيه الحبيسة ترفرف في هذا الفضاء بالرغم منه ، لتعطيه مقابل الحرية قصيدته الملونة.
سنكتفي بهذه الجزء وسنبين في ا لجزء الثاني بعض الاعترافات حول القصد والمعني .